الأمر بالاجتماع والنهي عن التفرق

الأمر بالاجتماع والنهي عن التفرق

الحمد لله رب العالمين، نحمده – تعالى – ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونثني عليه الخير كله، ونصلي ونسلم على البشير النذير، والهادي إلى الله بإذنه والسراج المنير محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:

فقد أمر الله – عز وجل – بالاجتماع في الدين، ونهى عن التفرق فيه، وبين هذا في كتابه بياناً شافياً يفهمه جميع الناس، ونهانا أن نكون كالذين من قبلنا تفرقوا واختلفوا فهلكوا ولم يفلحوا قال – تعالى -: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}1.

ولا يشك عاقل في أنَّ الفرقةَ في الدين من أعظم مصائب الأمَّة؛ لأنَّ في الافتراق إضعافٌ للأمة، وجماعة الحق إن ضعفت عجزت عن تحقيق الكثير من مصالحها، وأمورها قال عز من قائل: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}2 "فقد نهاهم الله عن التنازع وهو الاختلاف في الرأي، فإن ذلك يتسبب عنه الفشل، وهو الجبن في الحرب"3، وذكر عوامل النصر الحقيقية: الثبات عند لقاء العدو، والاتصال بالله، والطاعة لله والرسول، وتجنب النزاع والشقاق، والصبر على تكاليف المعركة، والحذر من البطر والرئاء والبغي، وأعقب الأمر بالطاعة بالنهي عن التنازع، وذكر عاقبة التنازع فقال: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أي تذهب قوتكم وهيبتكم عند خلافكم؛ فما يتنازع الناس إلا حين تتعدد جهات القيادة والتوجيه، وإلا حين يكون الهوى المطاع هو الذي يوجه الآراء والأفكار.

"فإذا استسلم الناس لله ورسوله انتفى السبب الأول الرئيسي للنزاع بينهم؛ مهما اختلفت وجهات النظر في المسألة المعروضة، فليس الذي يثير النزاع هو اختلاف وجهات النظر، إنما هو الهوى الذي يجعل كل صاحب وجهة يصرُّ عليها مهما تبين له وجه الحق فيها، وإنما هو وضع  الذات في كفة، والحق في كفة، وترجيح الذات على الحق ابتداءً"4.

ولقد كان هذا الأمر مما عني به القرآن الكريم أيما عناية، وعني به رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ومن اهتدى بهديه من أصحابه البررة والتابعين لهم بإحسان {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}5 "فعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله ونحو هذا"6.

"والصراط": الطريق وهو طريق الإسلام، و"المستقيم" المستوي الذي لا اعوجاج فيه، ثم أمرهم باتباعه ونهاهم عن اتباع سائر السبل أي الأديان المتباينة طرقها {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ} أي تميل بكم {عَن سَبِيلِهِ} أي عن سبيل الله المستقيم الذي هو دين الإسلام.

قال ابن عطية: وهذه السبل تعمّ اليهودية، والنصرانية، والمجوسية، وسائر أهل الملل، وأهل البدع والضلالات من أهل الأهواء والشذوذ في الفروع، وغير ذلك من أهل التعمق في الجدل والخوض في الكلام، هذه كلها عرضة للزلل، ومظنة لسوء المعتقد، والإشارة بـ{ذَلِكُمْ} إلى ما تقدّم {وَصَّاكُم بِهِ} أي أكد عليكم الوصية به {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ما نهاكم عنه"7.

ومن خلال هذه الآية نجد أن الله – تبارك وتعالى – قد أرشد الأمة إلى السير على الصراط الذي ارتضاه لهم، وتجنب سبل وطرق الغواية التي يزينها الشيطان، ولذا نجد أنه أكد هذا بآية أخرى فيها أمر بذلك، وامتنان على الأمة بأن أنقذهم مما كانوا فيه من الفرقة والشتات فقال: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }8 فأمرهم سبحانه بأن يجتمعوا على التمسك بدين الإسلام أو بالقرآن، ونهاهم عن التفرق الناشئ عن الاختلاف في الدين، ثم أمرهم بأن يذكروا نعمة الله عليهم، وبيَّن لهم من هذه النعمة ما يناسب المقام وهو أنهم كانوا أعداء مختلفين يقتل بعضهم بعضاً، وينهب بعضهم بعضاً، فأصبحوا بسبب هذه النعمة إخواناً، وكانوا على شفا حفرة من النار بما كانوا عليه من الكفر، وامتن عليهم بأنه أنقذهم من هذه الحفرة بالإسلام، وهو تمثيل للحالة التي كانوا عليها في الجاهلية.

"وقد ضُمِنتْ لهم العِصْمةُ – عند اتفاقهم – من الخطأ،كما وردت بذلك الأحاديث المتعددة أيضاً، وهذا السياق في شأن الأوْس والخَزْرَج، فإنه كانت بينهم حُروبٌ كثيرة في الجاهلية، وعداوة شديدة وضغائن، وإحَنٌ وذُحُول طال بسببها قتالهم والوقائع بينهم، فلما جاء الله بالإسلام فدخل فيه من دخل منهم صاروا إخواناً متحابين بجلال الله، متواصلين في ذات الله، متعاونين على البر والتقوى، قال الله – تعالى -: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ  إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، وقد امتن عليهم بذلك رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – يوم قَسَم غنائم حُنَيْنٍ، فَعتَبَ من عتب منهم لمّا فَضَّل عليهم في القِسْمَة بما أراه الله، فخطبهم فقال: ((يَا مَعْشَرَ الأنْصَارِ: ألَمْ أجدْكُمْ ضُلالاً فَهَدَاكُمُ اللهُ بِي، وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَألَّفَكُمُ اللهُ بِي، وَعَالَةً فأغْنَاكُمْ اللهُ بِي؟"، كلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أمن9))"10.

وحدد الله – تعالى – أن الرسول بريء من الذين تفرقوا في الدين، وذكر مآلهم فقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}11 "والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله، وكان مخالفاً له، فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق، فمن اختلف فيه {وَكَانُوا شِيَعاً} أي: فرقاً كأهل الملل والنحل – وهي الأهواء والضلالات – فالله قد بَرَّأ رسوله مما هم فيه"12.

وقد اهتم الرسول – صلى الله عليه وسلم – بالدعوة إلى اجتماع كلمة المسلمين، وتحذيرهم عن التفرق فمن ذلك:

دلل النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – على التمسك بكتاب الله وسنته، ونهى عن التفرق فجاء عَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ – رضي الله عنه – قَالَ: ((وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَوْماً بَعْدَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلَافاً كَثِيراً، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّهَا ضَلَالَةٌ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ))13، و"ليس المراد بسنة الخلفاء الراشدين إلا طريقتهم الموافقة لطريقته – صلى الله عليه وسلم – قال القاري في المرقاة: "فعليكم بسنتي" أي بطريقتي الثابتة عني واجباً أو مندوباً، وسنة الخلفاء الراشدين فإنهم لم يعملوا إلا بسنتي، فالإضافة إليهم إما لعملهم بها، أو لاستنباطهم واختيارهم إياها"14.

"وكذلك في هذا الحديث أمر عند الافتراق والاختلاف بالتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده، والسنة: هي الطريقة المسلوكة، فيشمل ذلك التمسك بما كان عليه هو وخلفاؤه الراشدون من الاعتقادات والأعمال والأقوال، وهذه هي السنة الكاملة، ولهذا كان السلف قديماً لا يطلقون اسم السنة إلا على ما يشمل ذلك كله"15.

وإن مما يبيح دم المسلم مفارقة الجماعة المسلمة بالارتداد، والخروج عليها فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود – رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالْمَارِقُ مِنْ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ))16 "أي الذي ترك جماعة المسلمين، وخرج من جملتهم، وانفرد عن أمرهم بالردة، فقوله: "المفارق للجماعة" صفة مؤكدة للتارك لدينه قال النووي: "هو عام في كل مرتد عن الإسلام بأي ردة كانت فيجب قتله إن لم يرجع إلى الإسلام. قال العلماء: ويتناول أيضاً كل خارج عن الجماعة ببدعة، أو بغي، أو غيرهما، وكذا الخوارج، واعلم أن هذا عام يخص منه الصائل ونحوه فيباح قتله في الدفع، وقد يجاب عن هذا بأنه داخل في المفارق للجماعة، أو يكون المراد لا يحل تعمد قتله قصداً إلا في هؤلاء الثلاثة"17.

أما حين يظهر الخلاف في الدين، ويصبح أمراً شائعاً بين الناس، وواقعاً ملموساً بينهم< فعلى المسلم أن يمتثل ما دلَّ عليه الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – فقد روي عن حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ – رضي الله عنه – قال: ((قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ، قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ. قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: صِفْهُمْ لَنَا!! فَقَالَ: هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا، قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ. قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ؟ قَالَ: فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ))18، قال ابن بطال معلقاً على هذا الحديث: "فيه حجة لجماعة الفقهاء في وجوب لزوم جماعة المسلمين، وترك القيام على أئمة الجور، ألا ترى أنه – صلى الله عليه وسلم – وصف أئمة زمان الشر فقال: دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، فوصفهم بالجور والباطل والخلاف لسنته؛ لأنهم لا يكونون دُعاةً على أبواب جهنم إلا وهم على ضلال، ولم يقل فيهم تعرف منهم وتنكر كما قال في الأولين، وأمر مع ذلك بلزوم جماعة المسلمين وإمامهم، ولم يأمر بتفريق كلمتهم، وشق عصاهم"19.

إذاً فما هي المفاسد التي حصلت بسبب الخلاف؟

إن الخلاف شر، وفتنة كما جاء عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – أنه قال: "الخلاف شر"20، وقد أتى الدين الإسلامي ليقضي على هذه الفتنة من خلال غرس أواصر المحبة والإخاء في أوساط المجتمع، وربطهم بخالقهم – جل وعلا – في جميع أمورهم وأحوالهم، ولكن ينبغي التنبيه على خطر الاختلاف ومضاره، والعواقب الناتجة عنه، ومن ذلك:

1-      أن التفرق والاختلاف من حيث هو من أنواع الفتن التي حذرنا الله – جل وعلا – منها، فهو من مضامين تفسير قول الله – جل وعلا -: {وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً}21.

2-      من مضار التفرق وعدم الاجتماع: التنازع، وتغلب الأعداء، واستظهارهم على المسلمين {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}.

3-      أن في التفرق خروج على جماعة المسلمين، ولهذا أباح الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – دم المفارق للجماعة فقد جاء عَنْ عَرْفَجَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَقُولُ: ((مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ))22.

4-      ومن مضار التفرق: حصول الفتن، والعداء بين المسلمين، ولذا نجد أن أول فتنة ظهرت بين الصحابة كان سببها الاختلاف والتفرق، ولا يزال المسلمون يتجرعون عواقبها وتبعاتها إلى يومنا هذا.

5-      ومن مضار التفرق: رد المسلمين إلى دعاوى الجاهلية، ويدل على هذا ما ذكره ابن كثير في تفسيره عند قوله – تعالى -: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}23 فقال: "وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يَسار وغيره: أن هذه الآية نزلت في شأن الأوس والخزرج، وذلك أن رجلاً من اليهود مَرَّ بملأ من الأوس والخزرج، فساءه ما هُمْ عليه من الاتفاق والألْفَة، فبعث رجلاً معه، وأمره أن يجلس بينهم ويذكرهم ما كان من حروبهم يوم بُعَاث وتلك الحروب، ففعل، فلم يزل ذلك دأبُه حتى حميت نفوس القوم، وغضب بعضهم على بعض، وتثاوروا، ونادوا بشعارهم، وطلبوا أسلحتهم، وتواعدوا إلى الحرة، فبلغ ذلك النبي – صلى الله عليه وسلم -، فأتاهم فجعل يُسكِّنهم ويقول: ((أبِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ وأَنَا بَيْنَ أظْهُرِكُمْ؟))، وتلا عليهم هذه الآية؛ فندموا على ما كان منهم، واصطلحوا وتعانقوا، وألقوا السلاح – رضي الله عنهم -، وذكر عِكْرِمة أن ذلك نزل فيهم حين تثاوروا في قضية الإفْك، والله أعلم"24 فجعل النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – التفرق بين المسلمين، وعدم التحاكم إلى الدين؛ من أمور الجاهلية، والآيات والأحاديث واضحة في معناها ودلالتها، فهي تحذر من التفرق، وتدعو إلى الوحدة وجمع كلمة المسلمين، والسير في طريق واحد، فإذا ما تفرق المسلمون بعد ذلك فهم خارجون عن السير فيه، وحينما تفرق المسلمون أحزاباً كل حزب بما لديهم فرحون؛ زعمت كل فرقة أنها هي الناجية وما عداها هالك، حتى التبس الأمر على كثير من المسلمين، فلم يهتد إلى الفرقة الناجية بسبب تلك المزاعم، ولا ينبغي أن نأبه لتلك المزاعم بل نعرض كل ما نسمع على كتاب الله وسنة نبيه، فما وافقهما فهو الحق، وما خالفهما عرفنا أنه باطل، وهذا هو الميزان الدقيق الذي ينبغي أن نزن به كل قول ومعتقد مهما كان مصدره كما هو حال أهل السنة في عرضهم للأقوال والمعتقدات على كتاب الله وسنة رسوله، وهو توفيق من الله لهم، وهم الفرقة الناجية، وهم أهل الحق إلى أن تقوم القيامة.

نسأل الله العلي القدير أن يوحد كلمة المسلمين، وأن يجمعهم على الدين، ويبعد عنهم كل ما يفرق جماعتهم، أنه خير مسؤول، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.


 


1 سورة آل عمران (105).

2 سورة الأنفال (46).

3 فتح القدير (3/ 191).

4 في ظلال القرآن (3/414) بتصرف.

5 سورة الأنعام (153).

6 تفسير ابن كثير (3/365).

7 فتح القدير (2/ 499).

8 سورة آل عمران (103).

9 صحيح البخاري (3985)، وصحيح مسلم (1758).

10 تفسير ابن كثير (2/90).

11 سورة الأنعام (159).

12 تفسير ابن كثير (3/377).

13 الترمذي (2600)، السلسلة الصحيحة (6/234).

14 تحفة الأحوذي (2/57).

15 جامع العلوم والحكم (28/15).

16 صحيح البخاري (6370)، وصحيح مسلم (3175).

17 عون المعبود (9/387).

18 صحيح البخاري (3338)، وصحيح مسلم (3434).

19 شرح ابن بطال (19/39).

20 السلسلة الصحيحة (6/175).

21 سورة الأنفال (25).

22 صحيح مسلم (2443).

23 سورة الأنفال (62).

24 تفسير ابن كثير (2/90).