إياك إياك والمحقرات

إياك إياك والمحقرات

 الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه الغرالميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فعن عبد الله بن مسعود أن رسول الله   قال: (إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه)، وإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضرب لهن مثلاً كمثل قوم نزلوا أرض فلاة فحضر صنيع القوم فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود حتى جمعوا سوادا فأججوا نارا وأنضجوا ما قذفوا فيها)1 ومعنى قوله: (إياكم ومحقرات الذنوب) أي صغائرها؛ لأن صغارها أسباب تؤدي إلى ارتكاب كبارها كما أن صغار الطاعات أسباب مؤدية إلى تحري كبارها، قال الغزالي: “صغائر المعاصي يجر بعضها إلى بعض حتى تفوت أهل السعادة بهدم أصل الإيمان عند الخاتمة”2.

ولما علم الصالحون السابقون بخطر الذنب صغر أو كبرفروا من ذلك؛ بل كانوا يرون فعل الصغيرة كبيرة فهذا أنس -رضي الله عنه- يقول: “إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد النبي  من الموبقات”3يعني المهلكات.

وتأمل معي كيف أن امرأة دخلت النار في ذنب صغير؛ كما جاء في  الحديث المتفق عليه عن عبد الله بن عمر أن رسول الله   قال: (عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت النار لا هي أطعمتها ولا سقتها، ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض).

وعن سهل بن سعد -رضي الله عنه- أن رسول الله   قال: (إياكم ومحقرات الذنوب فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى جمعوا ما أنضجوا به خبزهم وإن محقرات الذنوب متى يأخذ بها صاحبها تهلكه)4 يعني أن الصغائر إذا اجتمعت ولم تكفر أهلكت ولم يذكر الكبائر لندرة وقوعها من الصدرالأول وشدة تحرزهم عنها فأنذرهم مما قد لا يكترثون به.

قال الغزالي: “تصير الصغيرة كبيرة بأسباب منها: الاستصغار والإصرار، فإن الذنب كلما استعظمه العبد صغر عند الله، وكلما استصغره عظم عند الله؛ لأن استعظامه يصدر عن نفور القلب منه وكراهته له، وذلك النفور يمنع من شدة تأثيره به واستصغاره يصدر عن الألفة به، وذلك يوجب شدة الأثر في القلب المطلوب تنويره بالطاعة والمحذور تسويده بالخطيئة، وقال الحكيم: “إذا استخف بالمحقرات دخل التخلط في إيمانه وذهب الوقار وانتقص من كل شيء، بمنزلة الشمس ينكسف طرف منها فبقدرما انكسف ولو كرأس إبرة ينقص من شعاعها وإشراقها على أهل الدنيا، وخلص النقصان إلى كل شيء في الأرض، فكذا نور المعرفة ينقص بالذنب على قدره فيصير قلبه محجوبا عن الله، فزوال الدنيا بكليتها أهون من ذلك، فلا يزال ينقص ويتراكم نقصانه وهو أبله لا ينتبه لذلك؛ حتى يستوجب الحرمان”5.

فالأمر خطير جداً يستحق الوقوف عنده كثيراً والتفكير فيه طويلاً،ذلك أن المؤمن يحاسب نفسه ويرى عظم ما ارتكب من خطأ؛ فعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: “إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الكافر يرى ذنوبه كذباب مرّ على أنفه فقال به هكذ، وأشار بيده فوق أنفه..

وسبب كون صغار الذنوب ومحقراتها مهلكة لسببين:

الأول: كثرتها التي قد تؤدي إلى الهلاك.

الثاني: الاستهانة بها واحتقارها الذي يؤدي إلى كبرها وعظمها عند الله.

وأخيراً -أخي المسلم-لا تنظرِ إلى صغر المعصية، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت كما قال هلال بن سعد: “لاتنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن أنظر إلى من عصيت”، وقال الفضيل بن عياض: “بقدر ما يصغر الذنب عندك يعظم عند الله، وبقدر ما يعظم عندك يصغر عند الله”6..

نسأل ا لله أن يقينا شر أنفسنا، وسيئات أعمالنا، وأن يغفر زلاتنا، ويتوفانا وهو راض عنا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 


1 رواه أحمد، وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: “حسن لغيره”.

2 فيض القدير (3 /127) للمناوي. 

3 رواه البخاري.

4 رواه أحمد، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، برقم(2471).

5 فيض القدير(3/127).

6 الجواب الكافي، صـ(33).