إذا ضيعت الأمانة
الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علماً وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له نعم المولى ونعم النصير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما، أما بعد:
إخواني المؤمنون: جاء من حديث أبي هريرة أن رجلا سأل النبي ﷺ عن الساعة فقال ﷺ : (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة) قال: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: (إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)1.
هذا الحديث يقدم لنا منهجاً علمياً عظيماً وبليغاً في معرفة معنى الأمانة، ولكن من المؤسف أن يستدل به غالباً في معنى ينحصر في مواقف معينة أقل وأدنى من معناه الكبير ومن أهدافه التي شملت أكثر من جانب، فكان الاستدلال به استدلالاً ناقصاً في نصه وغير مكتمل.
إن في هذا الحديث دلالة واضحة على أهمية أمانة إسناد الأمر إلى أهله، وأن ضياعها من المنذرات بقرب الساعة.
أيها الناس: إن الأمة التي لا أمانة لها تنتشر فيها الرشوة ويهمل فيها الأكفاء وبل وتبعدهم وتقدم الذين ليسوا أهلاً للمناصب، وهذا من علامات الساعة.
ومن الأمانة أن لا يستغل الإنسان منصبه الذي عُين فيه من أجل منفعة له أو إلى قريبه، كأن يأخذ زيادة على مرتبه بطرق ملتوية، كتناول الرشوة باسم الهدية، ثم مع هذا يريد أن يحللها بنوع من أنواع التأويلات.
ألا فليعلم أن كل ذلك غش وخيانة وتلاعب بالدنيا، وما أخذ من ذلك فهو سحت وأكل أموال الناس بالباطل؛ لأنه ثمرة خيانة وغدر واستغلال للمنصب، فاسمع يرحمك الله ما قاله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فعن عدي بن عميرة الكندي فيما رواه مسلم: (من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطاً فما فوقه كان غلولاً -أي سرقة على وجه الخيانة- يأتي به يوم القيامة) فقام إليه رجل من الأنصار كأني أنظر إليه، فقال: يا رسول الله، اقبل عني عملك، قال: (وما لك؟) قال: سمعتك تقول كذا وكذا. قال: (وأنا أقوله الآن: من استعملناه منكم في عمل فليجيء بقليله وكثيره فما أوتي منه أخذ، وما نُهي عنه انتهى)2.
وقد استعمل رسول الله ﷺ رجلا على صدقات بني سليم يدعى ابن اللتبية فلما جاء حاسبه قال: هذا مالكم وهذا هدية، فقال رسول الله ﷺ : (فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقاً). ثم خطبنا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أما بعد فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله، فيأتي فيقول: هذا مالكم،وهذا هدية أهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته، والله لا يأخذ أحد منكم شيئاً بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلأعرفن أحداً منكم لقي الله يحمل بعيراً له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر). ثم رفع يده حتى رُئي بياض إبطه يقول (اللهم هل بلغت).3
فالله الله أيها الناس في أمانة إسناد المهام إلى أهلها، فيجب على من ولاه الله أمراً من أمور المسلمين أن يولِي على كل عمل من أعمال المسلمين أصلح من يجده لذلك العمل، وقد توعد النبي ﷺ بالخيانة لله ورسوله والمؤمنين من خالف ذلك فقال: (من استعمل رجلاً من عصابة وفي تلك العصابة من هو أرضى لله منه فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين)4.
وقال عمر بن الخطاب : “من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً لمودة أو قرابة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمسلمين”.5
فاللهم اجعلنا من الأمناء السعداء وجنبنا الخيانة الموجبة للشقاء، والحمد لله رب العالمين.
1 رواه البخاري (6015).
2 رواه مسلم (3415).
3 رواه البخاري(6578).
4 رواه الحاكم في المستدرك (7023).
5 مجموع فتاوى ابن تيمية(6/369).