مفهوم التصفية والتربية
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وأصلي وأسلم على خير البرية، وأزكى البشرية، أما بعد:
فإن التصفية: "هي تنقية الإسلام مما ليس منه عقيدة وأحكاماً وأخلاقاً ليعود متلألئاً نقياً في ثوب الرسالة كما أنزل على محمد – عليه السلام -"1، "وهذه التصفية ليست حديثية حسب ما يتوهم أنصاف المثقفين، بل مجالاتها كثيرة تشمل كلّ الدين من العقيدة، والحكم والتحاكم، وعلوم القرآن وتفسيره، والسنة والحديث وعلومها، والفقه وأصوله، والسلوك والتزكية، والتأريخ والدعوة، واللغة، وهذا ما يحققه التجديد"2.
"ولما كانت كل من التصفية والتجديد والإصلاح لا تؤتي أكلها إلا بتربية المسلمين على الإسلام الحق الذي كان عليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم "3؛ قُرنت التصفية بالتربية، والتربية هي: "بلوغ النفس البشرية كمالها المهيأ لها شيئاً فشيئاً"4، أو "هي بناء الإنسان على ما يحقق الهدف السامي من خلقه"5، وهذا كله لا يتحقق إلا إذا كانت التربية تستضيء بنور الشريعة الإلهية، وتسير وفق أحكامها وصلاحها"6.
من أجل هذا كله قامت التربية الإسلامية منذ بدأ ظهورها على أمرين هما: الكتاب، والسنة، ولما كان القرآن كتاباً ثابتاً مذ أنزل حتى اليوم، يحفظه المسلمون، ويرجعون إلى أحكامه، ويهتدون بآياته، وكانت السنة النبوية مدونة كذلك، يحفظها أئمة المسلمين، وهي تعدُّ مكملة لكتاب الله، ومفصلة لأحكامه، ونبراساً يهتدي بها المسلمون في سلوكهم؛ "فلا غرابة – والحالة هذه – أن يمتاز الإسلام بضرب خاص من التربية تختلف في أهدافها ووسائلها عن ألوان التربية الأخرى التي سادت حضارات شتى على مرَّ الزمان، واعتمدت على دعائم مغايرة لتعاليم الإسلام"7.
ظهور التربية في الإسلام:
قبل أن نتكلم عن هذا الأمر لا بد لنا أن نعلم أن المربي على الحقيقة هو الله – سبحانه وتعالى -، فهو خالق الخلق، وواهب المواهب، وقد أكد هذا المعنى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بقوله: ((اللهم آت نفسي تقواها، وزكها وأنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها))8، "من أجل هذا نسبت التربية إلى الرب فقيل التربية الربانية".
ويتقرر هذا بوضوح إذا عرفنا أن الله – عز وجل – أنزل لهذا الإنسان منهجاً للتربية والتوجيه، ذلك المنهج الرباني الذي يتناول الإنسان من تاريخ ولادته، ويتبعه طفلاً ويافعاً، وشاباً وكهلاً حتى يموت، "فصانع منهج التربية الإسلامية الصالحة هو صانع الجهاز الآدمي البشري وموجده، والخبير بكل خلجة من خلجاته، وبكل خلية من خلايا جسمه، وبكل ذرة من ذرات تكوينه"9 {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}10.
وهذا لا يمنعنا أن نقول أن ظهور التربية في الإسلام كان منذ بدء ظهوره، وذلك على يد أستاذ البشرية محمد – صلى الله عليه وسلم -، وحامل رسالة فخر الإنسانية، الذي أرسله الله – تعالى – إلى الناس كافة، يعلمهم أمور دينهم ودنياهم، ويرشدهم إلى الطريق المستقيم قال – سبحانه -: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}11، "وهكذا فقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أول معلم في الإسلام"12.
"وبعد وفاته – عليه الصلاة والسلام – أصبحت تربية الناس وظيفة العلماء العاملين وهم الربانيون، وذلك بتعليمهم الناس كتاب ربهم، وسنة نبيهم كما قال – تعالى -: {وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ}13، ولذلك فسر بعض أهل العلم الربانين بأنهم: هم الذين يربون الناس بصغار العلم قبل كباره"14، وما أحوجنا إلى علماء ربانين صادقين يأخذون بيد هذه الأمة إلى سبل السلام، فإن الأمة أحوج ما تكون إلى الأسوة والقدوة المتمثلة بأخلاق علماء الجيل الأول الذين تمثلوا أخلاق الرسول – صلى الله عليه وسلم – والتي هي نفسها أخلاق القرآن، فتزكوا الأمة بهم، ويكون لها التمكين في الأرض، وما ذلك على الله بعزيز.
"ولم تسقط راية التصفية في أي عصر من العصور، بل إن عدول الأمة من السلف الصالح وأتباعهم في كل قرن يقومون بواجب التصفية ليعود الإسلام نقياً صافياً كما أُنزِلَ على رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وورثه أصحابه"15.
وللعلاقة الوثيقة بين التصفية والتربية يمكن أن يقال: إن التصفية تربية، والتربية تصفية، فالتعلم والتعليم تصفية وتربية؛ لذلك قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه))16.
حكم التصفية والتربية:
لقد امتدت يد التحريف إلى صفاء الإسلام فلوثته، وإلى جماله فشوهته، لذا كانت تصفيته من كل دخيل من أوجب الواجبات، ما دام الحق الذي بعث الله به نبيه – صلى الله عليه وسلم – مضمون البقاء إلى يوم أن تبدل الأرض والسماوات بضمان الله القائل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}17، وإذا دب التحريف إلى قوم، وشحت مناهجهم عن التصفية؛ أصابتهم حيرة لا يفرقون معها بين حلال وحرام كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا: كل مال نحلته عبداً حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرَّمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً))18، ولما كانت الجاهلية على هذا الوصف الذي في الحديث؛ بعث الله نبيه محمداً – صلى الله عليه وسلم – مخلصاً لها دينها من الشوائب، ومربياً لها على الإسلام الذي ارتضاه لها ربها، "وعلى قاعدة "التصفية والتربية"، وإن شئت قل "التخلية والتحلية"؛ كانت دعوة الإسلام"19، وقد لخص الإمام الألباني – رحمه الله – حكم التصفية والتربية بقوله: "لا بد أن تبدأ بالتصفية والتربية، وأي حركة لا تقوم على هذا الأساس لا فائدة منها مطلقاً".
وهذا المعلم الشامخ "أعني التصفية والتربية" قد احتل مساحةً كبيرةً من مجلَّات الحركات الإصلاحية، واتضح ذلك من خلال مقالات عديدة وكثيرة ألقت الضوء على جوانب مهمة في "التصفية والتربية"، و"السلوك وتزكية النفس"، اذكر بعضها على وجه الإجمال:
· أن تزكية النفوس تبدأ "بإصلاح حديث النفس" الذي يهمله بعض المربين والمهتمين بقضايا تزكية النفس، ولعل من أهم أسباب إهمال هذا الجانب الجهل بخطورته وأثره في الأعمال الظاهرة والباطنة، فالأعمال بمثابة الشجرة التي بذرها الخواطر، وأحاديث النفس، وأرضها وتربتها القلب، وقد تكون هذه الشجرة طيبة، وقد تكون خبيثة بحسب البذور والتربة.
· "وإذا أدركنا أهميّة حديث النفس في أعمال القلوب أدركنا أهميتها بالنسبة لأعمال الجوارح، وفي الصحيحين: ((ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب))"20.
· وإذا ضبط المسلم نفسه بإصلاح حديثها؛ وجب عليه الاهتمام بألفاظ لسانه، فإنه حري بكل مسلم أن يعرف موقع كلامه في الاستعمال، فيتخير من الألفاظ الجائزة التي لم يكره الشرع استعمالها، أو لم يأت نص بتحريم استخدامها؛ لأن تحديد المباني اللغوية، ووضوح دلالة معانيها اللغوية؛ أمر ذو قيمة في البناء الثقافي للأمة، إلى درجة أن أصبح كثير من الباحثين والمؤلفين يفردون صفحات في مقدمة مؤلفاتهم لمعجم المصطلحات المستعملة، والدلالات التي أرادوها من استعمال هذه المصطلحات، وهي طريقة محمودة ثقافياً حتى لا يحمل الكلام ما لا يحتمل، ولا يُقَوَّلُ الإنسان ما لم يقل.
· ولا تقف عملية التزكية وإصلاح السلوك عند اهتمام المسلم بقلبه ولسانه، بل لا بد له من إصلاح ما بين إخوانه المسلمين، فإن من أفضل الأعمال، وأقرب القربات إلى الله؛ إصلاح ذات البين بين المسلمين، ومنع وقوع فساد ذات بينهم لقوله – سبحانه -: {فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ}21، ولقوله – صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؛ إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة))22، "ولكن ينبغي أن يُعلَمَ أن إصلاح ذات البين أمر جليل لا يحسنه كل أحد، فيجب أن يكون الذي يقوم بهذه المهمة مخلصاً، يخاف الله في السر والعلانية، عادلاً عارفاً بحقيقة القضية"23.
· وإن ما سبق ذكره من جوانب "السلوك وتزكية النفوس" لا تؤتي ثمارها إلا إذا كان المسلم ذا نفسية مستسلمة لله، وللأسف فإن كثيراً من المسلمين عامتهم وخاصتهم يُخِلُّون بشرط هام من شروط الإسلام بل بصفة أساسية فيه تلك هي صفة الاستسلام لأمر الله – سبحانه -، والتسليم لما جاء عن نبيه – صلى الله عليه وسلم – دون احتجاج أو اعتراض، فإن اسم هذا الدين الحنيف: "الإسلام" قد استمد من هذا المعنى، فهو خضوع كامل من الإنسان لربه ومولاه – تبارك وتعالى – دون توقف أو تردد، ودون تلكؤ أو تحرج، فلا يكفي لادعاء الإسلام أن يشهد المرء بالشهادتين، ويؤدي العبادات وغيرها، ويظهر الحماسة للدين؛ ثم إذا عرضت له آية كريمة، أو حديث صحيح؛ عارضهما بهواه، وخالفهما بفعله، واستخف بأحكامها في سلوكه.
· ومادة السلوك والتزكية هي الأخلاق الصالحة في الإسلام التي تتجلى في كل أمر من أوامره ونواهيه: دقيقها وجليلها، فكانت – بحق – بعثاً جديداً في جوهرها، وكل مسالكها، ودروبها، ونظمها.
ومن المفيد ذكره أن الأخلاق الإسلامية تنبع من الكتاب والسنة، ولذلك فهي والفقه في الدين صنوان، وقد جاء ذلك صريحاً في أحاديث كثيرة منها قوله – صلى الله عليه وسلم -: ((خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا))24، وقد ارتبطت خيرية الإسلام بأمرين:
أ- حسن الخلق.
ب- الفقه في الدين.
ومعلوم أن من فقهه الله في الإسلام فقد أراد به خيراً كما في قوله – صلى الله عليه وسلم -: ((من يرد الله به خيراً يفقه في الدين))25، فعادت الأخلاق الإسلامية إلى الفقه في الدين.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل كانت الأخلاق في تصور خير القرون عقيدة، فتبوأت في حياتهم مكاناً عالياً، وكتب التاريخ سيرتهم بحروف عطرة.
ونهاية القول: "إن الأخلاق الكريمة صلب الشريعة، وجماع الدين الذي بعث الله به محمداً – صلى الله عليه وسلم -، فلا بد من تحقيقها في النفس المسلمة حتى تفلح وتقوم على أمر الله، ومما يؤكد هذه البدهية قوله – عليه الصلاة والسلام -: ((إنما بعثت لأتمم مكارم – وفي رواية: صالح – الأخلاق))26"27.
وخلاصة ما سبق:
أن التصفية والتربية ليست نظرية خيالية، أو فرضية احتمالية، أو تجربة ذاتية تطبق على البعض كعينات مخبرية، بل هي حقيقية إيمانية، فلا تزكية إلا بتربية، ولا تعليم إلا بتصفية، ولكن التخلية قبل التحلية.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
1 مجلة الأصالة (1/17).
2 جريدة البصائر (118-121). ورابطها: http://www.basaernews.i8.com/14/ وهي عبارة عن جريدة أسبوعية عامة تصدر عن هيئة علماء المسلمين بالعراق.
3 جريدة البصائر (128).
4 جريدة البصائر (128).
5 جريدة البصائر (131).
6 جريدة البصائر (129).
7 مجلة الأصالة (15و16/45).
8 رواه مسلم برقم (2722).
16 البخاري (4639).
17 الحجر (9).
18 رواه مسلم برقم (2865).
19 مجلة مدارك (84-85) فصلية تصدر عن مؤسسة مدارك للبحوث والرقي الفكري، على الرابط التالي: http://www.madarik.net/mag.htm.
20 رواه البخاري برقم (52).
21 الأنفال (1).
22 أخرجه الترمذي برقم (2508)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي برقم (2508).
23 مجلة الأصالة (20،13،17).
24 رواه البخاري برقم (3353).
25 رواه البخاري برقم (71).
26 رواه أحمد برقم (2789)، وصححه الألباني في السلسلة برقم (45).
27 الجماعات الإسلامية في ضوء الكتاب والسنة (269-270).