السحر

 

 

السِّحْـر

الخطبة الأولى:

الحمد لله له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي جاهد في الله تعالى من غير توان ولا تقصير, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين اتبعوه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون, وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم يرجعون وسلم تسليماً, أما بعد1:

أيُّها المسلِمون:

فإن من أصولِ القرآنِ والسنَّةِ تحريمُ السِّحرِ وتعلُّمِه وتعليمِه وتعاطيه واستعمالِه، يقول -جلّ وعلا-: محذِّراً من السحرِ ومُقارفَتِه: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}(102) سورة البقرة.

ومَن وَقَعَ في السحر وقَع في شرٍّ عظيمٍ وخُسرانٍ مُبينٍ وضَرَر جَسيمٍ، يقول ربُّنا -جلَّ وعلا-: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}(102) سورة البقرة.

السِّحرُ تَعلُّمًا وتَعلِيماً وتَعاطِياً واستِخدَاماً سَببٌ للطَّردِ مِن رَحمةِ الرّحمنِ الرَّحيم والوُقوعِ في نِقمةِ العَزيزِ الحكيمِ، يقول ربُّنا -جلَّ وعلا-: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً* أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا}(51-52) سورة النساء. قال عُمَر الفاروقُ  : (الجِبتُ هوَ السِّحرُ،والطّاغوتُ هوَ الشّيطانُ).

ممارَسَةُ السحرِ -يا عباد الله- والوقوعُ فيه سببٌ للوقوع في الهلاك العظيمِ، يقول سيِّدُ الخلق   في الحديثِ العظيمِ: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ)،وذكر منها السحر2.

السحرُ عظيمُ الخطَرِ عَلَى الدّينِ، كبيرُ الضَّررِ على عقيدةِ المسلمين، أخرج الطبراني وغيره عن ابن عباس عن النبي    أنه قال: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ وَلا تُطُيِّرَ لَهُ، وَلا تَكَهَّنَ وَلا تُكُهِّنَ لَهُ)3.

أيّها المسلمون:

ومن ابتُلِي بالسِّحرِ في نفسِه فعليهِ التّعلُّق بالله -جلّ وعلا- وحدَه والاعتمادُ عليه في كشفِ الآلام والأسقامِ، فهو الذي إليه وحدَه المفزعُ وإليه الملجأ، فمن توكَّل على اللهِ والتَجَأ إليه بصدقٍ وانقَطَع إلى جنابِه كفاه ووقاه وحفِظَه وحماه.

ثم على من ابتُلِي بشيءٍ من ذلك عليهِ بالرقية الشرعية بما ورَد في كتاب الله وسنّةِ رسول الله   خاصّةً قراءة سورَةِ البقرة كامِلة, وفاتحة الكتابِ والإخلاص والمعوّذَتين والآيات الواردة في السّحر.

أيّها المسلِمون:

حصِّنوا أنفسَكم بالأورادِ المأثورَةِ، فهي حصنٌ حصين وحِرزٌ أمين بإذنِ الحيِّ القيّوم، كأَوراد الصباحِ والمساءِ وأدعيةِ الدّخول والخروج وأدعيةِ النّوم والاستيقاظ، وهي مذكورةٌ في كتبِ الأذكار المبثوثةِ في مكاتبِ المسلِمِين.

والحذَرَ الحذرَ -أخي المسلم- مِن معالجة السحر بسحرِ الساحر أو الذّهاب إلى السحرةِ والمشعوِذِين بزعم حلِّ هذا السحرِ، فذَلِك أمرٌ محرَّمٌ في الدين ومنهِيٌّ عنه عندَ علماء المسلِمين المحقِّقين، روَى جابرٌ   أنَّ النبيَّ   سئل عن النُّشرة فقال: (هُوَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ)4.

وقال ابن القيِّم -رحمه الله-: “النُّشرة حلُّ السحر عن المسحور، وهي نَوعان: حلٌّ بسحر مثلِه، وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يحمَل قول الحسَن، فيتقرَّبُ الناشر والمنتَشِر إلى الشيطان بما يحبُّ، فيبطل عمَلَه عنِ المسحور، والثاني: النشرةُ بالرقية والتعوُّذاتِ والأدويَة والدعوات المباحة، فهذاجائز”5.

أيّها المسلمون:

ومن المحرَّمات في الدين إتيانُ السحرة والمشعوِذين وتصديقُ الكَهَنة والعرّافين والاغترارُ بالرّمَّالين والدّجّالين؛ فعن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: قالَ رَسول الله  : (ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ مُدْمِنُ خَمْرٍ وَقَاطِعُ رَحِمٍ وَمُصَدِّقٌ بِالسِّحْرِ)6.

ورَوَى مسلم عن النبيِّ   أنه قال: (مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)7. فظاهرُ الحديث أنَّ الوعيدَ مرتَّب على مجيئه أي: السّاحر والعرّاف, وسؤالِه، سواء صدَّقَه أو شكَّ في خَبره.

وقد جاء في حديثٍ آخر عن النبيِّ   من حديثِ أبي هريرةَ   أنَّ النبيَّ   قال: (مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ)8. وهو صحيح أيضاً عند المحقِّقين من أهل العلم.

وقد نصَّ أهلُ العلم على أنَّ من يصدِّق الكاهن في علمِ الغيبِ ويعتقِد ذلك وهو يعلَم أنّه لا يعلم الغيبَ إلاّ الله فهو كافِر كُفراً أَكبر مخرجاً عن الملّة؛ لأنّه مكذِّبٌ بالقرآن القطعيّ بأنه لا يعلَم الغيبَ إلاّ علاّم الغيوب.

عباد الله, يا مَن تصدَّرتم للرقيةِ الشرعيّة، اتَّقوا الله -جلّ وعلا- واعلموا أنكم مسؤولون أمامَ الله سبحانه، فإيّاكم وإدخالَ الوهمِ على الناسِ وإيقاعَهم في الوساوس والأوهام؛ بالجزمِ بأنَّ هذا بِه عينٌ، وهذا بِه سِحر، وهذا بِه مسٌّ؛ لمجرَّدِ أعراضٍ عرَضَت أو أمورٍ تُوُهِّمَت، واكتفوا -يا رعاكم الله- بالرقيةِ الشرعيّة من القرآن والسنّةِ، فالقرآن كلُه شفاء كما أخبر بذلك المولى -جلّ وعلا-:{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء}(44) سورة فصلت9.

نسـأل الله بمنه وكرمه أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه, وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه, ونستغفره سبحانه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتنانه، وأشهَد أن لا إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريكَ لَه تعظيماً لشأنه، وأشهَد أنَّ سيِّدنا ونبيَّنا محمّداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانِه، اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه, أما بعد:

فإن السحر من أعظم الكبائر الموبقات, بل هو من نواقض الإسلام كما قال الله ​​​​​​​ في كتابه الكريم: {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَعَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}(102) سورة البقرة.َ

فأخبر سبحانه في هاتين الآيتين أن الشياطين يعلمون الناس السحر، وأنهم كفروا بذلك،وأن الملكين ما يعلمان من أحد حتى يخبراه أن ما يعلمانه كفر وأنهما فتنة.

وأخبر سبحانه أن متعلمي السحر يتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم، وأنهم ليس لهم عند الله من خلاق في الآخرة، والمعنى ليس لهم حظ ولا نصيب من الخير في الآخرة.

وبين سبحانه أن السحرة يفرقون بين المرء وزوجه بهذا السحر، وأنهم لا يضرون أحداً إلا بإذن الله, والمراد بذلك إذنه الكوني القدري لا إذنه الشرعي؛ لأن جميع ما يقع في الوجود يكون بإذنه القدري، ولا يقع في ملكه مالا يريده كوناً وقدراً, وبين سبحانه أن السحر ضد الإيمان والتقوى.

وبهذا كله يعلم أن السحر كفر وضلال وردة عن الإسلام إذا كان من فعله يدعي الإسلام.روى النسائي -رحمه الله- عن أبي هريرة   عن النبي   أنه قال: (من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئاً وكل إليه)10 وهذا يفسر قوله تعالى في سورة الفلق: {وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ}(4) سورة الفلق. قال أهل التفسير: إنهن الساحرات اللاتي يعقدن العقد وينفثن فيها بكلمات شركية, يتقربون بها إلى الشياطين لتنفيذ مرادهم في إيذاء الناس وظلمهم.

وبما ذكرنا يعلم أنه لا يجوز إتيان السحرة وسؤالهم عن شيء ولا تصديقهم كما لا يجوز إتيان العرافين والكهنة11.

أيّها المسلمون:

إن مما افتتن به بعضُ الجهَلةِ ما يحصل في بعض الصّحُف والمجلاّت ووسائل الإعلام ما يُعرف بالطّالِع أو النّجم، ثم اعتقاد أن هذا من أسبابِ الوقائع والحوادِثِ، ورسولُنا  قد حذَّر من ذلكَ أشدَّ الحذَر، ونهى عنه النّهيَ الكبير، فمِن ذلك ما وَرَد عن ابنِ عبّاس -رضي الله عنهما- قالَ: قالَ رَسولُ الله  : (مَن اقتَبَسَ شعبةً من النجوم فقد اقتَبَسَ شعبةً من السحر، زاد ما زاد)والحديث صحّحه النوويّ والطبرانيّ والذهبي.

وعلم النجومِ عند أهلِ العِلم المحقِّقين علمان:

علم يعرَف به سَيرُها ومَدارها ومنازِلها وأبعادُها وأحجامُها، وهذا هو عِلم الفَلَك، لا بأسَ بتعلُّمه والعمل به، ممّا يسمَّى عند أهل العلمِ بعلمِ التَّسيير، وهو ما يُستَدَلّ به على الجهات والأوقاتِ، فهَذَا جائِزٌ.

وعِلمٌ وهو النَّوعُ الثّاني يُعرَف بالعِلمِ الرّوحَانيّ، يَزعمون به كذِبًا أنه معرِفَةُ روحانيّة النجوم والكواكِبِ وتأثيرها في الأرض ومَن عليها بالأمراضِ والحروبِ والضِّيق والسَّعَة والسعادة والشقاوة عند اقتِران كذا من النّجوم والكواكب بكذا، ولهم في ذلك ما يسمّونَه بالطالع، يعمَلونَ جَداولَ بالحوادِث التي ستحدُث من حوادثَ عامّة وخاصة، وهذا النوع من السِّحر المحرَّم ومِن استخدام الشياطين والقول على الله بلا علمٍ من علم التنجيم المحرَّم، ومَن اعتقد أنّ هذه النجومَ هي المدبِّرة للأمور أو أنَّ لها شِركًا مع الله جلّ وعلا فذلك كفرٌ مخرِج عن الملّة والعياذ بالله12.

هذا وصلى الله وسلم على عبده الأمين, الذي أمر الله بالصلاة والسلام عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}(56) سورة الأحزاب.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين, وأذل الشرك والمشركين, واحم حوزة الدين, واخذل أعدائك أعداء الدين من الكفرة والمشركين, والملحدين والسحرة والمشعوذين, سبحان ربك رب العزة عما يصفون, وسلام على المرسلين, والحمد لله رب العالمين.


 


1 من مقدمات الضياء اللامع من الخطب الجوامع لـ(ابن عثيمين).

2 رواه البخاري برقم (2560) (ج 9 / ص 315) ومسلم برقم (129) (ج 1 / ص 244).

3 رواه الطبراني في الكبير برقم (14770) (ج 13 / ص 50) وصححه الألباني برقم (5435) في صحيح الجامع.

4 رواه أبو داود برقم (3370) (ج 10 / ص 363) وأحمد برقم (13621) (ج 28 / ص 170) وصححه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (4553).

5 القول السديد شرح كتاب التوحيد للإمام محمد بن عبد الوهاب (ج 1 / ص 104)

6 رواه أحمد برقم (18748) (ج 40 / ص 65) وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (2539) صحيح لغيره.

7 رواه مسلم برقم (4137) (ج 11 / ص 273).

8 رواه أحمد برقم (9171) (ج 19 / ص 214)

9 من خطب المسجد النبوي نقلاً عن موقع المنبر.

10 رواه النسائي والطبراني وضعفه الألباني.

11 مقال للشيخ ابن باز رحمه الله تعالى, نقلاً عن موقع المختار الإسلامي.

12 من خطب المسجد النبوي نقلاً عن موقع المنبر.