حكم المنَّ والأذى في الصدقة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد أثنى الله -تبارك وتعالى- على الذين ينفقون أموالهم في طاعة الله، ولا يتبعونها بما ينقصها ويفسدها من المنَّ، ووعدهم بأنه سيوفيهم أجرهم، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فقال تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ* قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} سورة البقرة(262)(263).
ما روي في سبب النزول:
روي أنَّ قوله: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أنها نزلت في عثمان بن عفان-رضي الله عنه-، قال عبد الرحمن بن سمرة: جاء عثمان بألف دينار في جيش العسرة فصبها في حجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرأيته يدخل يده فيها ويقلبها، ويقول: (ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم، اللهم لا تنس هذا اليوم لعثمان) وقال أبو سعيد الخدري: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رافعاً يديه يدعو لعثمان يقول: يا رب عثمان إني رضيت عن عثمان فارض عنه، فما زال يدعو حتى طلع الفجر، فنزلت: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى} الآية.. ذكره القرطبي في تفسيره.
شرح الآية:
بعد أن ذكر الله في الآية السابقة فضل الإنفاق في سبيل الله على العموم بين في هذه الآية أن ذلك الثواب المضاعف للمنفق إنما هو لمن لم يتبع نفقته بالمن الأذى، بل أنفق مخلصاً لله محتسباً، فقال تعالى: {الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله} أي أنفق يريد بنفقته وجه الله تعالى وثوابه، ولا يرجو من المنفق عليهم شيئا، حاله كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا} سورة الإنسان(9) ومتى أنفق الإنسان ليريد من المنفق عليه جزاء بوجه من الوجوه، فهذا لم يرد وجه الله، فهذا إذا أخلف ظنه فيه من بإنفاقه وآذى، وكذلك من أنفق مضطرا دافع غرم إما لمانة للمنفق عليه أو لقرينة أخرى من اعتناء معتن فهذا لم يرد وجه الله وإنما يقبل ما كان عطاؤه لله وأكثر قصده ابتغاء ما عند الله كالذي حكي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن أعرابيا أتاه فقال:
يا عمر الخير جزيت الجنة *** أكس بنياتي وأمهنه
وكن لنا من الزمان جنه *** أقسم بالله لتفعلنه
قال عمر: إن لم أفعل يكون ماذا؟ قال:
إذن أبا حفص لأذهبنه
قال: إذا ذهبت يكون ماذا؟ قال:
تكون عن حالي لتسألنه *** يوم تكون الأعطيات هنه
وموقف المسؤول بينهنه *** إما إلى نار وإما جنه
فبكى عمر حتى أخضلت لحيته، ثم قال: يا غلام أعطه قميصي هذا لذلك اليوم لا لشِعْره، والله لا أملك غيره.! قال الماوردي: وإذا كان العطاء على هذا الوجه خاليا من طلب جزاء وشكر وعريا عن امتنان ونشر كان ذلك أشرف للباذل وأهنأ للقابل، فأما المعطي إذا التمس بعطائه الجزاء وطلب به الشكر والثناء كان صاحب سمعة ورياء، وفي هذين من الذم ما ينافي السخاء، وإن طلب الجزاء كان تاجرا مربحاً لا يستحق حمداً ولا مدحاً.
قوله: {ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا} أي لا يحصل منهم بعد الصدقة مَنٌّ بأن يظهر المنفِق مظهر المترفع على المنفَق عليه..
والمنّ: ذكر النعمة على معنى التعديد لها والتقريع بها مثل أن يقول: قد أحسنت إليك ونعشتك وشبهه، وقال بعضهم: المن: التحدث بما أعطى حتى يبلغ ذلك المعطى فيؤذيه.
قوله: {وَلاَ أَذًى} الأذى السب والتشكي، والأذى أعم من المنّ؛ لأن المن جزء من الأذى لكنه نص عليه لكثرة وقوعه. قال سفيان في قوله: {مَنًّا وَلا أَذًى} "أن يقول قد أعطيتك وأعطيت فما شكرت".
والمنّ كبيرة من كبائر الذنوب؛ لما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة تتشبه بالرجال، والديوث. وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والمدمن الخمر، والمنان بما أعطى) وفي بعض طرق مسلم: (المنان هو الذي لا يعطي شيئاً إلا منة).
فمن أنفق ماله مخلصاً في إنفاقه في سبيل الله، ولم يتبع ذلك بأي مفسد من المفسدات فإن الله قد وعده عظيم الأجر والثواب، قال تعالى: {لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} أي ثوابهم على الله لا على أحد سواه {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} أي فيما يستقبلونه من أهوال يوم القيامة {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} أي على ما خلفوه من الأولاد ولا ما فاتهم من الحياة الدنيا وزهرتها لا يأسفون عليها لأنهم قد صاروا إلى ما هو خير لهم من ذلك..
وكفى بهذا فضلا وشرفا للنفقة في سبيل الله تعالى..
قوله تعالى: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} أي تعرفه القلوب ولا تنكره، ويدخل في ذلك كل قول كريم فيه إدخال السرور على قلب المسلم، ويدخل فيه رد السائل بالقول الجميل والدعاء له {وَمَغْفِرَةٌ} لمن أساء إليك بترك مؤاخذته والعفو عنه، ويدخل فيه العفو عما يصدر من السائل مما لا ينبغي، فالقول المعروف والمغفرة خير من الصدقة التي يتبعها أذى؛ لأن القول المعروف إحسان قولي، والمغفرة إحسان أيضا بترك المؤاخذة، وكلاهما إحسان ما فيه مفسد، فهما أفضل من الإحسان بالصدقة التي يتبعها أذى بمنّ أو غيره.
قوله تعالى: {خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى} الصدقة بذل الإحسان المالي، الإنسان قد ينتفع بالمال أكثر مما ينتفع بالكلمة؛ وقد ينتفع بالكلمة أكثر مما ينتفع بالمال، لكن لا شك أن القول المعروف خير من الصدقة التي يتبعها أذى -وإن نفعت؛ لأنك لو تعطي هذا الرجل ما تعطيه من المال صدقة لله عز وجل، ثم تتبعها الأذى، فإن هذا الإحسان صار في الحقيقة إساءة- وإن كان هذا قد ينتفع به في حاجاته- لكن هو في الحقيقة إساءة له.
قوله تعالى: {وَاللّهُ غَنِيٌّ} أي عن غيره؛ فهو سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى أحد، وكل من في السموات والأرض فإنه محتاج إلى الله تعالى، هو غني بذاته عن جميع مخلوقاته، فله الغنى المطلق من جميع الوجوه.
وهو مع ذلك {حَلِيمٌ} على من عصاه لا يعاجله بعقوبة مع قدرته عليه، ولكن رحمته وإحسانه وحلمه يمنعه من معاجلته للعاصين، بل يمهلهم ويصرّف لهم الآيات لعلهم يرجعون إليه وينيبون إليه.
بعض فوائد الآيات:
1. الإشارة إلى الإخلاص لله، ومتابعة الشرع؛ لقوله تعالى: {فِي سَبِيلِ اللّهِ} وليس في أي سبيل آخر..
2. أن من أتبع نفقته منًّا أو أذى، فإنه لا أجر له؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} فإذا أتبع منًّا، أو أذًى بطل أجره، كما هو صريح قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى} سورة البقرة(264).
3. أنَّ المن والأذى يبطل الصدقة؛ وعليه فيكون لقبول الصدقة شروط سابقة، ومبطلات لاحقة؛ أما الشروط السابقة فالإخلاص لله، والمتابعة؛ وأما المبطلات اللاحقة فالمن، والأذى.
4. الحث على الإنفاق في سبيل الله؛ لقوله تعالى: {لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}..
5. أن الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، ويَسْلَمون من المحبطات لا ينالهم خوف في المستقبل، ولا حزن على الماضي؛ لقوله تعالى: {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}.
6. فضيلة القول المعروف؛ لقوله تعالى: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ}؛ و"القول المعروف" كل ما عرفه الشرع والعادة، مثال ذلك: أن يأتي رجل يسأل مالاً بحاله، أو قاله؛ فكلمه المسؤول، وقال: ليس عندي شيء، وسيرزق الله، وإذا جاء شيء فإننا نجعلك على البال، وما أشبه ذلك؛ فهذا قول معروف ليِّن، وهيِّن.
7. الحث على المغفرة لمن أساء إليك؛ لكن هذا الحث مقيد بما إذا كانت المغفرة إصلاحاً؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} سورة الشورى(40) أما إذا لم تكن المغفرة إصلاحاً، مثل أن أغفر لهذا الجاني، ثم يذهب، ويسيء إلى الآخرين، أو يكرر الإساءة إليَّ، فإن الغفر هنا غير مطلوب.
8. أن الأعمال الصالحة تتفاضل، ويلزم من تفاضلها تفاضل العامل، وزيادة الإيمان، أو نقصانه.
مسألـة:
هل مجرد إخبار المنفِق بأنه أعطى فلاناً دون منّ منه بذلك يعتبر من الأذى؟ الجواب: نعم؛ لأن المعطى تنزل قيمته عند من علم به؛ لكن لو أراد بالخبر أن يقتدي الناس به فيعطوه فليس في هذا أذًى، بل هو لمصلحة المعطى، أما إن ذكر أنه أعطى، ولم يعيِّن المعطى فهذا ليس فيه أذى، ولكن يخشى عليه الإعجاب أو المراءاة.
مسألـة أخـرى:
هل المنفق عليه إذا أحس بأن المنفق منّ عليه، أو ربما أذاه هل الأفضل أن يبقى قابلاً للإنفاق أو يرده؟
الجواب الأفضل أن يرده لئلا يكون لأحد عليه منة؛ ولكن إذا رده بعد القبض فهل يلزم المنفِق قبوله؟
الجواب: لا يلزمه قبوله؛ لأنه خرج عن ملكه إلى ملك المنفق عليه؛ فيكون رده إياه ابتداء عطية1. والله أعلى وأعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 للمزيد يراجع: تفسير القرآن العظيم(1/425) لابن كثير. والجامع لأحكام القرآن (3/291- 294) للقرطبي. ومعالم التنزيل(1/326) للبغوي. وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان(113) لابن سعدي. وتفسير ابن عثيمين، المجلد الثالث.