وغفلنا عن القبر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد:
فإن القبر أول منازل الآخرة، وهو بيت الظلمة، والوحدة، والوحشة، والدود.
فإن نجى منه العبد فما بعده أسهل، ولقد أخبرنا الرسول-صلى الله عليه وسلم- عن عذاب القبر ونعيمه، فقال عليه الصلاة والسلام-: (إن القبر أول منزل من منازل الآخرة فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه) قال -أي عثمان رضي الله عنه-: وقال رسول الله -صلى اللهم عليه وسلم-: (ما رأيت منظراً قط إلا القبر أفظع منه)1 ولقد غفلنا عن القبر وظلمته ووحشته، والرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أخبرنا بظلمة القبر الدائمة حين قال-: (إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله -عز وجل- ينورها بصلاتي عليهم).2
تنبه قبل الموت إن كنت تعــقلُ فعما قريب للمقابر تحمـــلُ
وتمسي رهيناً في القبور وتنــثني لدى جدث تحت الثرى تتجندلُ
فريداً وحــيداً في التراب, وإنما قرين الفتى في القبر ما كان يعملُ
وعن البراء بن عازب -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا أُقعد المؤمن في قبره أُتيَ، ثم شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله فذلك قوله:{يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} (27) سورة إبراهيم، قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة بهذا وزاد:{يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ} نزلت في عذاب القبر"3
وعن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لولا أن لا تدفنوا لدعوت الله أن يسمعكم عذاب القبر)4.
فالواجب على المسلم أن يستعيذ بالله تعالى من عذاب القبر، وأن يستعد بالأعمال الصالحة قبل الدخول فيه، وهناك أسباب توجب عذاب القبر، وهي كثيرة منها النميمة وعدم الإستبراء من البول… قال ابن القيم -رحمه الله-:" إن أهل القبور يعذبون على جهلهم بالله، وإضاعتهم لأمره، وارتكابهم لمعاصيه، فإن عذاب القبر وعذاب الآخرة أثر غضب الله وسخطه على عبده، فعذاب القبر يكون على معاصي القلب، والعين، والأذن، والفم، واللسان، والبطن، والفرج، واليد،، والرجل، والبدن كله، فمن أغضب الله وأسخطه في هذه الدار ثم لم يتب ومات على ذلك، كان له من عذاب البرزخ بقدر غضب الله وسخطه عليه، فمستقل ومستكثر، ومصدق ومكذب".
وقال -رحمه الله- بعد ذكر أنواع كثيرة من المحرمات التي يعذب بها الموتى في قبورهم: "ولما كان أكثر الناس كذلك كان أكثر أصحاب القبور معذبين والفائز منهم قليل فظواهر القبور تراب وبواطنها حسرات وعذاب، ظواهرها بالتراب والحجارة المنقوشة مبنيات، وفي باطنها الدواهي والبليات، تغلي بالحسرات كما تغلي القدور بما فيها، ويحق لها، وقد حيل بينها وبين شهواتها وأمانيها، تالله لقد وَعَظَتْ فما تركت لواعظ مقالاً، ونادت يا عمار الدنيا لقد عمرتم داراً موشكة بكم زوالاً، وخربتم داراً أنتم مسرعون إليها انتقالاً عمرتم بيوتاً لغيركم منافعها وسكناها، وخربتم بيوتاً ليس لكم مساكن سواها، هذه دار الاستباق، ومستودع الأعمال، وبذر الزرع، وهذه محل للعبر رياض من رياض الجنة أو حفر من حفر النار"5.
وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ من عذاب القبر دبر كل صلاة ففي الحديث الذي روته أم المؤمنين عائشة: (اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار وعذاب النار وفتنة القبر وعذاب القبر).6
وعن البراء رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه و سلم- في جنازة، فجلس على شفير القبر، فبكى وأبكى، حتى بل الثرى، ثم قال: (يا إخواني لمثل هذا فأعدوا).7
نعم أيها الإخوة: فلنعد للقبر وأهواله عملاً صالحاً ولنتب إلى الله تعالى من المعاصي قبل فوات الأوان.. فإنه والله لا ينجينا إلا ذلك.
نسأل الله أن يثبتنا بالقول الثابت، وأن ينجينا من فتنة القبر.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
1 – سنن الترمذي – (ج 8 / ص 280 – 2230) وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب – (ج 3 / ص 216- 3550)
2 – صحيح مسلم – (ج 5 / ص 59 – 1588)
3 – صحيح البخاري – (ج 5 / ص 160 – 1280) وصحيح مسلم – (ج 14 / ص 33 – 5117)
4 – صحيح مسلم – (ج 14 / ص 28 – 5112)
5 – الروح جزء 1 – صفحة 77-79
6 – صحيح البخاري – (ج 19 / ص 475 – 5900) وصحيح مسلم – (ج 13 / ص 225 – 4877)
7 – سنن ابن ماجه – (ج 12 / ص 235 – 4185) وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب- (ج 3 / ص 164- 3338)