القلب السليم

القلب السليم

الحمد لله الذي قدَّر فهدى، وأخرج المرعى، فجعله غثاءً أحوى، فله الحمد في الآخرة والأولى، الحمد لله القائل في كتابه الكريم: يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ۝ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ1، والصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير – صلى الله عليه وعلى آله وسلم -، أما بعد:

من المعلوم لدى العقلاء أن القلوب هي محل نظر الرب ، وأن الإنسان لا ينتفع بشيء يوم القيامة مثلما ينتفع بالقلب السليم، فما هو القلب السليم الذي لا ينجو يوم القيامة إلا من أتى الله ​​​​​​​ به؟

القلب السليم هو:

1. القلب الذي خلصت عبوديته لله  إرادة، ومحبة، وتوكلاً، وإنابة، وإخباتاً، وخشية، ورجاء، وخلص عمله لله ​​​​​​​ قال الله – تعالى -: أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ2، فإن أحب أحب لله، وإن أبغض أبغض لله، وإن أعطى أعطى لله ، وإن منع منع لله، ولا يكفي هذا حتى يسلم من الانقياد والتحكيم لكل ما عدا منهج الله  ​​​​​​​، ومنهج رسوله – صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم -.

2. القلب الذي يتلقى أوامر الله ​​​​​​​ بمنتهى التسليم والرضا، ويصير وجلاً إذا ذكر به، يزداد إيمانه إذا سمع آيات الله تتلى قال تعالى: وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ3.

3. القلب الخالي من الشرك بالله ، المسّلم له اعتقاداً، المؤمن بربوبيته وألوهيته، وأسمائه وصفاته، فهو قلب طاهر من أدناس الشرك بجميع أنواعه وصوره مهما كانت.

4. القلب المؤمن بأسماء الله  وصفاته العلى، المنزه لله – تعالى – عن كل النقائص، المثبت له ما أثبته لنفسه، وأثبته له فهو قلب لا ينفي صفات الله – تعالى -، ولا يعطلها، ولا يؤولها، واقفاً عند قول الله : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ4.

5. قلب مخلص لله ، ومع ذا فهو خائف وجل، مشفق من تقصيره في حق ربه، خاشع من عظمته، يرى أن ما قدم تجاه مولاه ​​​​​​​  قليل، فيضل يعمل ويسابق تجاه مولاه حتى يفوز برضاه قال الله: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ5، فهو قلب لا يزال يضرب على صاحبه حتى يجعله منيباً إلى الله ​​​​​​​ بنفس حيويته وجديته، وعبوديته وإيمانه، وهو قول النبي كما في حديث النعمان بن بشير  قال: سمعت رسول الله  يقول: الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى أوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب 6.

6. هو قلب آثر الآخرة على الحياة الدنيا، وهبَّ لنصرة دينه، ورفع رايته، لا يقر له قرار إلا يوم يرى كلمة التوحيد عالية خفاقة، فيبذل نفسه مجاهداً في سبيل الله ​​​​​​​، ويقدم روحه رخيصة في سبيل الله.

7. هو قلب طموح توَّاق إلى ما عند الله ، لا يقنع بمكانه من العلم والبذل، يظل طامعاً فيما عند الله، لا ينتهي طموحه إلا في جنات النعيم.

8. وهو قلب صحيح يبرأ من عيوب القلوب وأمراضها، فلا يحمل لأحدٍ من المسلمين غلاً، ولا حقداً، ولا حسداً، ولا غشاً، ولا يصل إليه عجب، ولا يتطرق إليه كبر، فهو منكسر بين يدي ربه  متذللاً له، قد برأ من كل الشبهات التي تخالف خبر الله ​​​​​​​ في كتابه، وعلى لسان رسوله الكريم ، ومن كل الشهوات التي تخالف أمر الله ​​​​​​​، وأمر رسوله، يحذر من تقلب القلوب، ويحذر الآخرة، ويرجو رحمة ربه  قال الله في كتابه: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ7، قال الإمام ابن القيم – رحمه الله – تعليقاً على قول الله – تعالى -: لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ8، “فجعل الله – سبحانه – القلوب ثلاثة: قلبين مفتونين، وقلب ناجي، فالمفتونان القلب الذي فيه مرض، والقلب القاسي، والناجي: القلب المؤمن المخبت لربه، وهو المطمئن إليه، الخاضع له، المستسلم المنقاد”9 أ.هـ، وقال ابن القيم – رحمه الله -: “والقلب السليم هو الذي سلم من الشرك والغل، والحقد والحسد، والشح والكبر، وحب الدنيا والرياسة, فسلم من كل آفة تبعده من الله، وسلم من كل شبهة تعارض خبره، ومن كل شهوة تعارض أمره، وسلم من كل إرادة تزاحم مراده، وسلم من كل قاطع يقطعه عن الله، فهذا القلب السليم في جنة معجلة في الدنيا، وفي جنة في البرزخ، وفي جنة يوم المعاد، ولا يتم له سلامته مطلقاً حتى يسلم من خمسة أشياء: من شرك يناقض التوحيد، وبدعة تخالف السنة، وشهوة تخالف الأمر، وغفلة تناقض الذكر، وهوى يناقض التجريد، والإخلاص يعم، وهذه الخمسة حجب عن الله، وتحت كل واحد منها أنواع كثيرة تتضمن أفراد الأشخاص لا تحصر، ولذلك اشتدت حاجة العبد بل ضرورته إلى أن يسأل الله أن يهديه الصراط المستقيم”10.

فعلى المسلم أن يحرص كل الحرص على نقاء قلبه وصفائه، وإن كثيراً من الناس تجده يحرص على طهارة ثوبه ونقاوته من الأوساخ لكنه لا يحافظ على طهارة قلبه مع أنه محل نظر الله ، فلو أراد إنسان أن يقابل ملك من ملوك الأرض فسوف يلبس أحسن الثياب، ويتطيب بأحسن الطيب؛ مع أنه بشر مثله، فكيف بالله – تعالى -، فعليك أخي في الله أن تحرص على طهارة قلبك حيث هو محل نظر الله  فعن أبي هريرة  قال: قال رسول الله : إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم11.

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يجعل قلوبنا سليمة من الشرك، وأن يتقبل منا إنه على ما يشاء قدير، ونسأله أن يعفو عنا، ويدخلنا الجنة مع الأبرار؛ والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله الأطهار وصحابته الكرام رضوان الله عليهم جميعاً.


1 سورة الشعراء (88- 89).

2 سورة الزمر (3).

3 سورة التوبة (124).

4 سورة الشورى (11).

5 سورة العنكبوت (69).

6 رواه البخاري برقم (52)؛ ومسلم برقم (1599).

7 سورة الزمر (9).

8 سورة الحج (53-54).

9 إغاثة اللهفان من مكائد الشيطان (18).

10 الجواب الكافي (1/84).

11 رواه مسلم برقم (2564).