الربا.. أنواعه وأحكامه
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
الربا هي الآفة التي استفحلت في بلاد المسلمين وطمت، وعم بلاؤها كثير من معاملات الناس فأرهقتهم.
وإن فشو هذه الظاهرة، والتساهل في شأنها؛ لهو نذير شؤم على المجتمع بأسره ناهيك عن أفراده ومؤسساته، وما تعانيه مجمعاتنا اليوم من حصار خانق، وأزمات اقتصادية حادة طالت كافة فئات المجتمع ونقاباته؛ إلا بسبب محاربتنا للعظيم سبحانه بهذه الجريرة القاصمة للمال، الممحقة للرزق، الماحية للبركة، ولا أدل على شناعة الربا وفداحة تعاطيه من اتفاق شرائع الأنبياء على تحريمه وتجريمه.
والمؤلم أن تجد النظام الربوي في الوقت الحاضر هو أساس التعامل للنظم الاقتصادية المعاصرة، ولذا كان الموضوع جديراً بأن نبين خطورته ومسائله ليعلم المسلم ما يدخل من المعاملات المصرفية ضمن الربا فيحذره ويتنبه له.
وسنتناول المحاور الأساسية في هذا الصدد:
أولاً: تعريف الربا:
لغة: ربا الشيء يربو ربواً ورباءً: زاد ونما، وفي التنزيل العزيز {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} سورة البقرة (276) أي يزيدها وينميها.
والمرابي: الذي يأتي الربا.
والربا في الاصطلاح الشرعي:
اختلف الفقهاء في تحديد معناه تبعاً لاختلافهم في مدلوله عندهم.
1- فعّرفه الشافعية بأنه: اسم لمقابلة عوض بعوض مخصوص غير معلوم التماثل في معيار الشرع حالة العقد، أو مع تأخير في البدلين أو أحدهم1، ويقصدون بالشطر الأول من هذا التعريف (ربا الفضل) عندهم، وبالشطر الثاني (ربا النسيئة) و(ربا اليد).
2- وعرفه بعض فقهاء الحنابلة بأنه: الزيادة في أشياء مخصوصة2.
3- أما علماء المالكية فقد ذكروا أن الربا يوجد في شيئين: في البيع، وفيما تقرر في الذمة من بيع أو سلف أو غير ذلك، وجعلوا الربا الجاهلي من الأنواع المتفق عليه3.
4- وعند الحنفية أنه: فضل مال بلا عوض في معاوضة مال بمال 4.
ثانياً: حكم الربا:
حرام بالإجماع ،وكبيرة من كبائر الذنوب، دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، فالقرآن الكريم تحدث عن الربا في عدة مواضع مرتبة ترتيبًا زمنياً، ففي العهد المكي نزل قول الله – سبحانه -: {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} سورة الروم (39).
وفي العهد المدني نزل تحريم الربا صراحة في قول الله – سبحانه -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} سورة آل عمران(130)، وقال سبحانه: {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} سورة البقرة (275)، وآخر ما ختم به التشريع قول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} (278/279) سورة البقرة.
وهذه الآية رد قاطع على من يقول: إن الربا لا يحرم إلا إذا كان أضعافاً مضاعفة، لأن الله لم يبح إلا رد رؤوس الأموال دون الزيادة عليها.
وهو من كبائر الإثم فعن أبي هريرة أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: (اجتنبوا السبع الموبقات)، قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: (الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات).5
وقد لعن الله كل من اشترك في عقد الربا، فلعن الدائن الذي يأخذه، والمستدين الذي يعطيه، والكاتب الذي يكتبه، والشاهدين عليه.
جاء عن جابر بن عبد الله – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: (لعن الله آكل الربا، ومؤكله، وشاهديه، وكاتبه)6، ورُوِيَ عن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة أنه قال: قال رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم -: (درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشدُّ من ستٍّ وثلاثين زنية)7، وعن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: (الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم)8.
قال الماوردي: وأجمعت الأمة على أن الربا محرم "حتى قيل أنه لم يحل في شريعة قط لقوله – تعالى- {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ} (161) سورة النساء.
يقول ابن حجر: عد الربا كبيرة هو ما أطبقوا عليه اتباعاً لما جاء في الأحاديث الصحيحة من تسميته كبيرة، بل هو أكبر الكبائر وأعظمها"9 .
أقسام الربا:
قسم الجمهور الربا إلى نوعين: ربا الفضل، وربا النساء، والفضل في اللغة الزيادة، والنساء التأخير.
وذهب الشافعية إلى أن الربا أنواع ثلاثة: ربا الفضل، وربا النساء، وربا اليد، فربا الفضل والنَّساء عندهم كمثيليهما عند الجمهور، وربا اليد عندهم يكون في البيع الذي لم يشترط فيه الأجل ولكن تأخر فيه فعلاً قبض أحد البدلين، وهو عند الحنفية كالبيع المنجز لا يجري فيه الربا إلا بزيادة أحد البدلين عن الآخر في العقد، فإن تساويا فلا ربا لعدم اشتراط الأجل.
1- ربا الفضل:
وهو: زيادة عين مال شرطت في عقد بيع على المعيار الشرعي "وهو الوزن أو الكيل" عند اتحاد الجنس.
ونص النبي – صلّى الله عليه وسلّم – على تحريم ربا الفضل في ستة أشياء: الذهب، والفضة، والبر، والشعير، والتمر، والملح، فعن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم -: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح؛ مثلاً بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء) 10.
هذه الأعيان المنصوص عليها ثبت الربا فيها بالنص والإجماع.
واختلف أهل العلم فيما سواها فحكي عن طاووس وقتادة أنهما قصرا الربا عليها، وقالا: لا يجري في غيرها، وبه قال داود ونفاة القياس، وقالوا: ما عداها على أصل الإباحة لقول الله – تعالى-: {وأحل الله البيع}.
واتفق القائلون بالقياس – وهم الجمهور – على أن ثبوت الربا فيها بعلة، وأنه يثبت في كل ما وجدت فيه علتها؛ لأن القياس دليل شرعي فيجب استخراج علة هذا الحكم، وإثباته في كل موضع وجدت علته فيه، وقول الله – تعالى-: {وحرم الربا} يقتضي تحريم كل زيادة، إذ الربا في اللغة الزيادة، إلا ما أجمعنا على تخصيصه، وهذا يعارض ما ذكروه، ثم اتفق أهل العلم على أن ربا الفضل لا يجري إلا في الجنس الواحد، إلا سعيد بن جبير فإنه قال: كل شيئين يتقارب الانتفاع بهما لا يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلاً، كالحنطة بالشعير، والتمر بالزبيب، والذرة بالدهن؛ لأنهما يتقارب نفعهما، فجريا مجرى نوعي جنس واحد، وهذا يخالف قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: (بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يداً بيد، وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم) فلا يعول عليه، ثم يبطل بالذهب بالفضة فإنه يجوز التفاضل فيهما مع تقاربهما، واتفق المعللون على أن علة الذهب والفضة واحدة، وعلة الأعيان الأربعة واحدة، ثم اختلفوا في علة كل واحد منهما، فروي عن أحمد في ذلك ثلاث روايات أشهرهن أن علة الربا في الذهب والفضة كونه موزون جنس، وعلة الأعيان الأربعة مكيل جنس، نقلها عن أحمد الجماعة، وذكرها الخرقي وابن أبي موسى وأكثر الأصحاب، وهو قول النخعي والزهري، والثوري وإسحاق، وأصحاب الرأي، فعلى هذه الرواية يجري الربا في كل مكيل أو موزون بجنسه مطعوماً كان أو غير مطعوم كالحبوب والأشنان والنورة، والقطن والصوف، والكتان والورس، والحناء والعصفر، والحديد والنحاس ونحو ذلك، ولا يجري في مطعوم لا يكال ولا يوزن لما روى ابن عمر قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين، ولا الصاع بالصاعين، فإني أخاف عليكم الرماء) -وهو الربا – فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس، والنجيبة بالإبل؟ فقال: (لا بأس إذا كان يداً بيد).11
وقالت الشافعية: العلة في الذهب والفضة كونهما جنس الأثمان، فلا يتعدى الربا منهما إلى غيرهما من الموزونات، وغيرها لعدم المشاركة، والعلة في الأربعة الباقية: كونها مطعومة، فيتعدى الربا منها إلى كل مطعوم.
ووافق مالك الشافعي في الذهب والفضة.
أما في الأربعة الباقية فقال: العلة فيها كونها تدخر للقوت، وتصلح له.
وأما مذهب أبي حنيفة – رحمه الله تعالى – فهو أن العلة في الذهب والفضة الوزن، وفي الأربعة الكيل، فيتعدى إلى كل موزون، وإلى كل مكيل.
قال الإمام ابن تيمية – رحمه الله تعالى -: "اتفق جمهور الصحابة، والتابعين، والأئمة الأربعة على أنه لا يباع الذهب، والفضة، والحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب؛ بجنسه إلا مثلاً بمثل، إذ الزيادة على المثل أكل للمال بالباطل"12
2- ربا النسيئة:
هو الذي كان مشهوراً في الجاهلية، ويعرف بالزيادة المشروطة التي يأخذها الدائن من المدين نظير التأجيل.
أن يدفع أحدهم للآخر مالاً لمدة، ويأخذ كل شهر قدراً معيناً، فإذا حل موعد الدين ولم يستطع المدين أن يدفع رأس المال أجل له مدة أخرى بالفائدة الذي يأخذها منه، وهذا هو الربا الغالب في المصارف وغيرها ببلاد المسلمين، وقد حرمه الله – تعالى- على المسلمين وعلى غيرهم من الأمم الأخرى.
ولا شك أن ربا النسيئة لا خلاف في تحريمه بين الأمة جمعاء، إنما الخلاف في ربا الفضل بين الصحابة وابن عباس – رضي الله عنهم – أجمعين، وقد ثبت عن ابن عباس – رضي الله عنه – أنه رجع عن قوله وانضمّ إلى الصحابة في القول بتحريم ربا الفضل.
وربا النسيئة تحريمه ثابت بالكتاب، والسنة، والإجماع.
فعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: حدثني أسامة بن زيد أن رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – قال: (ألا إنما الربا في النسيئة)13.
قال الإمام النووي – رحمه الله تعالى -: "كان معتمد ابن عباس وابن عمر حديث أسامة بن زيد (إنما الربا في النسيئة)، ثم رجع ابن عمر وابن عباس عن ذلك، وقالا بتحريم بيع الجنس بعضه ببعض، متفاضلاً حين بلغهما حديث أبي سعيد كما ذكره مسلم من رجوعهما صريحاً.
قال ابن حجر: "اتفق العلماء على صحة حديث أسامة، واختلفوا في الجمع بينه وبين حديث أبي سعيد، فقيل: منسوخ، لكن النسخ لا يثبت بالاحتمال.
وقيل: المعنى في قوله: (لا ربا) الربا الأغلظ الشديد المتوعد عليه بالعقاب الشديد، كما تقول العرب: لا عالم في البلد إلا زيد، مع أن فيها علماء غيره، وإنما القصد نفي الأكمل لا نفي الأصل، وأيضاً نفي تحريم ربا الفضل من حديث أسامة إنما هو بالمفهوم، فيقدم عليه حديث أبي سعيد لأن دلالته بالمنطوق، ويحمل حديث أسامة على الربا الأكبر كما تقدّم، والله أعلم".14
فاتّضح مما تقدّم تحريم: ربا الفضل، وربا النسيئة فلا إشكال في ذلك، ولله الحمد.
وقد زاد بعض الشافعية نوعاً آخر من أنواع الربا وهو ربا القرض كما جاء في الحديث: (كل قرض جر منفعة فهو ربا)15.
أيها المبارك:
لتعلم أن موضوع الربا وأضراره وآثاره الخطيرة جديرة بالعناية، فيجب على كل مسلم أن يعلم أحكامه وأنواعه ليبتعد، وأماناً من التعامل به فإن المتهاون في الربا محارب لله ورسوله.
نسأل الله أن يجنب الأمة موارد الهلاك، وأن يصلح شأن المسلمين إنه على كل شيء قدير.
1 المجموع شرح المهذب للنووي (10/25).
2 ابن قدامة المغني (4/491).
3 ابن رشد الحفيد بداية المجتهد ونهاية المقتصد (5/216).
4 رد المحتار لابن عابدين(4/184).
5 البخاري ومسلم.
6 رواه أحمد والطبراني في المعجم الصغير وزيادته وصححه الألباني.
7 أخرجه أحمد وقال الالباني: سنده صحيح على شرط الشيخين.
8 رواه ابن ماجة وصححه الألباني.
9 الزواجر لابن حجر الهيثمي (309).
10 رواه مسلم.
11 رواه أحمد وقال الأرناؤوط: إسناده ضعيف، لكن أوله في صحيح مسلم.
12 فتاوى ابن تيمية (20/347).
13 رواه البخاري.
14 فتح الباري لابن حجر (4/382).
15 قال الألباني: رواه الحارث عن علي، وضعفه الألباني في الجامع الصغير، وفي ضعيف الجامع.