إياك نعبد وإياك نستعين

إياك نعبد وإياك نستعين

 

إن الحمد لله، نحمده ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأصلي وأسلم على الحبيب المصطفى – عليه أفضل الصلاة والتسليم -، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:

إن المتأمل لسورة الفاتحة يجد أنه بعد ورود آيات التمجيد والثناء، والحمد والشكر لله؛ ولما استجمع الأمر أنه سبحانه المستحق للحمد كله، وتحبيباً لعباده بالربوبية، وترغيباً بالرحمة، وترهيباً بيوم الدين؛ كان من شأن كل عاقل الإقبال إليه، وقصر الهمم عليه فقال – عز وجل -: {إياك نعبد وإياك نستعين}، أي: يا من هذه الصفات صفاته؛ نخصك وحدك بالعبادة والاستعانة، فنعبدك ولا نعبد غيرك، ونستعين بك ولا نستعين بغيرك.

وفي هذه الآية رغم قصرها أسرار غريبة، ومعاني عجيبة حتى إن ابن القيم – رحمه الله – قال: "وسر الخلق والأمر، والكتب والشرائع، والثواب والعقاب؛ انتهى إلى هاتين الكلمتين، وعليهما مدار العبودية والتوحيد، حتى قيل: أنزل الله مائة كتاب وأربعة كتب جمع معانيها في التوراة والإنجيل والقرآن، وجمع معاني هذه الكتب الثلاثة في القرآن، وجمع معاني القرآن في المفصل، وجمع معاني المفصل في الفاتحة، ومعاني الفاتحة في {إياك نعبد وإياك نستعين}، وهما الكلمتان المقسومتان بين الرب وبين عبده نصفين، فنصفهما له – تعالى – وهو {إياك نعبد}، ونصفهما لعبده وهو {إياك نستعين}"1، وقال أيضاً "التوكل نصف الدين، والنصف الثاني الإنابة، فإن الدين استعانة وعبادة، فالتوكل هو الاستعانة، والإنابة هي العبادة، ومنزلته: أوسع المنازل وأجمعها"2، ثم غاص في أسرار هذه الآية العجيبة في ثلاثة مجلدات حواها كتابة الممتع "مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد زاياك نستعين".

قال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي – رحمه الله تعالى -: "وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أي: نخصك وحدك بالعبادة والاستعانة، لأن تقديم المعمول يفيد الحصر، وهو إثبات الحكم للمذكور، ونفيه عما عداه، فكأنه يقول: نعبدك ولا نعبد غيرك، ونستعين بك ولا نستعين بغيرك.

وقدم العبادة على الاستعانة من باب تقديم العام على الخاص، واهتماماً بتقديم حقه – تعالى – على حق عبده، والعبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة.

والاستعانة هي الاعتماد على الله – تعالى – في جلب المنافع، ودفع المضار، مع الثقة به في تحصيل ذلك.

والقيام بعبادة الله والاستعانة به هو الوسيلة للسعادة الأبدية، والنجاة من جميع الشرور، فلا سبيل إلى النجاة إلا بالقيام بهما، وإنما تكون العبادة عبادة إذا كانت مأخوذة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مقصوداً بها وجه الله، فبهذين الأمرين تكون عبادة، وذكر الاستعانة بعد العبادة مع دخولها فيها لاحتياج العبد في جميع عباداته إلى الاستعانة بالله – تعالى -، فإنه إن لم يعنه الله لم يحصل له ما يريده من فعل الأوامر، واجتناب النواهي"3.

وتقديم المفعولين لنعبد ونستعين وذلك للاختصاص، لأنه – سبحانه وتعالى – وحده له العبادة، لذا لم يقل نعبدك ونستعينك، لأنها لا تدل على التخصيص بالعبادة لله – تعالى -، إما قول: إياك نعبد فتعني تخصيص العبادة لله – تعالى – وحده، وكذلك في الاستعانة.

وقَرَنَ العبادة بالاستعانة ليدل على أن الإنسان لا يستطيع أن يقوم بعبادة الله إلا بإعانة الله له وتوفيقه، فهو إذن شعار وإعلان أن الإنسان لا يستطيع أن يعمل شيئاً إلا بعون الله، وهو إقرار بعجز الإنسان عن القيام بالعبادات، وعن حمل الأمانة الثقيلة إذا لم يعنه الله – تعالى – على ذلك، فالاستعانة بالله علاج لغرور الإنسان وكبريائه عن الاستعانة بالله، واعتراف الإنسان بضعفه.

وقدم العبادة على الاستعانة لكون العبادة هي علة خلق الإنس والجن: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}4، فالعبادة هي حق الله، والاستعانة هي مطلب من مطالبه، وحق الله أولى من مطالبه قال الإمام بن القيم – رحمه الله -: "وتقديم العبادة على الاستعانة في الفاتحة من باب تقديم الغايات على الوسائل، إذ العبادة غاية العباد التي خلقوا لها، والاستعانة وسيلة إليها، ولأن إياك نعبد متعلق بإلوهيته واسمه الله، وإياك نستعين متعلق بربوبيته واسمه الرب، فقدم إياك نعبد على إياك نستعين، كما قدم اسم الله على الرب في أول السورة، ولأن إياك نعبد قسم الرب فكان من الشطر الأول الذي هو ثناء على الله – تعالى – لكونه أولى به، وإياك نستعين قسم العبد، فكان من الشطر الذي له وهو اهدنا الصراط المستقيم إلى آخر السورة، ولأن العبادة المطلقة تتضمن الاستعانة من غير عكس فكل عابد لله عبودية تامة مستعين به، ولا ينعكس، لأن صاحب الأغراض والشهوات قد يستعين به على شهواته، فكانت العبادة أكمل وأتم، ولهذا كانت قسم الرب، ولأن الاستعانة جزء من العبادة من غير عكس، ولأن الاستعانة طلب منه والعبادة طلب له، ولأن العبادة لا تكون إلا من مخلص، والاستعانة تكون من مخلص ومن غير مخلص، ولأن العبادة حقه الذي أوجبه عليك، والاستعانة طلب العون على العبادة، وهو بيان صدقته التي تصدق بها عليك، وأداء حقه أهم من التعرض لصدقته.

 ولأن العبادة شكر نعمته عليك، والله يحب أن يشكر، والإعانة فعله بك وتوفيقه لك، فإذا التزمت عبوديته، ودخلت تحت رقها؛ أعانك عليها، فكان التزامها والدخول تحت رقها سبباً لنيل الإعانة، وكلما كان العبد أتم عبودية كانت الإعانة من الله له أعظم، والعبودية محفوفة بإعانتين إعانة قبلها على التزامها، والقيام بها، وإعانة بعدها على عبودية أخرى، وهكذا أبداً حتى يقضي العبد نحبه"5 .

فمن أراد حلاوة الإيمان وحقيقته فليقبل على الله محباً خاضعاً، فليس أحد أحق بالحب من الله، وليس أحد أحق أن يخضع له ويذل له إلا الله، فأين القلوب التي تعلقت بغير الله من {إياك نعبد}؟ وأين أهل الوجد والتصوف من فهم {إياك نعبد

 أين عباد الشهوات؟ وأين عباد الدرهم والدينار؟ أين العشاق أهل الحب والوتر والغناء عن جمال {إياك نعبد

نسأل الله – تعالى – أن يجعلنا من أهل القرآن الكريم، ويوفقنا لتدبره والعمل به، وأن يجعله شاهداً لنا لا شاهداً علينا، ونسأله – سبحانه وتعالى – أن يبصرنا بعيوبنا إنه على كل شيء قدير.

والحمد لله رب العالمين.


 


1 مدارج السالكين (1/74).

2 المصدر نفسه (2/113).

3 تفسير السعدي (1/39).

4 سورة الذاريات (56).

5 مدارج السالكين (1/75).