ابن جبرين حياة عالم

ابن جبرين حياة عالم

محمد صالح المنجد

 

 

عناصر الموضوع :

1.    فضل العلماء وعظم أثر موتهم على الأمة.

2.    نشأة الشيخ ابن جبرين وطلبه للعلم وشيوخه.

3 حياته وزهده في الدنيا.

4.    قوة حفظه وجلده في الدعوة إلى الله ونشر العلم.

5.   جنائز أهل العلم.

 

فضل العلماء وعظم أثر موتهم على الأمة

الحمد لله أحمده وأستعينه وأستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

الحمد لله الذي جعل في كل زمان بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويحيون بكتاب الله الموتى، وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجهالة والردى، فكم لإبليس من قتيل قد أحيوه، وكم من ضال تائهٍ قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الجُهَّال عليهم، ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، فهم منارات الأرض، وورثة الأنبياء، وخيار الناس، ودعاة الحق، وأنصار الدين، يهدون الناس إلى معرفة الله وطاعته، ويبينون أحكامه وشريعته، ويوجهون العباد إلى الخير والصلاح، يستغفر لهم من في السماوات ومن في الأرض، ولا عجب أن يخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن استغفار أكبر المخلوقات في البحر – الحوت-، وأصغرها في البر – النمل-، فالحوت في البحر والنمل في الجحر يستغفرون لأهل العلم، فما بالك بما بينهما من الدواب من الأحجام الأخرى، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، تظافرت الآيات والأحاديث بفضل العلماء، {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}سورة المجادلة (11)، {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} سورة الزمر (9).

هم أهل خشية الله حقاً، {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}سورة فاطر (28).

أشهدهم الله على أعظم حقيقة وهي التوحيد، {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ} سورة آل عمران (18)، هم الذين بينوا للناس الحلال والحرام، فهم كالنجوم في السماء، وكالدواء للداء، وكالضياء في الظلماء، سبب السعادة، وأهل الشهادة، فهم شهداء؛ لأنهم يشهدون لله بالوحدانية، ويشهدون كذلك بشرعه وأحكامه، منار سبيل الجنان، وأقرب الناس إلى الدَّيان، وأعدا أعداء الشيطان؛ لأنه لا يستطيع أن يلبس عليهم.

هم في الخير قادة، وفي الهدى سادة، يقتدى بأفعالهم، وتتبع أقوالهم، وتقتص آثارهم، وترغب الملائكة في مجالسهم، وبأجنحتها تحفهم، وكل رطبٍ ويابسٍ يستغفر لهم، فكفى بذلك شرفاً وفخراً.

ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم      على الهدى لمن استهدى أدلاء

وقدر كل امرئ ما كان يحسنه     وللرجال على الأفعال أسماء

وضد كل امرئ ما كان يجهله      والجاهلون لأهل العلم أعداء

فقم بعلم ولا تطلب به بـدلاً     فالناس موتى وأهل العلم أحياء

موت العالم ثُلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار.

قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ}سورة الرعد (41) ، فما معنى ننقصها من أطرافها؟

ذهب ابن عباس وغيره من علماء السلف والتفسير إلى أن معنى ذلك ذهاب علماءها وفقهائها وخيار أهلها، وهذا أحسن ما قيل في تفسير الآية، حتى قال ابن عبد البر: "تلقاه أهل العلم بالقبول" أي: هذا القول.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوسا جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)) رواه البخاري رحمه الله برقم (100).

عباد الله: لقد فجعت الأمة والعالم الإسلامي بموت حبر من أحبار الإسلام، وذهاب عالم من علمائه، وهو الشيخ عبد الله بن جبرين، رحمه الله رحمة واسعة.

هذا العَلَم الذي شرح الكتب، وكان مفسِّراً وفقيهاً محدثاً ومربياً عظيماً، وعالماً جليلاً، وأباً حانياً، ونحوياً، وأديباً، وقدوة وإماماً كبيراً.

الذي بذل حياته في العلم، محتسباً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ذاباً عن السنة، خصماً لأهل البدعة، نفع الله به نفع الغيث وأشد، وعِلْمُه في الآفاق، وتتلمذ على يديه وتخرج من تخرج من أهل العلم والفقه والقضاء، وقد دفن بوفاته علم غزير.

قال عمر بن أبي عمار: "لما مات زيد بن ثابت رضي الله عنه جلسنا إلى ابن عباس في ظل، فقال: هذا ذهاب العلماء، دفن اليوم علم كثير".

ولا شك أن أفئدة المؤمنين تحزن لرحيل الشيخ وأمثاله من الأعلام الكبار الذين مضوا من قبله أيضاً، فالعين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا أيها الشيخ لمحزونون.

لم يكن فقيد أسرة ولا قرية، ولا مدينة ولا قطر ولا إقليم، ولكنه فقيد للأمة بأسرها

فما كان قيس هلكُه هلك واحد   ولكــنه بنيـان قوم تهــدما

رحل وقد قارب الثمانين، في حياة قضاها في العلم والتعليم والدعوة والعبادة، جلس للتدريس عشرات السنين، ودوّن المؤلفات النافعة، وتولى الإفتاء، وظهرت صنائع المعروف على يديه، يعود مريضاً، ويصلي على جنازة، ويشيِّع، وهكذا يجيب الدعوة لم يكن له حجابون ولا بوابون، كان سهل الاقتحام رحمه الله، يسعى في قضاء الحاجات، ولا يجد فقيراً في مكان إلا أعطاه شيئاً

أهــكذا البـدر تُخفي نوره الحفـر            ويفـقد العلم لا عين ولا أثر

خبت مصـابيح كنا نستـضيء بهـا                 وطوحت للمغيب الأنجم الزُّهر

واستحكمت غربة الإسلام وانكسفت                شمس العلوم التي يهدى بها البشر

لئن رحل جثمانه فإنَّ علمه باق في هذه الدروس المسجَّلة، والكتب المشروحة، والفتاوى الممهورة .

موت التقي حياة لا انقطاع لها     قد مات قوم وهم في الناس أحياء

ورحل قومُ وبقيت آثارهم وتصانيفُ العالمِ أولاده المخلدون.

 

نشأة الشيخ ابن جبرين وطلبه للعلم وشيوخه

إن العالم يا عباد الله لا يوجد من فراغ، ولا ينزل العلم فجأة في قلب إنسان، لقد ولد الشيخ في بيت علم وفضل، فكان أبوه وجده وأبو جده من حفظة كتاب الله، وجده الأكبر (حَـمَدْ) كان له مكانة وسعة في العلم ومخطوطات أورثت الشيخ حافزاً تاريخياً وإرثاً عائلياً في العلم.

وقرأ على أبيه بعض كتبٍ في العلوم، في الفرائض والنحو، وأحاديث الأحكام، وحفظ على يديه اثني عشر جزءاً من القرآن الكريم، بعد أن تعلم منه ومن عمَّه القراءة والكتابة، كان والده صاحب دين، وأخبرني بأنه قام فجأة قبل الفجر ليجد أباه في آخر سورة آل عمران، فتعجب كيف قطع البقرة وآل عمران في هذا الوقت القصير نسبياً، وكان أبوه يقوم ساعتين، ويقيم أولاده قبل الفجر بنصف ساعة على الأقل لينالوا نصيبهم من الليل، وعندما بلغ سن السابعة عشر طلب من قاضي البلد الشيخ أبي حبيب عبد العزيز الشثري رحمه الله أن يقرأ عليه، فاشترط عليه أن يتم القرآن، وهكذا كان شرط بعض أهل العلم حتى في وقت الشيخ وقبله، كالشيخ سليمان بن سحمان، وعبد الله بن عبد اللطيف، ومحمد بن عبد اللطيف، وسعد بن عتيق أن لا يبدأ طالب بالقراءة على الشيخ إلا بعد حفظ القرآن.

حفظ القرآن رأس العلم، {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } (49) سورة العنكبوت ، فكان هذا الشرط سبباً في حماس الشيخ ليندفع في حفظ الثمانية عشر جزءاً الباقية في نحو من سبعة أشهر فقط، يذاكر مع أقرانه، ولو غاب الشيخ فهو يدارسهم.

قال: (مما تدارسناه مقدمة الجواب الكافي في آداب الدعاء وشروطه، وفوائده وثمراته) وهكذا مدارسة طلبة العلم، ليست مقتصرة على حشو المعلومات في الأذهان فقط، وإنما أيضاً إحياء القلوب بما يسيرها إلى علام الغيوب، ويقول رحمه الله: (الطالب الذي لا يجلس مع من ينافسه ويسابقه يغلب عليه التكاسل والتثاقل وعدم الاهتمام، فإذا كان معه من يتنافس ويسابق إلى الله – {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} سورة المطففين (26– قال: تنبعث همته وتقوى عزيمته، وينشط في البحث والقراءة)، وهكذا بقي يقرأ على الشيخ المطولات، فأنهى تفسير الطبري، وأكثر تفسير ابن كثير، والبداية والنهاية، وشرح الرحبية، والصحيحين بشروحهما، وعمدة القاري، وكتباً كثيرة أنهاها في سبع سنين على الشيخ.

كان مُجّداً في طلب العلم، يقرأ من بعد الفجر إلى ارتفاع الشمس، وقبل الظهر، وأيضاً بعد العصر، وبعد المغرب، كتب السنة، وهكذا الكتب الجامعة بين الحديث والفقه، فأنهى على شيخه الصحيحين، ومختصر سنن أبي داود، وجامع العلوم والحكم، وسبل السلام، والآداب الشرعية لابن مفلح، وشرح الزاد، ومتون أخرى كثيرة جداً.

ومما أبكى الشيخ عبد الله مرة أن المطر نزل على بيته الذي كان يسكن فيه من طين وسقفه من خشب، فأغرق أوراقاً كان الشيخ قد كتبها من شروح شيوخه، ثم امتن الله باستنقاذ أكثرها، كان رحمه الله متنوع المشارب، فكان يمشي من بلدته إلى بلدة أخرى فيها شيخه صالح بن مطلق نحواً من سبعة كيلو على قدميه، ليكون من الصباح إلى المساء عند الشيخ ثم يعود إلى قريته، وأحياناً يبيت عند شيخه ليعود في اليوم التالي، هكذا مشياً على الأقدام، كوكبة أهل العلم وشيخه هذا كان يحفظ ما يزيد على خمسين ألف بيت من الأشعار والمقامات، وكان ضرير البصر سافر معه الشيخ عبد الله للحج مرتين، وقد سافر الشيخ عبد الله على الدواب أيضاً، وسافر بالسيارة في أول قدومها فمكثوا خمسة أيام في الذهاب، وثلاثة في العودة، وحج مع شيخه الضرير فكان ذلك العالم الضرير يوقفهم على المناسك وهو ضرير، ويشرحها لهم، ويصفها لهم بأبعادها وهيئتها، ويصعدهم الصفا ويذكرهم بدعاء الصعود، وفوقه يستقبلون البيت، ويذكرهم بدعاء الصفا.

كان التعليم عملياً، وهكذا تلقى التلاميذ من شيوخهم، وهكذا التعليم في الإسلام.

ركب صندوق سيارة وتحمل المشاق، ولما جاء شيخه أبو حبيب إلى الرياض جاء معه، ونزلوا في ضيافة للشيخ جلسوا فيها مدة فلما ازدحمت آثر هو ورفيق له أن يستأجرا غرفة لينتقلا إليها حتى لا ينقطع من المذاكرة والمدارسة بسبب كثرة الزوار، ولا تشغلهم الزيارات عن طلب العلم.

حضر في الرياض على العلماء الكبار، ودرس على محمد بن إبراهيم رحمه الله : الروض المربع، وبلوغ المرام، وفتح المجيد، وكتاب الإيمان، والواسطية والحموية وغيرها كثير، وتنوعت مشارب شيوخه، فهذا إسماعيل الأنصاري الإفريقي، ومحمد البيحاني الحضرمي، وابن عمار الجزائري، وعبد الرزاق عفيفي المصري، ومحمد الأمين الموريتاني الشنقيطي، وهكذا في كوكبة من أهل العلم درس عليهم.

وحضر مجلساً ليتنا حضرنا فيه، ولو أنَّا أَعْطَينا الدنيا بما فيها، قال لي: (رأى شيخنا أبو حبيب عبد العزيز الشثري رحمه الله أن يستزير العلماء في بيته في درس مرتب، فاستضاف الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ عبد الرزاق عفيفي، وأمرني، – يقول الشيخ عبد الله- : أن أقرأ من صحيح البخاري، فكانوا يعلقون فهؤلاء الكبار يعلقون، وهذا الشيخ الكبير يقرأ أيضاً، فما بالك بدرس هؤلاء حضوره ورواده.

عباد الله لم يكن الشيخ ممن يقبع في البيت ويمكث مع الكتب أبداً، لم يكن هذا ديدنه فقط، بل كان يسعى في نشر العلم بكل سبيل، وكان في رحلة للمناطق الشمالية بتكليف من الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله مع شيخه أبي حبيب ثلاثة أشهر ونصف ابتداءً من أرماح إلى الحدود الشمالية، وحفر الباطن، والقيصومه، وحدود العراق إلى حدود الأردن، وطريف، إلى حقل وحدود الساحل الغربي رجوعاً إلى المدينة وخيبر والعلا وتبوك ونحو ذلك وهكذا إلى الرياض، ثلاثة أشهر ونصف لتفقيه البادية وتعليم الناس في تلك المناطق أمور دينهم، ولا أعرف في هذا الزمان عالماً رحل في التدريس وإقامة الدورات العلمية، ودخل القرى والهجر والبلدات كالشيخ عبد الله بن جبرين رحمه الله، ولا أعرف كذلك شيخاً شرح عدداً كبيراً من الكتب في أسبوعٍ واحد، نحواً من سبع وستين كتاباً، وأحياناً أربعة وخمسين كتاباً في الأسبوع الواحد، وهكذا يُقرأ من كل كتاب ويكون فيه شرحٌ، وكتب اليوم لا تجدها غداً، وغداً لا تجدها بعد غدٍ وهكذا ، هكذا يورث العلم من الشيوخ، وهكذا ينشر وهكذا تكون الإفادة ويكون النفع، ليس العالم كبئرٍ من جاء دلَّ واستقى، وإنما هو كغيث يمرُّ فينفع البلاد والعباد، يؤتى ويأتي ليس كالبئر فقط، وإنما هو كالسحابة أيضا.

 وحضر عند الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله من سنة خمس وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة إلى سنة ثمانين في بيته، في الدروس، في تصحيح فتح الباري، هذا أحد المهام على أربع نسخ تقابل في طبعات متفرقة، ونسخ خطية، هذا يقول عندي فارق كلمة، وهذا يقول عندي نقص، وهذا يقول عندي زيادة، وهذا يقول عندي اختلاف، هكذا تصحح النسخ فوثق به الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، فأوكل إليه إمامة الناس في الجامع الكبير، وكان يحيل إليه بعض مسائل الفرائض المستعصية، فكان الشيخ عبد الله بن جبرين رحمه الله يَحُلَّها، لأنه كان قد تخصص في الفرائض على شيخه عبد العزيز بن ناصر بن رشيد أربع سنين يدرس عليه.

حياته وزهده في الدنيا

 لم يكن الشيخ من جماعي الأموال، ولا من الطامعين في الدنيا، ولا من المتاجرين والمشغولين بالصفق في الأسواق، ولذلك عاش في كفاف، قلت له هل كان أبوكم يضع لكم جوائز للحفظ؟ قال: من أين ؟ لم يكن عندنا شيء، خمسين صاع بر للسنة كلها، هذا ما لدينا، ولمَّا تزوج في عام واحد وسبعين وثلاثمائة وألف ما استطاع أن يأتي بزوجته إلى الرياض إلا في عام سبعة وسبعين، سكن بيتاً من طينٍ وخشبٍ سبعة عشر عاماً، وبنى بيته الذي مات وهو فيه بقرضٍ من الصندوق العقاري، التفرغ للعلم يعني التضحية، العلم كثيرٌ إن أعطيته كلك أعطاك بعضه، وهؤلاء العلماء يسهرون يطالعون يقرؤون يحفظون، يُدرّسون، ويدرسون، يراجعون يعملون يربون ينسخون يكتبون يفتون وبالهاتف يجيبون، وإذا دخلت إلى مكتبه في الإفتاء فيرفع سماعة والأخرى على الطاولة، وأمامه من يسأله، وعلى الطاولة أوراق يكتب فيها فتاوى، وطالب يقرأ عليه إذا وجد فرصة، مواصلة، تعب، دأب، انتقال، سفر، بركة في الحضر، ونفع في السفر، وهكذا حتى صلة الرحم، والإحسان إلى الجيران، والعناية بالفقراء والمساكين، والشفاعات وهو أبو الشفاعات، وفي مجلسه في بيته يعقد نكاحاً، يكتب في مسألة، يستقبل ضيوفاً، يُقرأ عليه، والهاتف يعمل، والعمل متواصل، والبذل، فما حال هؤلاء الذين يقال لهم اليوم ماذا تفعلون في الإجازة الصيفية يقولون: نوم في النهار، سهر في الليل، سوني استيشن، ما سنجر، انترنت قنوات، وأحسنهم الذي يتفرج على المباريات، فضلاً عن الذين يشاهدون الأشياء الأخرى، إن الله خلق للمراتب العليا في الجنة أهلاً يصطفي الله من يشاء من عباده، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة، وحفت الجنة بالمكاره، الجنة تحتاج إلى تعب، الجنة تحتاج إلى نصب، تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا، وهكذا أمة يقضون بالحق وبه يعدلون، وهكذا {أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ}سورة الأعراف (165) ، وهكذا {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}سورة آل عمران (110) ، وهكذا {يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ}سورة آل عمران(104) ، وهكذا {قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ}سورة الزمر (9)، وهكذا {يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} سورة الأنبياء (90) ، وهكذا يسارعون إلى مغفرة من ربهم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت لمن؟ للمتقين، {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ*وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} سورة آل عمران (134- 135).

عباد الله:  خلق الله للجنة أهلاً وخلق للنار أهلاً، وجعل الجنة درجات وجعل جهنم دركات، وقال لهؤلاء سارعوا إلى وسابقوا وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، وهؤلاء يُمَنِّيْ نفسَه الأماني ويتبعها هواها، خاب من دساها، {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً}سورة الجاثية (23)، {الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ}سورة الماعون (5)، {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إلاَّ مَنْ تَاْبَ}سورة مريم (59-60)، لقد رأينا والله تواضع الشيخ، {يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}سورة الفرقان (63)، لا يعرف له عداوات ولا خصومات ولا مشاحنات، في غاية اللين، في غاية اللطف، في غاية التواضع، ليست غلظته إلا على أهل البدع فهم خصومه الذين فرحوا بموته، اللهم إنا نسألك أن تنزل رحماتك عليه، وأن تلحقنا وإياه بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، وارزقنا جنات النعيم وأورثنا الفردوس الأعلى يا أرحم الراحمين، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق بشيراً ونذيراً، بين يدي الساعة داعياً إليه بإذنه وسراجاً منيراً، أشهد أن لا إله إلا الله الحي القيوم يصطفي من خلقه من يشاء من الأنبياء، ويجتبي من يسير على نهجهم من العلماء، ويرفعهم درجات كيف شاء، سبحانه وتعالى لا إله إلا هو وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو العليم علام الغيوب، علَّم بالقلم، علَّم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على النبي الأكرم أشهد أنه رسول الله حقَّا، والداعي إلى سبيله صدقا،إمام العلماء والمتقين وقائد الغر المحجلين، والشافع المشفَّع يوم الدين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وذريته الطيبين، وأزواجه وخلفائه الميامين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

قوة حفظه وجلده في الدعوة إلى الله ونشر العلم

عباد الله: عندما ترى غزارة العلم، عندما ترى الحفظ العجيب الذي يطعن فيه اليوم أهل النفاق، فلا يريدون أن يحفظ الطلاب في صدورهم كتاب ربهم ولا أحاديث نبيهم صلى الله عليه وسلم، والحفظ أساس العلم وأساس الفهم وأساس الاستدلال، والعُدَّة للخطباء والكُتَّاب وأهل العلم النجباء، هكذا ترى العالم في حفظه العجيب، وسرده المهيب، ترى الشيخ عبد الله في شروح كتبه، وعلمه في شروحه أكثر مما تراه في فتاويه، وبعض الناس لا يعرف إلا نزراً من فتاوى الشيخ، وعلمه في شروح كتبه، فيستدل بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم، من المتقدمين والمتأخرين والفقهاء والمحدثين والأثر والنظر ومن أقوال السلف ومن المتأخرين من الخلف، وهكذا يورد ويسرد يدلل، ويناظر ويحج … وهكذا يبين كما أمر الله أهل العلم، لتبيننه للناس ولا تكتمونه.

 ومنهم اليوم من هؤلاء الذين برزوا على الناس يستحي الواحد أن يقول عن مسألة حرمها الله حرام، لأنه يرى أن الجماهيرية والشعبية تتنافى مع التحريم، وأنه إذا أراد أن يزداد شعبية على القنوات فعليه أن يتجنب كلمة حرام ولا يجوز، فيميعون الدين، ويخبطون خبط عشواء في شريعة رب العالمين، ويريدون استرضاء فلان وعلان، ودغدغة مشاعر المشاهدين، فأين العهد الذي أخذه الله عليهم لتبيينه للناس ولا تكتمونه، وهؤلاء الذين يخفون ويحاولون التدليس والتلبيس والتملص والخلط هؤلاء حجتهم داحضة عند ربهم، لأن الله أمرهم بالبيان وليس بالإخفاء والإغماض.

 عباد الله: هذا الشيخ الذي قارب على الثمانين وهو يطوف في البلاد، لا يكاد يدع قرية أو بلدة إلا دخلها، ودخل معها علمه، فعقد المجالس، وشرح الكتب، وزار القضاة، وأهل العلم والوجهاء، وأجاب الدعوة، وذكّر في المجالس، يسأله الكبير والصغير، عفيفاً فتسأله النساء، وكان رحمه الله تعالى على ما أعطاه الله من هذه الذاكرة وهذا العلم والفهم متواضعاً ينقل عن بعض طلابه مسائل، ويسمع بعض أشرطتهم في الأسفار وهو معلمهم.

مات الحبيب وغاب النجم والقمر      واستفحل الخطب فينا وانطوى الأثر

بمـوت شمس الهدي محيي شريعته      بالعلم والفهم والتفسـير يشتـهـر

يا ابن جبرين لا غابت مآثـركـم     طابت مساعيك وازدانت بك السير

                     بـحر العلوم وسمَْت الصالحين به      كأنه البدر في الظـلماء ينـتـشـر

مات الإمام وماتت بعده حـكـم     فمن لها بعدكم للحـق ينتــصـر

لَكَمْ نبشتم علوماً في أكنتــهـا     ظلت زمـانا على الأفهام تتستــر

أحييتم سنن الهادي وسيــرتـه       ورثـتـم العلم لمـا كـاد ينـدثـر

كم قام في الليلة الظلماء مبتهـلاً      والناس في لهوها تلهو وتفـتخــر

ما زال يفتي ويلقي كل موعظـة      حتى دنى الموت والأنفاس تحتضـر

يا لائمي في هوى المحبوب معذرةً       فالعين تبكي أساً والقلب يعتصــر

في كل يوم مضى شيخاً نودعـه        فهل لنا في مـدى الأيـام معتبــر

                    هي المنية من يبقى ستــأخـذه       وهذ الدار لا تبــقي ولا تــذر

                   هي المنية قد حلت بساحتـنا              إذا دنت بغتـة لا ينـفع الحـذر

                    يا شيخنا يا إمام العصر يا علماً            بفقدكم دمعة المشتاق تنهمر

                 قد عشت سمحاً عفيف النفس مبتهجاً        فأرحل حميداً فإن الأجر ينتظر

إن شاء الله، وهذا الرجاء في رب العالمين، أن يرفعه فوق كثير من عباده يوم الدين، وأن يغفر له ويرحمه رحمةً واسعة، إنه هو الغفور الرحيم.

 

جنائز أهل العلم

بيننا وبينهم يوم الجنائز، هكذا كانت عبارة الإمام أحمد وغيره من أهل العلم، وأهل السنة، وأئمة الهدى، بيننا وبينهم يوم الجنائز، فحضر في جنازة بعض المبتدعة عدد على الأصابع، وجنازة الإمام أحمد صُلِّي عليه حتى في أسطحة السفن في نهر دجلة لأن البر لم يعد يتسع، وصُلِّي على شيخ الإسلام رحمه الله في الطرقات، والحوانيت، وأسطح البيوت، وهكذا ترى جنائز أهل العلم العجيبة، كالشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، والشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله، وهكذا جنازة الشيخ عبد الله بن جبرين كانت جنازة مشهودة حقا، ولما غسل في مغسلة الدريهمية ودخل الناس أفواجاً يودعونه ويقبلونه، ثم أخذ إلى المسجد الجامع الكبير بالرياض، امتلأ الجامع الكبير بساحاته، وأغلقت البوابات قبل الظهر، وامتلأت الساحات الخارجية، وامتدت الصفوف إلى مواقف الأسواق المجاورة، وأوقف المشيعون سياراتهم على جوانب الطرق السريعة، يقول أحد المعلقين على الأخبار في الشبكة أنا لست بمتدين، ولكن مشيت في جنازة هذا الإنسان سبعة كيلو لأن محبة الشيخ في القلب كانت أكبر من شمس الظهيرة، فنسخت هذه هذه، وتحمَّل الناس الحرَّ واللأواء والشدة في المشي إلى المقبرة التي ازدحمت وفي الناس من أهل البلد، ومن المقيمين، ومن دول الخليج، ومن العرب، ومن الأعاجم، وأكثرهم شباب من أهل التدين بهم يغاظُ الأعداء، وتُرغمُ أنوف المنافقين، والعلمانيين، آية ما بيينا وبينهم يوم الجنائز، فأرونا يا أهل النفاق، يا أيها الذين يكتبون المقالات في الطعن في الدين ودعاته وعلمائه وقضاته، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وليس الطعن في شيء شخصي، الطعن في المبدأ أصلاً، لأنهم لا يريدون نهياً عن منكر ينغص عليهم شهواتهم، ولا يريدون نشراً لحقٍ وتعليماً لدين يصادم أهواءهم، أرونا جنازة كهذه وعندما تقارن يا عبد الله بين جنازات أهل العلم، وجنازات بعض المشاهير في عالم الغناء، فانظر إلى الفرق بين رواد هذه وهذه، وتفكَّر لماذا خرج هؤلاء؟ وماذا خرج هؤلاء يبتغون؟ فحضر جنازة ذاك المسكين من أهل الأغاني الذين بقوا يعزفون أمام جثته حتى تُوارى على أنغام الموسيقى، وجنازات أهل العلم تُتْبع بالدعاء، والترحم، والتذكر، والاتعاظ، والاعتبار، ينفع الميت ويرفع درجاته، وذاك يزداد سوءاً، ويزداد إثماً، ويزداد في النار دركات، ينقص فيها بسبب ما أورثهم من الفسق والفجور والعصيان، فتدبر يا عبد الله وتفكر في المصير وقارن فشتان شتان، اللهم ارحم الشيخ رحمة واسعة، وأسكنه فسيح الجنان، وارفع درجته في المهديين، واخلف للأمة بخير يا رب العالمين، اللهم ارفع ذكره، اللهم إنا نسألك أن تغفر له ذنبه، وأن ترفع درجته، وأن تعلي شأنه، وأن تجزيه خيراً، اللهم أجزه خيراً عن الإسلام والمسلمين، واجعل له لسان صدق في الآخرين، واجعله من ورثة جنة النعيم، واغفر لنا وله يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك أن تجمعنا مع نبينا صلى الله عليه وسلم على الحوض المورود، اللهم أوردناه واسقنا منه شربة لا نظمأ بعدها أبدا، اللهم سلمنا على الصراط ثقل ميزاننا، وآتنا صحائفنا بأيماننا، وارفع في الجنة درجاتنا، اللهم إنا نسألك مغفرة الزلات، والتجاوز عن السيئات، ورفعة الدرجات، والمقام في الجنات، اللهم أدخلنا الغرفات، واجعلنا فيها من الآمنين، اللهم إنا نسألك يا أرحم الراحمين في مقامنا هذا معيشة هنية، وميتة سوية، وشهادة طيبة نلقاك بها يا أرحم الراحمين، واجعل خروجنا من الدنيا على التوحيد، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، واجعل الجنة دارنا، اللهم اقض ديوننا، واستر عيوبنا، وآمن روعاتنا، اللهم احفظ بلدنا هذا وبلاد المسلمين من كل سوء، اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور، أنزل رحماتك علينا، ولا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، اللهم اجعل قلوبنا عامرة بذكرك وألسنتنا تلهج بذكرك يا رب العالمين، أُرْزُقنا لساناّ ذاكراً وقلباً شاكراً، ونفساً تعين على الحق يا أرحم الراحمين، هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماماً، عَلِّمْنا ما ينفعنا، وأنفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً يا ربنا، اللهم فقهنا في ديننا ويسر لنا أمورنا، اللهم أرحم موتانا واشف مرضانا، اللهم إنا نسألك أن تهدي ضالنا، وأن تجمع على الحق قلوبنا، اللهم أدخلنا دار السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، يسر لنا التقوى، واجعلنا من المستمسكين بالعروة الوثقى، أحينا مسلمين، وتوفنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا يوم يقوم الحساب، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.