الحرية في الإسلام

الحرية في الإسلام

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فقد جاء الإسلام ليرفع من كرامة الإنسان من حيث هو إنسان، فكرمه بالعقل، وكفل له الرزق والطيبات، وحقق له أفضلية على كثير من المخلوقات: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}1.

ومن أسرار الشريعة الإسلامية أن حرصت أيضاً على تعميم الحرية في الإسلام بكيفية منتظمة ومنضبطة، فإنّ الله – عز وجل – لمّا بعث رسوله – صلى الله عليه وآله وسلم – بدين الإسلام كانت العبودية متفشيّة في البشر، وأقيمت عليها ثروات كثيرة، وكانت أسبابها وأنواعها متكاثرة، فجاء الإسلام لتأسيس مبدأ الحرية على قاعدة العبودية لله الواحد الأحد، ورسخه النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – في خطبته العصماء في حجة الوداع: ((ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع))2, وهكذا فإن مبادئ الجاهلية وأفكارها التي ترتبط بها؛ وضعت كلها ودفنت في غياهب النسيان, ثم شرع النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – بعد هذا بتفصيل أمور الجاهلية، وأنها باطلة  ساقطة، ثم أسس الرسول – صلى الله عليه وسلم – مبدأ الحرية في الإسلام على أساس العبودية الحقة الخالصة لله – تعالى – الواحد الأحد فقال – صلى الله عليه وسلم -: ((أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه, ولكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرونه من أعمالكم))3.

وهكذا أسس – صلى الله عليه وآله وسلم – مبدأ الحرية على الخروج من مآثر الجاهلية, ومن قيد الشيطان، والدخول في قيم الإسلام، ورحمة الرحمن, ومن هنا تكون حرية الإنسان المسلم وإرادته لما يصلح حياته في إطار هذه القيم الثابتة.

وقد وضع الإسلام الأسس التي تكفل التخلص من نظام الرق، وأبطل استعباد الإنسان لأخيه الإنسان، فلا عبودية إلا لله الفرد الصمد {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}4، وأعلن أن الناس سواسية لا يتفاضلون إلا بالتقوى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}5، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء}6، وفي كل هذه الآيات تقرير لوحدة الأصل، مما يقتضي عدم التمايز بالجنس أو الطبقة، أو النسب.

وقد حدد النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – هذا المعلم (الافتخار بالأنساب)، بل نهى عنه، وحذر منه فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – عَنْ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: ((لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمْ الَّذِينَ مَاتُوا إِنَّمَا هُمْ فَحْمُ جَهَنَّمَ؛ أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنْ الْجُعَلِ الَّذِي يُدَهْدِهُ الْخِرَاءَ بِأَنْفِهِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ، إِنَّمَا هُوَ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، النَّاسُ كُلُّهُمْ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ))7، فَلَا يَلِيقُ بِمِنْ أَصْلُهُ التُّرَابُ: النَّخْوَةُ، وَالتَّجَبُّرُ، أَوْ إِذَا كَانَ الْأَصْلُ وَاحِداً فَالْكُلُّ إِخْوَةٌ، فَلَا وَجْهَ لِلتَّكَبُّرِ؛ لِأَنَّ بَقِيَّةَ الْأُمُورِ عَارِضَةٌ لَا أَصْلَ لَهَا حَقِيقَةً، نَعَمْ الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَهِيَ مُبْهَمَةٌ، فَالْخَوْفُ أَوْلَى لِلسَّالِكِ مِنْ الِاشْتِغَالِ بِهَذِهِ الْمَسَالِكِ.8

وأطلق الإسلام للناس حرية شاملة لجميع مناحي الحياة، ومنضبطة في نفس الوقت بتعاليم الشرع الحنيف من منطلق تكريم بني آدم، فليست ممنوعة في ديننا بحيث يصير المسلم عبارة عن أداة تلقي فقط، وليست في نفس الوقت منطلقة بلا ضابط ولا قيد؛ كما هي عند المجتمعات التي لا تنتمي إلى الإسلام.

من خلال المعطيات السابقة نجد أن الدين الإسلامي عمل على أن ينال الحرية كل منتسب لهذا الدين، وأن يتساوى الناس فلا فروق، ولا تفاضل إلا بالتقوى، والعمل الصالح، وقد عمل على إزالة هذه الفروق من خلال عدة أمور منها:

– عمل الإسلام على تحرير الإنسان من الرق، ليس هذا فحسب بل كان أول نظام يمنح الإنسان حريته ويكرمه بصرف النظر عن جنسه ولونه، وهو ما يمكن أن نسميه بالحرية الشاملة، ولا يعني هذا الحرية المنطلقة المتسيبة بلا ضوابط ولا قيود فتلك هي الفوضوية بعينها، الفوضوية التي تقود الفرد إلى الضياع وفساد الدين، وتؤدي بالمجتمع إلى الخراب والانهيار، ولكن المقصود بالحرية الشاملة تلك التي تتناول كل جوانب الحياة، وتمكن الإنسان من العيش والمعايشة بإرادته دون أن يكون مقهوراً أو مظلوماً، أو واقعاً تحت ضغط غير مشروع.

لقد جاء الإسلام في وقت كان ينتشر فيه الرق، ويكثر الاستعباد لفئة من الناس، فعمل على إزالة هذا الموضوع من خلال المكاتبة؛ ليخرج هذا المرء من دائرة العبودية إلى دائرة الحرية، والذين يعيرون الإسلام ظلماً وعدواناً بأنه شَرَعَ أو أقرَّ الرق فقد عجزوا عن العثور على آية واحدة في كتاب الله – عز وجل -، أو حديث واحد في سنة رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – يدعو أو يأمر بالرِّق، إن هؤلاء نسوا أو تناسوا أنه عند ظهور الإسلام كان الرِّق هو القاعدة السائدة التي كانت منتشرة بين أولئك، فقد كان الحكم للقوي، بل أنه كان  يعتمد النظام الاقتصادي لديهم على الرِّق اعتماداً يكاد يكون كلياً، وحين جاء الإسلام عالج قضية الرِّق معالجة حكيمة، فلو أن الإسلام – وهو الدين العالمي الخالد – الذي جعل التدرج أهم صفاته التشريعية حرَّم الرِّق تحريماً حاسماً لاهتز كيان الاقتصاد السائد في ذلك الوقت، بل ليس هذا وحسب فإنه أيضاً سيلقى معارضة شديدة من الأغنياء والكبراء، فكان علاج الإسلام لموضوع الرِّق في بداية الأمر من خلال: أن حرَّم مصادر الرِّق من الاعتداء على النفس، والحرمة التي أوجدها الدين لكل نفس.

والإسلام عند ظهوره وجد منابع الرِّق كثيرة، ومصارفه قليلة أو معدومة، فكثَّـر المصارف، ونظمها ووسعها، وردم المنابع، أو وضع لها من الوصايا ما يجعلها تجف من تلقاء نفسها، سعياً للقضاء عليها، والمتتبع للقرآن الكريم يجد ذلك واضحاً جلياً.

والقرآن حين يتناول موضوع الرقبة وهو مصطلح الرقيق يرى أنه يقرن دائماً في القرآن الرقبة بالتحرير مثل قوله – تعالى -: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}9، وقوله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ * فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ}10.

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً}11، وقال: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}12.

ومن علاج الدين لموضوع الرقيق أن سعى لإلغاء كلمة عبد وأمة ورب تواضعاً؛ لأن العبودية لا تكون إلا لله – عز وجل – فقد جاء عن أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – عَنْ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَنَّهُ قَالَ: ((لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ أَطْعِمْ رَبَّكَ، وَضِّئْ رَبَّكَ، اسْقِ رَبَّكَ، وَلْيَقُلْ سَيِّدِي مَوْلَايَ، وَلَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ عَبْدِي أَمَتِي، وَلْيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي وَغُلَامِي))13.

وما جاء في هذا الباب من النهى عن التسمية فإن ذلك يعتبر من باب التواضع، وجائز أن يقول الرجل: عبدي، وأمتي؛ لأن القرآن قد نطق بذلك في قوله: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ }14، وإنما نهى – عَلَيْهِ السَّلام – عن ذلك على سبيل التطاول والغلظة، لا على سبيل التحريم، واتباع ما حض عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – أولى وأجلُّ، فإن في ذلك تواضعاً لله – تعالى -؛ لأن قول الرجل: عبدي، وأمتي؛ يشترك فيهما الخالق والمخلوق، فيقال: عبد الله، وأمة الله، فكره ذلك لاشتراك اللفظ.

وأما الرب فهي كلمة وإن كانت مشتركة، وتقع على غير الخالق للشيء كقولهم: رب الدار، ورب الدابة، يراد صاحبهما، فإنها لفظة تختص بالله في الأغلب والأكثر، فوجب أن لا تستعمل في المخلوقين لنفى الشركة بينهم وبين الله، ألا ترى أنه لا يجوز أن يقال لأحد غير الله: إله، ولا رحمن، ويجوز أن يقال له: رحيم؛ لاختصاص الله بهذين الاسمين، فكذلك الرب لا يقال لغير الله.15

إذاً فالتطاول على الرقيق مكروه؛ لأن الكل عبيد الله، وهو لطيف بعباده، رفيق بهم، فينبغي للسادة امتثال ذلك في عبيدهم، ومن ملَّكهم الله إياهم، وأوجب عليهم حسن الملك، ولين الجانب، كما يجب على العبيد حسن الطاعة والنصح لساداتهم، والانقياد لهم وترك مخالفتهم.

– وقد كفل الإسلام للإنسان حرية التفكير، وحرر العقل الإنساني من الأوهام والخرافات، والوقوع في أسر التقليد الأعمى، فمن حق الإنسان أن يتمتع بهذا النوع من الحرية: فقد خلق الله الإنسان, ونفخ فيه من روحه, وكرمه بالعقل، والعقل هو الذي كفل له أن يكون الإنسان خليفة الله في الأرض قال – تعالى -: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }16، والإسلام يقرر للإنسان أن يفكر فيما شاء كما يشاء وهو آمن من التعرض للعقاب على هذا التفكير، ولو فكر في إتيان أعمال تحرمها الشريعة، والعلة في ذلك أن الشريعة لا تعاقب الإنسان على أحاديث نفسه، ولا تؤاخذه على ما يفكر فيه من قول أو فعل محرم، وإنما تؤاخذه على ما أتاه من قول أو فعل محرم، وذلك معنى حديث أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – عَنْ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَنَّهُ قَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا وَسْوَسَتْ أَوْ حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَكَلَّمْ))17.

ومن هنا ظهر في الإسلام نتيجة للحرية الفكرية؛ الحرية العلمية، فقد وجدنا العلماء يختلفون، وينتفع بعضهم بكتب بعض، وبآراء بعض، ورأينا اختلاف الفقهاء وسعة صدورهم في الخلاف بين بعضهم وبعض، وهذا كله يدل على حرية الفكر، وعلى الحرية العلمية في داخل الأمة الإسلامية.

إذن الحرية في الإسلام ليست حرية متأرجحة، هشة، أو عشوائية غائمة، وإنما تنطلق من أسس وقواعد ثابتة ورئيسية لا ترتكز عليها الحرية فحسب بل النظام الإسلامي بأسره، وعلى هذا الأساس يمكن أن نقول أن المرتكزات التي تقوم عليها الحرية في الإسلام هي من أقوى الأسس والقواعد التي تقوم عليها فكرة أو مفهوم ما في أي نظام آخر؛ لأن الإسلام لا ينظر إلى الحرية كشيء كمالي، ولا يعتبرها أمراً مزاجياً خاضعاً للذوق والرغبة، بل أقامها على أصولها، واعتبرها جزءاً لا يتجزأ من مبادئه.

إن أخذ الحرية بالمفهوم الإسلامي لا يسمح بحرية الارتداد عن الإسلام، أو اختيار الدين على حسب ما يروق للشخص، واعتبار المرتد غير مستوجب للعقاب لكونه مارس حقه في حرية التفكير، فالإسلام ليس بفكر بشري محتمل للخطأ والصواب، قابل للأخذ والرد، ولكنه الحق المطلق الذي جاء به النبي – صلى الله عليه وسلم – من الله، والذي لا يجوز الدخول في غيره {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ}18، {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}19، ومن ثم فإن الارتداد عن الإسلام، ورفضه بعد الدخول فيه؛ يعتبر إساءة إلى الإسلام، وفتنة لأهله، وتشويها لسمعته، وطعناً في صلاحيته، وسعياً في تفكيك نظام الأمة، وتفريق جماعتها، وإحداث البلبلة والاضطراب في صفوفها، فالارتداد عن الإسلام يقابل الخيانة العظمى في عرف القوانين الدولية المعاصرة، وكما أن الرافض لنظام دولته، الساعي إلى استبداله وقلبه يعاقب بالسجن أو الإعدام، كذلك المرتد عن الإسلام فإنه يعد بردته خارجاً على الأمة، رافضاً لكيانها وسيادتها، ومن أجل ذلك أحل الشرع سفك دمه: ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة))20.

وقد قرر الإسلام عقوبة المرتد عن تجربة وسابقة بدرت من اليهود الذين عاصروا النبي – صلى الله عليه وسلم – حيث تآمروا على الإسلام، وفكروا في الكيد له بالدخول فيه أول النهار، والخروج منه آخره ليبثوا الشك في المسلمين، ويردوهم عن دينهم، وفي ذلك يقول الله – عز وجل -: {وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}21، أفليس من الحكمة والحزم وأخذ الحذر أن يشرع الإسلام عقوبة رادعة لكل من سولت له نفسه أن يعبث بدين الأمة وأمنها وسلامتها؟.

– وكفل الإسلام أيضاً ما سمى بحرية التعبير، وحرية القول والنقد أيضاً، وكل هذه أقرها الإسلام، بل جعل ما هو أكثر من الحرية؛ إذ جعل القول والنقد إذا تعلقت به مصلحة الأمة، ومصلحة الأخلاق والآداب العامة؛ أمراً واجباً، بأن تقول الحق لا تخاف في الله لومة لائم، وأن تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وأن تدعو إلى الخير، وهذا ينتقل من حق إلى واجب إذا لم يوجد من يقوم به، أو إذا كان سكوتك يترتب عليه ضرر في الأمة، أو فساد عام، حين ذاك يجب أن تقول الحق لا تخشى ما يصيبك، وهذا ما وصل إليه الإسلام.

وحرية التعبير ليست مطلقة كما هي اليوم في بلاد الغرب؛ بل هي منضبطة بالشرع، فما أقره الشرع قُبِلْ، وما رفضه الشر ردَّ، ولذا قال النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – لمعاذ بن جبل – رضي الله عنه -: ((كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا. فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟))22.

ليست الحرية التي يزعمونها اليوم، ويتشدقون بها؛ حرية شخصية (هكذا يسمونها)، أي أن تزني، وتشرب الخمر، وترتكب الموبقات كما تشاء، ثم بالنسبة للأمور الأخرى التي تتعلق بالمصلحة فلا حرية، ولا تنقد، ولا تقل ما تعتقد، ولا تقل للمحسن أحسنت، إنما لك الحرية الشخصية، هذه الحرية المزعومة حرية إفساد نفس، وإفساد أخلاق، وإفساد ضمير، وإفساد عبادة، وإفساد أسرة، وإذا كان هذا هو معنى الحرية، فالإسلام لا يقر هذه الحرية، لأنها حرية الفسوق لا حرية الحقوق، إنما الإسلام يقر الحرية حرية التفكير، حرية العلم، حرية الرأي والقول والنقد، حرية الاعتقاد والتدين في إطار الشرع الحنيف، وهذه الحريات التي تقوم عليها الحياة، حرية التعاقد، وحرية التصرف بما لا يؤذي أحداً، حرية التملك بالشروط والقيود المشروعة، بدون ضرر ولا ضرار، فهذه هي القاعدة العامة في الإسلام: لا ضرر ولا ضرار، فأي حرية ترتب عليها ضرر للنفس، أو إضرار للغير؛ يجب أن تمنع، ويجب أن تقيد في هذه الحالة فإن حريتك تنتهي حيث تبدأ حرية غيرك، أما أن تدعى الحرية ثم تدوس الناس فهذا لا يقول به أحد، وهذا ما جاء به الإسلام، وهذا أفضل ما يمكن أن تصل إليه البشرية.

أسأل الله العلي العظيم أن يهدينا سواء السبيل، وأن يحق الحق، ويبطل الباطل، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.


 


1 سورة الإسراء (70).

2 أبو داود (1628)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير (9/278).

3 المصدر السابق.

4 سورة المؤمنون (52).

5 سورة الحجرات (13).

6 سورة النساء (1).

7 الترمذي (3890)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير (9/278).

8 تحفة الأحوذي (9/405).

9 سورة المائدة (89).

10 سورة البلد (10-13).

11 سورة النساء (92).

12 سورة المجادلة (3).

13 البخاري (2366)، ومسلم (4177).

14 سورة النور(32).

15 شرح ابن بطال (13/68).

16 سورة البقرة (30).

17 البخاري (6171).

18 سورة آل عمران (19).

19 سورة آل عمران (85).

20 مسلم (3175).

21  سورة آل عمران (72).

22  الترمذي (2541)، وهو في السلسلة الصحيحة برقم (3/196).