فقه البدائل الترفيهية

 

 

فقه البدائل الترفيهية

محمد بن صالح المنجد

عناصر الموضوع:

1. إخراج المكلف من عبادة الهوى.

2. الحضارة الغربية وتمتيع الجسد.

3. البحث عن البدائل الإسلامية .

4. سياسة الشريعة في البديل.

5. هدي النبي  في البدائل.

6. البدائل في عالم الفتوى

7. معالم البديل في الفقه الإسلامي

8. من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.

9. مراعاة الشريعة للنفس البشرية

إخراج المكلف من عبادة الهوى

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:

فإن من المقاصد العظيمة للشريعة الإسلامية في أحكامها وتشريعاتها إخراج المكلف من داعية الهوى إلى داعية العبادة، {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}سورة النازعات (40 – 41)، فمن لم يخف ولم ينه النفس عن الهوى أَبْعَد عن طريق الجنة، وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}سورة القصص (50)، فالهوى هو الذي يدفع لكل طغيان وتجاوز ومعصية وهو أساس البلوى، وينبوع الشر، وقلَّ أن يُؤتى الإنسان إلا من قبل هواه.

قال الإمام الشاطبي رحمه الله: (الشارع إنما قصد بوضع الشريعة إخراج المكلف عن اتباع هواه حتى يكون عبداً لله، فمخالفة الهوى ليست من المشقات المعتبرة في التكليف، وإن كانت شاقة في مجال العادات، إذ لو كانت معتبرة حتى يشرع التخفيف لأجل ذلك لكان ذلك نقضاً لما وضعت الشريعة له)الموافقات للشاطبي (2/153).

وهذا يعني أن الشريعة ليست خالية من المشقات، ولو كان أي شيء فيه مشقة الشريعة تجتنبه ما كان للتكليف معنى، وكيف يميز أهل الجنة من أهل النار إذا كانت التكاليف ما فيها مشقات؟ فلا بد أن يكون في التكليف نوع مشقة، ولكنها من نوع المشقات المحتملة التي يطيقها الإنسان؛ لأن الله لا يكلف النفس ما لا تطيق، {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}سورة البقرة (286)، لكنه يكلفها عز وجل، ويمتحنها ويبتليها، ويفرض عليها من الأمور التي فيها نوع مشقة،ما تُبتلى به، وتُميَّز، وتمُحَّص، ويُعرف أهل الجنة من أهل النار، ومراتب أهل الجنة في الجنة، ولذلك وُجِدَت التكاليف والأوامر والنواهي والواجبات والمحرمات، وابتلاء العباد، (واستقرت حكمته سبحانه أنَّ السعادة والنعيم والراحة لا يوصل إليها إلا على جسر المشقة والتعب، ولا يُدْخَل إليها إلا من باب المكاره والصبر وتحمل المشاق، ولذلك حُفت الجنة بالمكاره، والنار بالشهوات)شفاء العليل لابن القيم (1 /225) ؛ لأن الله لما أرسل جبريل إلى الجنة بعدما خلقها، وقال: ما أظن أحد لا يدخلها، كل الناس سيدخلون، فأمر بها فحفت بالمكاره، ومعناه أنه لا طريق إلى الجنة إلا عبر اقتحام المكاره.

هذا الكلام حصل مثله في النار، وحفت بالشهوات، فلا طريق لاقتحام النار والدخول في النار إلا باتباع الشهوات، ومن رحمة الله أنه راعى ما جبلت عليه النفس البشرية من ضعف.

 

الحضارة الغربية وتمتيع الجسد

نقول هذا الكلام اليوم في غمرة الطغيان لقضية الترفيه، وطغيان التسلية واللعب واللهو في حياة الناس،هذه الحياة الغربية الحديثة المأخوذة من طبيعة ومعتقد الرومان الذين كانت حياتهم تقوم على مبدأ تقديس الجسد، ومُتَع الجسد، ولذَّات الجسد، هذه الحضارة الغربية اليوم مبنية على فلسفة الرومان في تمتيع الجسد، ولمَّا يكون الناس ما عندهم إيمان باليوم الآخر يكون كل أمله في هذه الدنيا، فلا بد أن يستمتع فيها إلى آخر قطرة،والوسائل الموجودة الآن في عالم الترفيه والألعاب وغيرها من الأشياء التي تدخل في هذا المجال مبناها واضح جداً على قضية التمتع فتمتعوا، وكلوا واشربوا.

ولما كانت وسائل الترفيه والتمتيع والتلذذ تُصَنَّع عند غير المسلمين في الغالب، فهي لا تخلوا من المحرمات، قد تكون شركيات وكفريات، وقد تكون من أنواع الفواحش واللذات التي فيها ما منع الله عباده منه، وحظره عليهم، وغزتنا في عقر دارنا، في أولادنا ونسائنا وبيوتنا وأجهزتنا، في جوالاتنا، وحاسوباتنا، وقنواتنا، وقصصنا، والمقروءات والمسموعات.

 

البحث عن البدائل الإسلامية

صار الواحد يتأمل في هذه الأشياء الآن يجدها مخلوطة مشوبة، بل مؤسسة ومبنية على أمور كثيرة من المحرمات، وصار بعض الناس يقولون: أين البديل؟ لما صدرت فتاوى أهل العلم مثلاً في تحريم هذه الوسيلة وهذا النوع وهذا المحتوى، وهذه الطريقة صار الناس يقولون: أين البديل؟ وصار هناك توجه إلى قضية تمتيع النفوس بالبدائل الإسلامية كما يقولون، والبحث عن البدائل الإسلامية بتمتيع النفوس واضح، كالقنوات، والألعاب، والأجهزة، أشياء تقوم على مبدأ الترفيه، نوعية المطاعم، وما فيها من التنوع الكبير في الأطعمة، قضية هندسة المطعم نفسه، ومدن الألعاب والترفيه، واضح فيها أن العمق بلغ إلى درجة عميقة، ومستقصية للوقت، ومهيمنة على الحواس بدرجة كبيرة، ومعلوم أن الشريعة جاءت لإخراج المكلف من الهوى إلى العبادة.

صار هناك تناقض وتعارض، الشرع يريد العبادة، ويريد من المسلم أن يقوم لله بأنواع الطاعات، وفيها مشقات، وفيها شيء من الترفيه المباح المعين على الأصل وهو العبادة، فالترفيه في الشرع ليس مقصوداً لذاته، وإنما المقصود به إجمام النفس لتتنشط للعبادة، وشيء من التغيير والتلطيف حتى تستطيع النفس أن تواصل الطريق فيما خلقت من أجله، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}سورة الذاريات. (56) .

وصارت قضية يعني إجمام النفس بقصد النشاط للعبادة فيه أجر، وما يحتاجه الأهل والأولاد منك من نوع ترفيه ولعب مباح للتداخل والتآلف، وزيادة المحبة والتقارب، وما يكون بين الإخوان أيضاً من هذا ليس المقصود منه ذات اللهو واللعب، أو ذات اللعب المباح، المقصود به أن يكون وسيلة لزيادة الأخوة مثلاً، كالملح في الطعام، لكن الذي حصل أنه صارت الأكلة كلها ملح، ولابد أن نعود لنفهم ما هي طريقة الشريعة في الترفيه، ونلقي النظر على موضوع البدائل اليوم الذي صار فيه كلما نهي عن منكر وقيل للناس: هذا لعب محرم مثلاً يقولون: هات البديل، كلما علق تعليق شرعي على قضية محظورة عليها مؤاخذة شرعية قالوا : هات البديل.

فما هي قضية البديل في الشرع، وما معنى قضية البدائل في الشرع؟ وما هي حدودها؟ وما هي ضوابطها؟ وما هي شروطها؟

سياسة الشريعة في البديل

وحديثنا بعنوان: “فقه البدائل الترفيهية” وهو في الحقيقة مقدمة للحديث عن أشياء أخرى كالنشيد الذي غزا اليوم أوساط الشباب والكبار والصغار والذكور والإناث، فحديثنا الآن عن “فقه البدائل الترفيهية” كالمقدمة لفهم أشياء كثيرة في الواقع، ونحن نعلم أن الله سبحانه وتعالى أوجب على العباد أشياء وحرم عليهم أشياء، ومن طريقة الشريعة، وحكمة الشريعة أنها لما أوجبت على الناس أشياء أعطتهم فسحة في مباحات ليستعينوا بها على هذه الواجبات، ولما حرمت عليهم أشياء عوضتهم بأمور أخرى ليست بالضرورة مساوية للمحرمات من جهة اللذة، لما حرم الله علينا أشياء أباح لنا مقابلها أشياء، لكن ليس بالضرورة أن الذي أباحه لنا مساوي من جميع الجهات للمحرمات، بل سيبقى في الحرام نوع شدَّة، ومقاومة الحرام والامتناع عنه سيبقى فيه نوع تكليف، ومشقة، ومجاهدة، فليست كل البدائل المباحة تفوق المحرمات في اللذة، وهذا ما نريد أن نتعرف عليه في قضية بدائل المحرمات، والترفيه المباح الذي يعين على القيام بالواجبات.

أما البديل ككلمة فإنه ما يخلف الشيء ويقوم مقامه، ومن لطف الله ورحمته بخلقه أنه ما حرم عليهم شيئاً إلا أعطاهم البديل الواسع والعوض الطيب الذي يعوض النفس عن الحرام لتستعين به على ترك المحرمات.

قال ابن القيم رحمه الله: (فما حرم الله على عباده شيئاً إلا عوضهم خيراً منه -ولاحظ كلمة “خيراً منه” ليس بشرط معناها أنه يفوقه في اللذة، لكن خيراً منه في نتائجه، وآثاره -كما حرم عليهم الاستقسام بالأزلام وعوضهم منه دعاء الاستخارة، وحرم عليهم الربا وعوضهم منه التجارة الرابحة – وأنا أسأل سؤالاً صريحاً: هل الربا في سهولته مثل التجارة؟ لا، التجارة فيها تعب، وكدَّ ونصب ومشقَّة، وسفر واستيراد وتسويق، ومتابعة، ومحاسبة، وحتى لا تنهب، ولا يضيع المال، ومنافسة، وتطوير خدمات، فالتجارة متعبة، لكن الربا تضع فلوسك في البنك، ويعطوك عليها نسبة خمسة في المائة سبعة في المائة، وأنت جالس ومرتاح، فما هو شرط أن البديل يكون في الراحة مثل الممنوع، هذه أشياء لا بد أن نفهمها، حتى إذا قلنا الشيء الفلاني محرم مثلاً ، فيقال : هات البديل يا شيخ، ، فلا بد أن  تكون هذه القضية واضحة جداً حتى نتلافى سوء الفهم للشريعة، فالشريعة لها طريقة معينة، لا بد من التعرف عليها من خلال كلام العلماء.

قال ابن القيم: (وحرم عليهم القمار وأعاضهم منه أكل المال بالمسابقة النافعة في الدين بالخيل والإبل والسهام،  وحرم عليهم الحرير وأعاضهم منه أنواع الملابس الفاخرة من الصوف والكتان والقطن) – وأنا أسألكم مرةً أخرى: هل الصوف والكتان والقطن مثل الحرير في نعومته وفخامته؟ لا طبعاً- (وحرم عليهم الزنا واللواط وأعاضهم منهما بالنكاح والتسري بصنوف النساء الحسان)

النكاح والتسري في الإماء، لكن لو سألتكم مشقة الزواج مثل مشقة الزنا؟ الزنا لذة عابرة ساعة ساعتين لا تفتح بيت، ولا تأثث، ولا تجيب اسطوانة غاز، ولا تجيب أغراض، ولا مقاضي، ولا تربية الأولاد، ولا مشاكل، والنفقات، وفواتير الكهرباء، والإيجار، ومهر ونفقة شهرية، فالزنا أسهل من الزواج من جهة معينة، لكن إذا أتيت إلى آثار الزنا في الأمراض وأولاد الحرام، والفضيحة والعار، وظلمة النفس، والوحشة، سينتج عنها مصائب كثيرة بخلاف الزواج الذي فيه سكينة وطمأنينة، لكن من جهة الزنا قد يكون أخف وأسهل وألذ من جهة، كل يوم قد يكون مع امرأة بالحرام، أما الزوجة هي هي، أربع زوجات هو الحد الأقصى، لكن كحاجة للنفس هل الزواج يكفي أم لا؟ يكفي حتى تعيش الناس مطمئنة في الدنيا، فيه عفة، ولذة يُسكَّنُها الزواج ، وينتج عن الزواج من الخير والبركة ما لا يوجد في الزنا، فيوجد أسرة وبيت، ونظام، وبناء المجتمع، مما ليس موجوداً في الزنا، بل الزنا على عكسه ونقيضه.

قال: (وحرَّم عليهم شرب المسكر وأعاضهم عنه بالأشربة اللذيذة النافعة للروح والبدن، وحرَّم عليهم سماع آلات اللهو من المعازف والمثاني -أوتار المزامير- وأعاضهم عنه بسماع القرآن والسبع المثاني) – هل خفة ولذة وشهوة الاستمتاع بالأغاني مثل سماع القرآن بتكاليفه الشاقة ؟ : {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ  *نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ*عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ}سورةالشعراء ((191-194)،و {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ*قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا}سورةالمزمل (1-2)،{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} سورة المزمل (5)، لكن القرآن فيه لذة، وسرور وانشراح صدر، وطمأنينة للنفس، فيحقق لها ما لا تحققه الأغاني، لكن من جهة أخرى الأغاني لبعض الناس فيها استمتاع أكثر، فيأتي الشخص ويقول لك: حرمتم الأغاني فما هو البديل؟ تقول له: سماع القرآن، فيأخذها و هو غير مقتنع تماماً، فلما قام بعضهم بقضية تقديم الأناشيد بديلاً عن الأغاني، والأناشيد ما هي مثل القرآن، القرآن له مفعول معين، وأثر معين، أرادوا أن يقدموا للناس بديلاً عن الأغاني، طيب الأغاني ماذا تفعل؟ فيها لذة ونشوة وطرب، فجاءت الأناشيد في البداية بشعر ملحن بطريقة لكنها بدائية، مثل حداء الإبل، ورجز العرب، والصحابة لما كانوا يقولون:  

نحن الذين بايعوا محمداً    على الجهاد ما بقينا أبداً

 

 

فأديت بطريقةٍ ما لكن ليست مثل الأغاني، بالتأكيد الأشعار التي أديت بطريقة معينة ليست مثل الآلات الوترية، ولا يمكن أنها تعوِّض تعويض الآلات الوترية، والأدوات الموسيقية، فصار بعضهم يقول: نريد النشيد يعوضنا عن الأغاني، طيب الموسيقى حرام، إيش الحل؟ قالوا: نأتي بمؤثرات صوتية تقوم مقام الموسيقى، وتعوِّض الموسيقى، طيب الأوتار المزمار الطبل محرمة ماذا نفعل؟ هات واحد يقلد صوت المزمار كحنجرة بشرية، وواحد يقلد صوت الطبل حنجرة بشرية، و هات واحد يقلد صوت القيتار حنجرة بشرية، ومؤثرات طالعة من الكمبيوتر، ترددات، وآهات، ودخلها في الآلات والبرامج صوتية تطلع لك صوت مُطرب شجيَّ، لذيذ، نشوة، فيها تعويض، هنا القضية، هل هذا بديل شرعي؟ فنحن لما جئنا وقلنا نريد شيء مثل الأغاني، أليست الأغاني تُكيِّف وتُطْرِبْ، طيب، نريد نشيد يكيف ويطرب، هل هذه الطريقة في البديل حلال، صحيحة، موافقة للشرع؟ فلا بد أن نفهم سياسة الشريعة في البديل.

قال: (وحرم عليهم الخبائث من المطعومات وأعاضهم عنها بالمطاعم الطيبات، ومن تلمح هذا وتأمله هان عليه ترك الهوى المردي، واعتاض عنه بالنافع المجدي، وعرف حكمة الله ورحمته وتمام نعمته على عباده فيما أمرهم به ونهاهم عنه، وفيما أباحه لهم، وأنه لم يأمرهم بما أمرهم به حاجة منه إليهمالله لن يستفيد شيئاً من عبادتنا، {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا}سورةالحج (37)– قال: ولا نهاهم عنه بُخْلاً منه تعالى عليهم) روضة المحبين (1/11-12).

الله عز وجل لما منعنا من أشياء هل سيستفيد من منعنا؟ لا؛ لأن عنده خزائن السماوات والأرض، {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ}سورةالنحل (96) ،وأيضاً الله عز وجل رحيم، والرحيم لا يعنت عباده، أي أنه يريد أن يشق عليهم لأجل المشقة، ويريد أن يتعبهم لأجل التعب، لا.

 هو يريد أن يتعبهم في أشياء ليرتاحوا بعد ذلك، يريد أن يكلفهم بأشياء فيها نوع مشقة ليؤجروا، ويصير نعيمهم في الجنة عظيماً بعد ذلك، القيام لصلاة الفجر، قيام الليل، الجهاد، النهي عن المنكر، الصدع بالحق، هذه الأشياء الشاقة على النفس لماذا؟ ليستفيد منها ، القائم المصلي المجاهد الصادع المتحمل الصابر، ليستفيد منها هو، ليس الله عز وجل ينتفع بعملنا، ولا يستفيد بمنعنا شيئاً.

قال: (وأنه لم يأمرهم بما أمرهم به حاجة منه إليهم، ولا نهاهم عنه بخلاً منه عليهم، بل أمرهم بما أمرهم إحساناً منه ورحمة ونهاهم عما نهاهم عنه صيانة لهم وحمية)روضة المحبين (1/12). حتى دنيوياً نحن مستفيدون من نهيه، لو أكلنا الخنزير سنتضرر دنيوياً، ولو زنينا سنتضرر دنيوياً، ولو سمعنا الغناء سنتضرر دنيوياً، ولو شربنا الخمر والمخدرات سنتضرر دنيوياً.

فالمحرمات والممنوعات في الشريعة إذاً لها حكمة، وعوضنا الله عن أشياء منها، وبينَّا أنالبديل لا يشترط أن يكون مساوياً أو أشدَّ في بعض الجوانب كاللذة مثلاً من المحرم، وأيضاً فإنه قد يكون أحياناً البديل ليس شيئاً معيناً وإنما أشياء كثيرة لا حصر لهاولا عدَّ، فعندما حرمت الشريعة الخمر أباحت من المشروبات ما لا عدَّ له ولا حصر، وعندما حرمت لبس الحرير على الرجال ولبس الذهب أباحت لهم من الملابس ما لا حصر له ولا عدَّ، وأباحت لبس خاتم الفضة للرجال مقابل خاتم الذهب المحرم؛ لأن الشرع يعلم حاجة الناس للتزين .

لكن مرة ثانية أجيبوني هل الفضة مثل الذهب في اللمعان والبريق والجمال؟ لا، فلما تحرم علينا خاتم الذهب للرجال، وتسمح لنا بخاتم الفضة، لا يشترط أن يكون البديل مثل الممنوع في كل المزايا، وإلا لم يكن للتكليف أي معنى، فأين مشقة التكليف، وأين الابتلاء، وعندما حرمت الشريعة الربا أباحت البيوع بأنواعها مما لا حصر له ولا عد من وجوه المكاسب المختلفة.

أحياناً نجد أن البديل عن الشيء المحرم هو الامتناع عنه و تركه، وتشتغل بعبادة الله، وعبادة الله صنوف وأنواع كثيرة جداً، عبادات للعين، وللأذن، وللسان، وللجوارح، وللقلب، والمحرمات والممنوعات التي حظرتها الشريعة استثنت من عموم التحريم فيها ما تدعو إليه الحاجة العامة وما لا غنى لعموم الناس عنه، فنجد أحياناً إباحة أشياء، واستثناء أشياء من المحرمات لشدة الحاجة إليه أو بسبب الضرورة مثلاً.

قال ابن القيم رحمه الله: (فإن فطام النفوس على مألوفاتها بالكلية من أشق الأمور عليها، فأعطيت بعض الشيء ليسهل عليها ترك الباقي، فإن النفس إذا أخذت بعض مرادها قنعت به، فإذا سئلت ترك الباقي كانت إجابتها إليه أقرب من إجابتها لو حرمت بالكلية -هذه سياسة للشريعة مع النفس- ومن تأمل أسرار الشريعة، وتدبر حِكَمَها رأى ذلك ظاهراً على صفحات أوامرها ونواهيها بادياً لمن نظره نافذ، فإذا حرَّم عليهم شيئاً عوضهم عنه بما هو خير لهم وأنفع، وأباح لهم منه ما تدعو حاجتهم إليه ليسهل عليهم تركه، كما حرم عليهم بيع الرطب بالتمر وأباح لهم منه العرايا، وحرم عليهم النظر إلى الأجنبية وأباح لهم منه نظر الخاطب -للمخطوبة، ونظر الشاهد، ونظر الطبيب، ونظر البائع في أحوال معينة- وَالْمُعَامِلِ وَالطَّبِيبِ، وحرم عليهم أكل المال بالمغالبات الباطلة كالنرد، وأباح لهم أكله بالمغالبات النافعة كالمسابقة والنضال -يعني ((لا سبق– أي هذه الجائزة في المسابقات- إلا في نصل أو خف أو حافر))رواه الترمذي (1700) والنسائي (3586)وصححه الألباني، أباح في جوانب معينة لمصلحة الجهاد في سبيل الله.

“وحرم عليهم لباس الحرير وأباح لهم منه اليسير الذي تدعو إليه الحاجة -مثل الحِكَّة، وعند المرض،وإذا كان في طرف الثوب أقل من أربعة أصابع- وحرم عليهم كسب المال بربا النسيئة وأباح لهم كسبه بالسلم – الأصل أنه ما يجوز أن تبيع شيئاً لا تملكه أبداً، ومادام الشيء غير موجود فلا يجوز لك أن تبيعه، لكن نظراً لوجود حاجة أباح بيع السلم بشروط؟ وما هو بيع السلم؟ هو أن تبيع سلعة لا تملكها، لكن بثمن مقبوض كاملاً في مجلس العقد، موعد تسليم اتفق عليه، مواصفات متفق عليها، وليس في الذهب والفضة، إذا بعت شيئاً سلماً لا يجوز للمشتري أن يبيعه سلماً قبل قبضه، إذاً هذا شيء خرج عن الأصل، فالأصل أن بيع ما لا يوجد حرام، لكن هذا استثناء في بيع السلم للحاجة.

قال: (وحرم عليهم في الصيام وطء نسائهم، وعوضهم عن ذلك بأن أباحه لهم ليلاً فسهل عليهم تركه بالنهار، وحرم عليهم الزنا وعوضهم بأخذ ثانية وثالثة ورابعة، ومن الإماء ما شاءوا، فسهل عليهم تركه غاية التسهيل، وحرم عليهم نكاح أقاربهم- المحارم-، وأباح لهم منه بنات العم والعمة والخال والخالة، وحرم عليهم وطء الحائض وسمح لهم في مباشرتها -الضم والتقبيل والاستمتاعات الأخرى غير الوطء-، فسهل عليهم تركه غاية السهولة، وحرم عليهم الكذب، وأباح لهم المعاريض التي لا يحتاج إلى من عرفها إلى الكذب معها البتة، وحرم عليهم الخُيلاء بالقول والفعل، وأباحها لهم في الحرب، -الخيلاء: أن يمشي مختالاً أمام العدو،ويتبختر- لما فيها من المصلحة الراجحة الموافقة لمقصود الجهاد -مثل إغاظة المشركين- وحرم عليهم كل ذي ناب من السباع، ومخلب من الطير، وعوضهم عن ذلك بسائر أنواع الوحوش والطير على اختلاف أجناسها وأنواعها-المقصود بالوحوش :ما استوحش لأن الحيوانات منها أليف كالغنم، ومنها ما يستوحش كالغزلان مثلاً، وحمار الوحش مباح، والطيور إلا ذات المخلب- وبالجملة فما حرم عليهم خبيثاً ولا ضاراً إلا أباح لهم طيباً بإزائه أنفعُ لهم منه، ولا أمرهم بأمر إلا وأعانهم عليه، فوسعتهم رحمته، ووسعهم تكليفه، وكما قال تعالى: { إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}سورة الفرقان (70)،

قال الحسن البصري (في الدنيا أبدلهم بالعمل السيئ العمل الصالح، وأبدلهم بالشرك إخلاصاً وتوحيداً، وأبدلهم بالفجور إحصاناً ونكاحاً، وبالكفر إيماناً وإسلاماً)تفسير ابن أبي حاتم (10/370)، (فأبدلهم بعبادة الأوثان عبادة الله، وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات)تفسير ابن أبي حاتم (10/370) تفسير الطبري (19/310).

ولم يقتصر التشريع أيها الأخوة والأخوات على إبدال المباحات بالمحرمات، بل تعدى ذلك إلى أن شرع لهم مما يصلح القلوب والأرواح ما هو أعلى وأعظم وأنفع مما حرمه عليهم،

قال ابن القيم رحمه الله (وقد أبطل الله سبحانه بالأذان ناقوس النصارى وبوق اليهود،فإنه – الأذان – دعوة إلى الله سبحانه وتوحيده، وعبوديته ورفعُ الصوت به إعلاء لكلمة الإسلام وإظهاراً لدعوة الحق وإخماداً لدعوة الكفر، فعوض عباده المؤمنين بالأذان عن الناقوس والطمبور، وعوضهم بالقرآن وسماعه عن قرآن الشيطان وسماعه وهو الغناء والمعازف، وعوضهم بيوم الجمعة عن السبت والأحد -عيد النصارى، وعيد اليهود- وعوضهم بالجهاد عن السياحة والرهابنية، وعوضهم بعيد الفطر والنحر عن أعياد المشركين، وعوضهم بالمساجد عن الكنائس والبيع والمشاهد، قد يأتي أحدهم ويقول : الكنائس فيها زخارف وألوان ونقوش ومقاعد وموسيقى، أما المساجد لا تُصفِّر ولا تُحمِّر، ولا تَفْتِن الناس،الكنائس أجمل، وأبهى وأفخم، فهذا منظاره دنيوي، قال:وعوضهم بالاعتكاف والصيام وقيام الليل عن رياضات أهل الباطل من الجوع والسهر والخلوة التي يعطل فيها دين الله، وعوضهم بما سنه لهم على لسان رسوله عن كل بدعة وضلاله)أحكام أهل الذمة (3 /1239)، هذا كلام ابن القيم رحمه الله في عدة مواضع، مثل زاد المعاد وإعلام الموقعين، وروضة المحبين، وأحكام أهل الذمة، وكذلك للعلماء كلام كالشاطبي رحمه الله في الموافقات وابن رجب وغيرهم.

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في البدائل

ما هو هدي النبي  في البدائل؟ من تدبر سيرته عليه الصلاة والسلام يجد ذلك واضحاً في منهجيته في التربية والتعليم، فإنه كان إذا حرم شيئاً بيّن البديل المشروع مقابل ذلك الأمر المحرم، لأنه يعلم أن النفوس ضعيفة، ومجبولة على حب العوض والبديل، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جاء بلال إلى النبي  بتمر برني فقال له النبي : من أين هذا؟، قال بلال :كان عندنا تمر رديء فبعت منه صاعين بصاع، لنطعم النبي ، – قصده إكرام النبي  ، فقال النبي  ، أوه أوه -تقال عند العرب للتوجع-عين الربا، عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر، -طيب، شخص عنده تمرٌ رديء يريد تمراً جيداً، ما هو الحل؟ فصاعين من تمر رديء بصاع من تمر جيد حرام، فأرشده إلى المخرج الشرعي، لتحقيق الرغبة النفسية المباحة، فلا مانع أن تأتي بتمر جيد، فالشريعة ما حرمت هذا، {مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}سورة الأعراف(32)، -قال  : ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم اشتره))أخرجه البخاري ( 2201) ومسلم (1593). إذاً بع التمر الرديء بمالٍ نقداً، ثم خذ هذا النقد واشتري به تمراً جيداً، فحين منع بلال من شراء التمر بالتمر متفاضلاً فتح له باباً آخر من أمر مشروع والبديل المنضبط بمعيار الشريعة، ومن هذا الباب أيضاً ما جاء عن أنس بن مالك، قال ((كان لأهل الجاهلية يومان في كل سنة يلعبون فيهما -يوم النيروز، ويوم المهرجان، هذان اليومان في السنة، يومان معتدلان، فطول النهار مثل طول الليل، والجو معتدل لا حرّ ولا برد، معتدلان في الهواء لا ساكن ولا إعصار، فكان بعض الحكماء المتقدمين المتعلقين بالهيئة قد اختاروا للعيد هذين اليومين المعتدلين من هذه الجهة، فقلدهم أهل زمانهم لاعتقادهم بكمال عقول حكمائهم، فجاء الأنبياء  وأبطلوا ما بنى عليه الحكماء، الآن يأتينا يوم الفطر ويوم النحر في صيف أو شتاء أو ربيع، في ليل طويل، وفي ليل قصير، في هواء ساكن، وهواء متحرك، تتنقل، فهذه حكمة رب العالمين، ورمضان يتغير علينا صيفاً وشتاء وربيعاً وخريفاً وحراً وبرداً وطولاً وقصراً، فنحن نعبد الله تعالى  في كل الفصول-لما قدم النبي   المدينة قال: كان لكم يومان تلعبون فيهما وقد أبدلكم الله بهما خيراً منهما: يوم الفطر، ويوم الأضحى))رواه النسائي (1556) وأبو داود (1134) بسندٍ صحيح.

(فكان للمشركين أعيادٌ زمانية وأعياد مكانية، فلما جاء بالإسلام أبطلها وعوض الحنفاء منها عيد الفطر وعيد النحر، كما عوضهم عن أعياد المشركين المكانية بكعبة ومنى ومزدلفة، وسائر المشاعر)اِنْتَهَى. عون المعبود شرح سنن أبي داود. وكثيراً ما نجد المناهي في القرآن والسنة مذيلة بالتوجيه المناسب، لا تقولوا ولكن قولوا، لا تفعل ولكن إذا أردت، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا}سورةالبقرة(104)، ((لا تقولوا الكرم ولكن قولوا العنب))مسلم (2248).، لأن أهل الجاهلية كانوا يسمون العنب كرماً، لأن الخمر تصنع من العنب وتؤدي إلى الكرم والواحد يجود إذا سكر، ((ولا تقولوا السلام على الله، فإن الله هو السلام، ولكن قولوا التحيات لله والصلوات والطيبات))البخاري (835)، ((لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان))أبو داود (4980) ، ((لا يقل أحدكم أطعم ربك، وضئ ربك، اسقي ربك، وليقل سيدي ومولاي، ولا يقل أحدكم عبدي أمتي، وليقل فتاي وفتاتي، وغلامي))البخاري (2552)، ((لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، وليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي))،الترمذي (971) ، ((إن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا.. ولكن قل :قدر الله وما شاء فعل))مسلم(4816) ، فلما نهى عن اللفظ الخاطئ الآثم أرشد إلى اللفظ الصحيح الطيب.

البدائل في عالم الفتوى

نأتي الآن إلى قضية البدائل في عالم الفتوى، يجيء السؤال وتأتي الفتوى، والسائل يقول هات البديل يا شيخ، تقديم الإفتاء بالبديل المباح عن الإفتاء بمجرد المنع أحكم ولا شك، إذا كان المفتي عنده بديل يعرفه فليرشد المستفتي إليه، يأتيك شخصٌ مثلاً ويقول: ما حكم أن أذهب إلى البنك وآخذ منهم كذا معادن، وأشياء ويضعون لي في حسابي مبلغ وأسدد بزيادة على أقساط، أفتت المجامع الفقهية بتحريم التورق المنظم، وهذه عملية صورية لا فيها رؤية السلعة، ولا معاينة السلعة، ولا استلام السلعة، ولا هي في حوزة البنك، ولا إثبات أنها في حوزة البنك، فيقول الشيخ، اشتري منهم سلعة يملكونها أرضاً أو سيارة أسهماً يملكونها، أسهماً مباحة يملكها البنك، اشتريها منهم بالأقساط، ثم أذهب أنت وبعها بنفسك، ثم خذ الفلوس وانتفع بها وسدد لهم بعد ذلك على أقساط، فإذا وجد المفتي مخرجاً يرشده إلى المخرج، ومن فقه المفتي إذا أفتى بتحريم شيء أن يبين البديل إذا علمه رفقاً بالمستفتي وتيسيراً عليه، وليس معنى هذا أن الفتوى لا تصح إلا بتبيين البديل، قد يكون البديل غائباً عن بال المفتي، وقد لا يعرف المفتي البديل، فهي من جهة الفتوى لا يجوز وإذا أتبعه بالدليل أحسن، هذا الأصل، لكن لو أدرج البديل في فتواه وألحقه وأضافه، كان أحسن وأفضل، وأثبت للناس، قال ابن القيم رحمه الله ((من فقه المفتي ونصحه إذا سأله المستفتي عن شيء فمنعه منه وكان حاجته تدعو إليه أن يدله على ما هو عوض له منه، فيسد عليه باب المحظور، ويفتح له باب المباح، وهذا لا يتأتى إلا من عالم ناصح مشفق، قد تاجر الله وعامله بعلمه، فمثاله في العلماء مثال الطبيب العالم الناصح في الأطباء، يحمي العليل عما يضره، ويصف له ما ينفعه، فهذا شأن أطباء الأديان والأبدان)إعلام الموقعين (4/159).

جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال (إني رجل أصور هذه الصور فأفتني فيها، قال أُدنُ مني، فدنا منه، ثم قال أُدنُ مني، فدنا حتى وضع يده على رأسه، قال أنبئك بما سمعت رسول الله  يقول: ((كل مصور في النار، يُجعل له بكل صورة صورها نفساً فتعذبه في جهنم، فربى الرجل ربوة شديدة وأصفر لونه، فقال له عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ويحك، إن أبيت إلا أن تصنع، فعليك بهذا الشجر، كل شيء ليس فيه روح)البخاري (2225) ومسلم (2110).

قال ابن القيم رحمه الله (وهذا شأن الرسل وورثتهم من بعدهم، ورأيت شيخنا قدس الله روحه الله يتحرى ذلك في فتاويه مهما أمكنه، ومن تأول فتاويه وجد ذلك ظاهراً منها، وقد منع النبي   بلالاً أن يشتري صاعاً من التمر الجيد بصاعين من الرديء، ثم دله على الطريق المباح، فقال :بع الجمع بالدراهم، ثم اشتري بالدراهم جنيباً فمنعه من الطريق الحرام، وأرشده إلى الطريق المباح)إعلام الموقعين (4/159).

بدائل الحرام من الكثرة والوفرة بحيث أنه لا يستطاع حتى استيعابها والإحاطة بها، ولكن توفرها فيه مجال للمفتي أن يختار الأنسب منها للمستفتي ويدله عليها، ولذلك قال العلماء : في الحلال ما يغني عن الحرام، قال شيخ الإسلام: (الدين هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا قوام لأحدهما إلا بصاحبه، فلا ينهى عن منكر إلا ويأمر بمعروف يغني عنه، والنفوس خُلقت لتعمل، لا لتترك، وإنما الترك مقصود لغيره، فإن لم يشتغل بعمل صالح وإلا لم تترك العمل السيئ أو الناقص)اقتضاء الصراط (1 /297)،

إذاً قضية البدائل هي أعمال ولما يأتي شخص للمفتي يقول ما حكم كذا؟ فيقول له: هذا محرم اتركه، طيب، إذاتركته ما هو البديل؟ لأن النفوس ما خلقت لتترك، خلقت لتعمل، فإذا قلت أترك أترك، فيناسب أن تقول اعمل اعمل، طيب، هل يجوز للمفتي أن يتدرج مع المستفتي لإخراجه من المعصية؟ وهل دلالة المستفتي على صغيرة بدل كبيرة يجوز شرعاً؟ طبعاً، الدلالة التي هي بمعنى إباحة هذه الصغيرة للمستفتي حرام، لا يمكن أن المستفتي يسأل عن كبيرة فيجيء المفتي ويقول له: لا، هذه حرام، لكن خذ هذه الصغيرة.

مثل هذا الغبي الذي أفتى بأن تقبيل النساء الأجنبيات بديلٌ عن الزنا، والذي يقول أذهب وشاهد أفلام لكن لا تزني، فَوُجِدَ من التهاويل في هذا الجانب عجب.

هل من الممكن أن يبين المفتي مراتب المعصية للمستفتي؟ فيقول: هذا أقل شراً من هذا، سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن الاستمناء فقال: (نكاح الأمة خير منه، وهو خير من الزنا) سنن البيهقى (2/483) برقم (14512) ومصنف عبد الرزاق (7/390)،

فهو يبين أن هذا الاستمناء خير من الزنا، لا أنه مباح، لأنه ورد في الأسلوب العربي، أو حتى في القرآن أن هذا خيرٌ من هذا وكلاهما محرم، لكن هذا أقل شراً وإثماً وضرراً، وإلا كلها ضارة وفيها إثم، حتى لو أن المكلف نازعته نفسه وأصرَّ أن يفعل هذه أو هذه يعرف أن هذه صغيرة، وهذه كبيرة، اترك المستفتي والمكلف يفرق بين الصغائر والكبائر لكن لا بد أن يفهم أنها كلها محرمة، ولا يجوز للمفتي أن يدله على الصغيرة بمعنى أنه يجوز لك تفعلها، لا، ولكن ليقل هذه أسوأ، وهذه أقل إثماً، لأن التعريف بمراتب المعاصي مفيد للمكلف، حتى لو أراد أن يعصي، وروى أبو نعيم في الحلية،  .

 (أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز دخل على أبيه -وعبد الملك متحمس وهو ولد صالح- يا أمير المؤمنين: ما منعك أن تمضي لما تريد من العدل، فو الله ما كنت أبالي لو غلت بي وبك القدور في ذلك -يقول لأبيه هناك أشياء في الواقع خطأ، أنت ما غيرت كل شيء، غيِّر القرارات دفعة واحدة ، حتى لو غلت بي وبك القدور- فقال له يا بني: إن قومك -من قبلي من الولاة- قد شدوا هذا الأمر عقدة عقدة، وعروة عروة، ومتى ما أريد مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم لم آمن أن يفتقوا عليَّ فتقاً تكثر فيه الدماء، أو ما ترضى أن لا يأتيَ على أبيك يومٌ من أيام الدنيا إلا وهو يميت فيه بدعة، ويُحْيِي فيه سنة، حتى يحكم الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الحاكمين)حلية الأولياء (5/354).

يعني أنا ما استطيع التغيير الكلي في ليلة أغير كل المنكرات، وهذه أشياء تأسست من عشرات السنين ودرج عليها الناس، وكَبُرَ عليها الصغير، وفَنِيَ عليها الكبير، وهاجر عليها الأعرابي وشبَّ عليها الناس، وشابوا لا استطيع أغيرها بين يوم وليلة، يكفيني أني كل يوم أميت بدعة وأحيي سنة، وآمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، أنا لا أتوقف، نموت ويموتوا حتى يحكم الله بيننا، وفي رواية أنه قال له: (لا تعجل يا بني فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة، وأنا أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة، فيدفعونه جملة، ويكون من ذلك فتنة)حلية الأولياء (5/354).

 أخاف أن أحملهم على الحق جملة، فينفروا عنه كله، فأنا آخذهم بالتدريج، وهكذا عمليات الإصلاح، في الواقع الفاسد الذي تَعَتَّقَ الفساد فيه وتخمَّر، لا يكون بين يوم وليلة، فيكون التدرج من باب لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، لا يستطيع إلا هذا، لو أنه يستطيع بقدرته لمحاها في ليلة، وينبغي للمفتي في باب البدائل أن لا يجنح بالناس إلى انحلال ينقض العرى ويهتك المحرمات، والتيسير لا مدخل له في تصيد الرخص، وتتبع الحيل المحرمة لإيجاد البدائل، لأن بعض الناس مع الأسف الآن الذين يفتون ويتكلمون في الدين، يزعمون تقديم بدائل فيها محرمات ويفتون بإباحتها تسهيلاً على الناس، وقد قال سفيان رحمه الله(إنما الفقه الرخصة من ثقة) أعطني رخصة شرعية، أعطني رخصة ثابتة، أعطني رخصة صحيحة، أعطني رخصة بدليل، لا تعطني رخصة من جيبك، فالشرع ليس بملكي ولا بملكك، ولا بد من صدور التيسير من هذا العارف العالم .

معالم البديل في الفقه الإسلامي

لنتعرف على بعض معالم البديل في الفقه الإسلامي، أولاً: لا يشترط أن يكون البديل في درجة المبدل أو مستواه، مثاله المشروبات عصير برتقال ما فيه لذة الخمر، وسكر الخمر، ونشوة الخمر، وكذلك الصوف والقطن والكتان ما فيه نعومة الحرير وفخامة الحرير وليونة الحرير الطبيعي، وهكذا، وليس في الغناء المحرم ما في إلقاء الشعر الموزون، ولا يمكن أن نأتي بنشيد مثل الغناء المحرم في اللذة والنشوة والطرب، وإلا لصار غناء محرماً مثله، ولو أن كل حرام وُجِد له بديل بنفس المستوى والدرجة والميزات ما كان للابتلاء فائدة، وقد اعتاد أكثر الناس إذا سمع فتوى بالتحريم أن يقول أين البديل؟ أين الحل؟

والبعض لا يرضى أن يتنازل ولو على جزء من المنكر ويطالب العلماء بإحداث بديل شرعي بنفس المواصفات والمقاييس، وإذا كان أصلاً لا يمكن أن يُؤْتى ببديل بنفس المواصفات والمقاييس، والله تعبدنا بترك الحرام والنفس تقدر على تركه، ولا يشترط أن تجد بديلاً بنفس اللذة، وليس من شرط البديل أن يكون فيه نفس المتعة، هذا لا بد أن يُفهم، والبدائل الموجودة في الشريعة قد لا توافق هوى أكثر الناس، لأن الحرام فيه لذة لا توجد في بعض المباحات، وكون الحرام له لذة من تزيين إبليس، أحياناً إبليس يصور الزانية في نظر الشخص أجمل من زوجته، مع أنها في الحقيقة ليست كذلك، فلو سئل عشرة من أصحاب الذوق ومقاييس الجمال فسيقولون زوجته أحلى، لكن إبليس يصور له تلك بالحرام أنها أجمل، ثم إن  الفطر منتكسة، لو تأتي له بالحرام يستمتع ويُكيِّف،

وتأتي له بالحلال ينفر ويزهد،لأن نفسه مريضة، وعقله منحرف، إذا صارت النفس منتكسة فكيف يستحلي الحلال، ويأنف وينفر من الحرام، هو تبرمج بطريقة أن الحرام هو الكيف واللذة، والحلال هذا لا يجد له طعماً ولا يستسغه، العلماء والمفتون و الدعاة ليسوا بمكلفين أن يأتوا للناس ببدائل بنفس اللذة والمتعة، خصوصاً أصحاب الكيف المنحرف، {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}سورة محمد (14)،

لا يمكن يكون سماع القرآن في النشوة والطرب مثل سماع الأغاني، لكن عند أهل الإيمان سماع القرآن ألذ, نفوسهم تلتذ به وتنفر من سماع الأغاني, كذلك فإن في القرآن ثقلاً على بعض النفوس, أما سماع الأغاني فخفيفة ومطربة وأين هذا من هذا؟ والبديل الذي يفوق الحرام من كل الجهات ليس موجوداً إلا في الجنة, يعني غناء الحور العين، لبس الحرير في الجنة، لبس الذهب في الجنة، شرب الخمر في الجنة, فإذا كنت تريد بديلاً يتفوق على الحرام من كل الجهات هذا في الجنة, ولذلك جعل الله الجنة دار الكرامة والجزاء لمن صبر على تلك المحرمات، وما فيها من الجاذبية والاستمتاع والنشوة.

من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه

ثانياً: ترك الحرام لابد أن يكون لله وليس لأجل وجود بديل وعدم وجود بديل, فأنت الآن تركك لهذا المحرم لله، أو تريد أن تبقى مستمتعاً، فإذا سحبت منك شيء لابد أحط لك شيء أو لن تكون مستعداً لتمشي خطوة إلى الأمام, ففرق شاسع بين من يترك الحرام طاعة لله وانقياداً وبين أن يتركه لوجود بديل, وفرق بين من يبلغه نهي الشريعة عن شيء فينكفّ عنه ثم يعوضه الله خيراً منه, فإذا علم أن الوظيفة محرمة يقول لك: أنا لن أترك الوظيفة ولن أخرج منها إلا إذا وجدت وظيفة أخرى بديلة, فترك الحرام عنده ما هو متوقف على طاعة الله الفورية, بل متوقف على وجود بديل وإذا ما وجد بديل؟ وأحياناً البديل لا يوفق الله العبد إليه إلا إذا ترك ذاك له, يعني من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه, فيتركه امتثالاً ثم يأتيه الله بالبديل,

على قاعدة: من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه, يا أخي واحد راتبه في مصرف ربوي عشرون ألفاً فمن أين تأتي له ببديل – بعشرين أو خمسة وعشرين مثلاً-, لكن يمكن أن يرزقه الله ببديل بعشرة، لكن بركة العشرة أكثر مما كانت عليه العشرون, ويمكن البديل لا يأتي إلا بعد ترك المحرم, ولا يوفقه الله إليه إلا بعد ترك المحرم, فمن هنا نعلم خطأ بعض الناس الذين يتركون الأشياء المحرمة في بيوتهم ويقول: إذا سحبته يصير في فراغ, ويتذرع في إبقائها بعدم وجود بديل, فهو لا يترك الحرام إلا إذا قدم له البديل الموازي، وهذا خلل في التسليم، وخلل في التطبيق، وخلل في الطاعة، وخلل في الالتزام, فلابد من سمعنا وأطعنا والترك الفوري والتجرد عن الهوى، وتأخذ أجر الامتثال، والتسليم للأمور الشرعية بالرضا والقبول من أساسيات الإسلام وأصول هذا الدين, قال الزهري رحمه الله: (من الله الرسالة, وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاغ وعلينا التسليم),(فالوحي الإلهي لا سبيل إلى مقابلته إلا بالسمع والطاعة والإذعان، وليس لنا بعده خيرة وكل الخيرة في التسليم له والقول به، ولو خالفه من بين المشرق والمغرب)الروح لابن القيم صـ183 فالمؤمن مأمور بالانقياد والإتباع والسمع والطاعة { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}سورة النور (51) { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}سورة الأحزاب (36), ((لما نزل تحريم الخمر وقرأه عليهم {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}سورة المائدة(91)، قالوا: انتهينا انتهينا))رواه أحمد (355). نادى المنادي: الخمر حرمت سكبوها, ((ما راجعوها ولا سألوا عنها بعد خبر الرجل))مسلم (1980).كما

قال أنس رضي الله تعالى عنه, ما توقف امتناعهم عنها على وجود بديل, لما حرم النبي   لحوم الحمر الأهلية في خيبر بادر الصحابة بالامتثال وأكفأوا القدور وهي تفور باللحم، ((لما رأى خاتم ذهب في يد رجل نزعه وألقاه قيل للرجل: خذ خاتمك؟ قال: لا والله ما آخذه))رواه مسلم (2090).

قال رافع بن خديج: ((كنا نحاقل الأرض على عهد رسول الله  فنكريها بالثلث والربع والطعام المسمى, فجاءنا ذات يوم رجل من عمومتي فقال: -وهذه طبعاً قضية فقهية فيها تفصيلات، لكن يحصل أحياناً أنه يجيء واحد إلى صاحب الأرض ويقول له: أنا أزرع لك أرضك بشرط أن تعطيني الثمار التي تنبت على أطراف السواقي والترع والماذيانات؛ لأنه عادة تطلع أكثر وأجود وأنت تأخذ الباقي, لا يجوز أنه يكون المقابل في المزارعة شيئاً في مكان معين من الأرض؛ لأنه ممكن يسلم نصيب الزارع مثلاً, وذلك يموت لا يخرج أو يكون سيئاً فيكون فيه غبن, الآن ندخل في قضية المزارعة والمخابرة, لكن الحديث والشاهد منه قال: ((جاءنا رجل من عمومتي يقول: نهانا رسول الله   عن أمر كان لنا نافعاً -كنا نستفيد منه- وطواعية الله ورسوله أنفع لنا))رواه مسلم (1548).

فقد يأتي واحد ويقول: والله كنا نسير في الشركة على حاجة وكنا مستفيدين منها، ثم جاءتنا الفتوى توقفنا عنها, ، وطاعة الله ورسوله أنفع لنا وأفود لنا, والذي يترك الشيء امتثالاً لأمر الله لابد له من العوض, لمَّا هجر إبراهيم عليه السلام قومه واعتزلهم أمره الله بالهجرة من العراق إلى الشام عوضه الله بالذرية الصالحة وجاءت هاجر وابنها إسماعيل وأصلح الله سارة وابنها إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب, لما ضحى يوسف  ترك الشهوة لله عوضه الله ملكاً في مصر, لما ترك أهل الكهف الراحة وهجروا مكان الفتنة والاضطهاد؛ عوضوا بالراحة العظمى والنوم الهانئ الطويل, وبعد ذلك نالوا ذكراً وشرفاً في الدنيا قبل الآخرة, والمهاجرون لما تركوا مكة, الوطن والأصل والأهل والمال والدار عوضهم الله رزقاً وعزاً وتمكيناً وفتح لهم كسرى وقيصر وكنوز الأرض وولاهم على مكة وعلى غير مكة وفتحها لهم كلها, فما ترك عبدٌ شيئاً لله إلا عوضه الله خيراً منه, وقد جاء عن أبي قتادة وأبي الدهماء قالا: أتينا على رجل من أهل البادية فقال البدوي: أخذ بيدي رسول الله   فجعل يعلمني مما علمه الله تبارك وتعالى وقال: (( إنك لن تدع شيئاً اتقاء الله عز وجل إلا أعطاك الله خيراً منه))أحمد (20215)، وصححه شعيب الأرناؤوط. وإذا لم يأت العوض في الدنيا سيأتي في الآخرة ولا بد وهو أنفع وأحسن ودائم.

وعن أبي بن كعب قال: (ما ترك عبد شيئاً لا يتركه إلا لله إلا آتاه الله بما هو خير منه من حيث لا يحتسب، ولا تهاون عبدٌ أو أخذه من حيث لا يصلح له إلا آتاه الله بما هو أشد منه من حيث لا يحتسب)الزهد لابن المبارك (1/213). إذاً الذي يترك المحرمات صادقاً مخلصاً من قلبه لله؛ فإن الله سيقلب مرارة المشقة عنده إلى حلاوة, فتستحيل لذةً ويعوضه عن ذلك. قال زاذان: (كنت غلاماً حسن الصوت جيد الضرب بالطنبور وكنت أنا وصاحب لي في رابعة وعندنا نبيذ لنا وأنا أغنيهم, إذ مر عبد الله بن مسعود -على الشلة فيها مغني وخمر- فلما سمع الصوت دخل علينا فضرب البَاطِيِّة -إناء الخمر- برجله فأكفأها وانتزع الطنبور من يدي فضرب به الأرض فكسره, ثم قال: لو كان ما أسمع من حسن صوتك هذا يا غلام بالقرآن كنت أنت أنت، ثم مضى, فقلت لأصحابي: من هذا الذي فعل؟ قالوا: هذا عبد الله بن مسعود -طبعاً: كان زمان في سلطان لأهل الخير وأهل الحق, فأهل الشر إذا جوبهوا بهذا خمدوا، وإذا تكلم الواحد تكلم بعدما يذهب رجال الحسبة, فصار الحال إلى ما نرى ونسمع- فألقى الله في نفسي التوبة فسعيت وأنا أبكي فلما بلغ الباب أراد أن يدخل فأخذت بثوبه فالتفت إليَّ فقال: من أنت؟ قلت: أنا صاحب الطنبور, فأقبل علي فاعتنقني وبكى ثم قال: مرحباً بمن يحب والله, اجلس مكانك ثم دخل فأخرج إلي تمراً فقال: كُلْ من هذا التمر ولو كان عندنا غيره أخرجته إليك) تاريخ دمشق (18/284).

فهذا الرجل الذي قال له ابن مسعود: ما أحسن هذا الصوت لو كان بقراءة كتاب الله, وجَّهه لاستغلال هذه الموهبة واستثمارها في طاعته عز وجل, والآن لو قيل لمغني شهرة ومال وحقوق محفوظة, لو قيل لمغني تركض وراءه مؤسسات الإنتاج والإعلام والإعلان والقنوات: اترك لله وجاء يقول: ما هو البديل, وأنا لو تركت هذا ما هو مصدر رزقي؟ أحياناً الواحد يكون مشهوراً في الحرام لو تركه يقول: أنا سأصير شخصاً مغموراً الهالات ستذهب عني، والأضواء ستذهب عني، والشهرة ستذهب، والتفاف الجماهير سأفقده, في الواقع هل نظن أنه إذا تاب سيكسب شهرةً وأضواءً وأموالاً وتهافت الناس عليه مثل أول؟ لا بل يوجد كثير من المغنين والمغنيات التائبين والتائبات لما ترك ما هو فيه صار فقيراً حقيقةً, لكن بصدقه يرزقه الله من القناعة واللذَّة بالواقع الجديد ما يغنيه عن الشهرة والأضواء والأموال وهذا هو لب القصيد, وينبغي على أصحاب الأموال أن يتعاهدوا هؤلاء التائبين ويستوعبوهم, ومن أحسن الأعمال التي تقدمها يا مسلم أن تثبت تائباً بعد توبته, وليس أن يقوم الضُّلال من المفتين في إعادة هؤلاء إلى الغناء مرة أخرى بحجة الغناء الديني, ويقول للمغنية التائبة: حرام تخسر الأمة الموهبة فاذهبي واشتركي في الغناء الديني, وبسبب الفتاوى الضالة عادت بعض المغنيات والممثلات لعالم الفن العفن مرة ثانية, الآن تغني وهي مغطية شعرها, فيا سلام على الفتاوى, لما نتكلم في قضية البديل في الترفيه الإسلامي لابد أن نستوعب أموراً منها: أن الأصل في حياة المسلم الجِدْ, دعونا نناقش القضية من أصولها لما تتكلم عن مسألة الترفية،

الآن الأصل في حياتك ما هو { إِنَّهُلَقَوْلٌ فَصْلٌ}سورةالمدثر(13) هذاجد, {إِنَّاسَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}سورةالمزمل(5)، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}سورةالذاريات(56), فالشرع والدين يستوعب المساحة الواسعة من أعمارنا, هذا هو الأصل, وهذا هو الغالب, وهذا الذي خلقنا الله من أجله, الواحد مكلف الآن بالطاعة والعبادة, صلاة وصدقة وذكر ودعاء وتلاوة, وأمر بالمعروف ونهي عن منكر وتعلم العلم وتعليمه, وتربية النفس وتربية الأولاد… إلى آخره, هذه ستأخذ المساحة الكبرى في حياتك, وليس الترفيه حتى المباح هو الذي سيأخذ المساحة الكبرى في حياتك, فلما يصير الواحد يجري وراء الترفيه أكثر الوقت (ألعاب ومباريات وأناشيد وتسالي وصيد) فلماذا تعيش؟ اسأل نفسك أصلاً ما هو التكليف الذي أنت مكلف به أصلاً, وكيف ترضى أن تصير أكثر حياتك هزل وضحك وتمشيات وسياحة وأناشيد وأكل ومطاعم, كم يذهب عليك من الوقت فيها؟ ثم الشرع جاء بها لتكون كالملح في الطعام, يعني شرع الترفيه ((كُلُّ لَهْوٍ يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ فَهُوَ بَاطِلٌ))المعجمالكبير للطبراني(941)،

وذكر استثناءات وذكر لنا السباحة وذكر لنا الرمي وذكر لنا أشياء، ولكن حتى الترفيه في الإسلام لما تنظر في السباحة لها فوائد, الرمي له فوائد سواءً في الجهاد أو في الصيد وكسب الرزق, الحبشة لما النبي عليه الصلاة والسلام أذن لهم بلعبتهم هذه كانت لعبة حربية, ولما عائشة نظرت إلى الحبشة يلعبون في المسجد كانت لعبة حربية وليست مجرد لعب, النبي   قال عن رقص الأحباش في المسجد: ((لتعلم يهود أن في ديننا فسحة ))رواه أحمد (24334) وصححه الألباني، فما معنى ذلك؟ معناه الأصل في الدين الجد, لكن في فسحة يوم العيد مثلاً, أو رقص الأحباش هذا الذي حصل في المسجد, يوم في السنة وليس كل يوم رقص ويحضر الأحباش للرقص، وعائشة تتفرج كل يوم, فما هو الأصل؟ وما هي الفسحة؟ سأضرب لكم مثال, في الجدول الدراسي لأن بعض الناس أحياناً ما يقتنع إذا ذكرت له الأدلة من الكتاب والسنة, الجدول الدراسي الموضوع في العالم كل يوم فيه سبع حصص من خمس ساعات دراسة كل يوم, في شيء اسمه فسحة كم مدتها؟ ربع ساعة فسحة عشرين دقيقة, وبقيت خمس ساعات كلها دراسة, العمل في الشركات ثمان ساعات وبعض الشركات تعطيهم نصف ساعة، تروح تأخذ لك سندوتش، وقهوة، تمد رجليك, لكي ترجع وتتنشط لعملك, فالعمل ثمان ساعات وفيها نصف ساعة فسحة, فلو أننا سوينا مدرسة أو جامعة يذهب الطالب يدرس ربع ساعة وخمس ساعات لعب, فكيف سيصبح شكل المدرسة هذه أو الجامعة, وما هي الإنتاجية في شركة أو مؤسسات فيها ثمان ساعات لعب, وربع ساعة يشتغل -مراجعين وأوراق وأشياء وإنتاج وتصنيع ربع ساعة!- ماذا يقول الناس؟ هذا جنون, تعال على العبادة المفهوم الشامل لحياة المسلم, إذا كان عندنا  الدين في اليوم نص ساعة التي هي الصلوات الخمس، والباقي ما بين دنيا وروحة وجيَّة وتلفزيونات وبرامج وترفية وسوني استيشن و ألعاب وشات وماسنجر وكرة وفرجة وسياحة وبحر وبر وصيد, ما هذا؟ هذا عكس الصورة لماذا ؟ هل هذه هي حياة المسلم الذي خلقه الله لأجل هذا؟ فالترفية المباح موجود في الشريعة, والنبي صلى الله عليه وسلم سابق عائشة والسباحة مارسها الصحابة, وتبادحوا بقشر البطيخ, لكن كل يوم ثمان ساعات قشر بطيخ! إذاً مسألة النسبة في الموضوع مهمة جداً عندما نناقش قضية البدائل وما هو الأصل؟

مراعاة الشريعة للنفس البشرية

 الشريعة راعت طبيعة النفس البشرية, ولابد من شيء من المراوحة أو الاستجمام والراحة وتجديد النشاط, قال الأُبي رحمه الله: (سنة الله في عالم الإنسان أن جعله متوسطاً بين عالم الملائكة وعالم الشياطين, فمكَّن الملائكة في الخير بحيث يفعلون ما يؤمرون ويسبحون الليل والنهار لا يفترون, ومكَّن الشيطان في الشر والإغواء بحيث لا يغفلون, وجعل عالم الإنسان متلوناً فيه من هذا وهذا) فالطبيعة البشرية ما تتحمل شيئاً واحداً على طول الخط, لابد لها من تغيير, (( والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة )) رواه مسلم (2750)., لكنهم كانوا يجلسون عند النبي عليه الصلاة والسلام هذه المدة الطويلة، ويخرجون مع الأزواج ومع الأولاد وفسحة وأشياء وانبساط وترفيه وغداء, وكان عليه الصلاة والسلام يمازح ويلاعب وسابق بين أصحابه على الخيل, وشارك أصحابه في الرمي, وأقر الحبشة على اللعب بالحراب, وسمح لعائشة بلعب البنات, وقال جابر بن سمرة: (جالست النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مائة مرة, فكان أصحابه يتناشدون الشعر ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية وهو ساكت فربما تبسم معهم) الترمذي (2850) وصححه الألباني.

قال بكر بن عبد الله المزني: (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتبادحون – يعني يترامون- بالبطيخ, هذا قشر البطيخ, فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال) الأدب المفرد (266)، وصححه الألباني في “السلسلة الصحيحة” (435).

قال علي رضي الله تعالى عنه: (أجمُّوا هذه القلوب والتمسوا لها طرائف الحكمة, فإنها تمل كما تمل الأبدان) بهجة المجالس وأنس المجالس (115).

وقال: (لا بأس بالمفاكهة يخرج بها الرجل عن حد العبوس) المراح في المزاح (24،29). يعني إذا رأيت واحد مُعبِّس فذهبت تعطي له طرائف حتى يذهب عنه ما به, فهذا إحسان إليه و لك أجر على ذلك.

كان ابن عباس رضي الله عنهما إذا أكثروا عليه في مسائل القرآن والحديث قال: أحمضوا، يعني: خذوا في الشعر وأخبار العرب, هاتوا شوي تغيير.

قال عبد الله بن مسعود: (أريحوا القلوب فإن القلب إذا أكره عمي) بهجة المجالس وأنس المجالس (115).

قال أبو الدرداء: (إني لأستجم نفسي بالشيء من الباطل غير المحرم فيكون أقوى لها على الحق) بهجة المجالس (115). وهذه عادة الفقهاء والمحدثين في مجالس الحديث والعلم أن يُطَعِمُوها أحياناً بأشياء من النوادر والفكاهات, وإنشاد الشعر والحكايات والقصص ترويحاً, قال العراقي في ألفيته:

واستحسن الإنشاد في الأواخر         بعد الحكايات مع النوادر

وعقد الخطيب في كتابه الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع باب بعنوان: [ختم المجالس بالحكايات ومستحسن النوادر والإنشادات], وكانوا يسمونها (الأبازير), يعني البهارات والتوابل أو الأبذار.

قال سليمان بن حرب: (كنَّا عند حماد بن زيد يحدثنا بأحاديث كثيرة ثم يقول: خذوا في الأبذار فيحدثنا في الحكايات) هذه بمثابة البهارات التي توضع على الطعام, وما خلت بعض مجالس العلماء و فتاويهم من النوادر, دخل رجل على الشعبي فقال: ما تقول في رجل شتمني في أول يوم من رمضان هل يؤجر؟ قال: إن قال لك: يا أحمق فإني أرجو ذلك) العقد الفريد (2/449).

وجاءه رجل فقال: إني تزوجت امرأة فوجدتها عرجاء هل لي أن أردها؟ قال: إن كنت تريد أن تسابق بها فردها.

ودخل الشعبي الحمام فرأى داود الأزدي بلا مئزر يعني فجأة فغمض عينيه, فقال داود: متى عميت يا أبا عمر؟ فقال الشعبي: منذ أن هتك الله سترك.

تحاكم الرشيد وزبيدة إلى أبي يوسف القاضي في الفالوذج واللوزينج أيهما أطيب؟ فقال أبو يوسف: أنا لا أحكم على غائب, فأمر الرشيد بإحضارهما، وقدم بين يدي أبي يوسف, فجعل يأكل من هذا مرة ومن هذا مرة، حتى نصف الجامين ثم قال: يا أمير المؤمنين ما رأيت أعدل منهما كلما أردت أن أحكم لأحدهما أتى الآخر بحجته.

وسكن بعض الفقهاء بيتاً سقفه يقرقع في كل وقت فجاء صاحب البيت يطلب الأجرة فقال له الفقيه: أصلح السقف, أنا مستأجر منك وهذا يجب أن يصلح, فإنه يقرقع, فقال: لا تخف فإنه يسبح الله تعالى, فقال الفقيه: أخشى أن تدركه رقة فيسجد.

وسأل رجل عمرو بن قيس عن حصاة المسجد يجدها الإنسان في خفه أو ثوبه أو جبهته, فقال: أرم بها, قال: زعموا أنها تصيح حتى ترد إلى المسجد, قال: دعها تصيح حتى ينشق حلقها، قال الرجل: أوَلَها حلق؟ قال: فمن أين تصيح إذاً؟!.

ودق رجل على أبي نعيم الفضل بن دكين الباب فقال: من هذا؟ قال: أنا, -طبعاً هذه مكروهة المفروض واحد طرق الباب يعرف من هو-, فقال: أنا, قال: من أنا؟ قال: رجل من ولد آدم, فخرج إليه أبو نعيم وقبله واحتضنه وقال: مرحباً وأهلاً ما ظننت أنه بقي من هذا النسل أحد.

وقال الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله: وقد وقعت لي في كشوف القضاء حوادث منها أننا ذهبنا يوماً إلى كشف على مسكن في طرف دمشق وكان معي في السيارة كاتب المحكمة والزوجة وزوجها, فلما وصلنا جاء عسكري قريب للزوجة فأراد أن يتدخل فمنعته، وكان للعسكري أيام الفرنسيين بعض الرهبة في قلوب الناس, فلما ابتعدنا راجعين قال الزوج: أنا سكت عنه إكراماً لك, يعني للشيخ, ولولاك لمصعت رقبته, فقلت للسائق: قف فوقف, فقلت للزوج: أنا لم أرى في عمري رجلاً يمصع رقبة الآخر وأحب أن أرى هذا المشهد ولا يضرني أن أنتظر, فسأدعوه لك حتى تصنع به ما تريد وفتحت نافذة السيارة ومددت رأسي وناديت العسكري فتبخرت حماسة الرجل وضاعت جرأته وهربت شجاعته وجعل يقول: أرجوك يا سيدي أقبل يدك سامحني لا توقعني معه في ورطة, وأنا ساكت حتى وصل العسكري وصار لون وجه الرجل بلون قشرة الليمون, فقلت للعسكري: يبدو عليك أنك رجل خيِّر ومن يعمل خيراً يكافئه الله فاذهب وحاول أن تصلح بينهما أو الحقنا إلى المحكمة لعلك أن توفق بإقناع قريبتك وزوجها – توفق لإزالة الخلاف-, ولحقنا وتم الصلح بينهما, وأما الرجل فما صدَّق أنه خلص من هذه الورطة.

وقال شيخ الإسلام: حدثني بعض المشايخ أن بعض ملوك فارس قال لشيخ رآه جمع الناس على مثل مجالس السماع, وطبعاً مجالس السماع هذه التي كانت في الصوفية كلها فيها الدف والرقص والغناء، فهذا الشيخ مقدم مجلس السماع للسلطان على أنه هو مجلس ذكر, فلما رآه السلطان قال: يا شيخ إن كان هذا طريق الجنة فأين طريق النار؟ السبب في حاجتنا اليوم للبدائل الترفيهية أنها شغلت الناس كثيراً في هذا الزمن وضاعت أوقات كثيرة بها و وضعوها في قائمة الضروريات.

ثانياً: أن كثيراً من الناس يعيشون فراغاً كبيراً، وبعض الأماكن التي فيها نوع من الغنى، فيها ثروة، فبعض الشباب في بعض الأسر لا يحتاج أن يعمل أصلاً فهناك شركة أبيه والأرباح والأموال, ويمكن بعضهم يداوم في اليوم ساعة ساعتين ويكسب بها أموالاً طائلة فيصير عند الناس أوقات فارغة ماذا يعملون بها؟ فصارت قضية الترفيه دخلت على الناس مع الترف الحاصل, ولذلك فلابد اليوم من عرض هذه الأشياء على الكتاب والسنة ويبيِّن العلماء فيها الأحكام, والقضية صار فيها مليارات في صناعة الترفيه كما نعلم, وهذه الأشياء التي نراها اليوم في الشبكات والألعاب والمواقع والقنوات والأسواق والمنتجعات, وفيها إنفاق أموال كبير جداً ولذلك لابد من دعوة الناس إلى تذكر الآخرة وما أعد الله لأهل الآخرة وأن الإنسان لم يخلق للعب, وما لهذا خلقتم {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ}سورة الأنبياء(16)، وأن قضية الترفية يجب أن تكون بقَدْر وحكمة, ويتفاوت فيها الناس فمثلاً ترفيه الصغار ليس مثل الكبار, الصغير أصلاً يلعب لأنه غير مكلف لو لعب ساعات ليس بعيب, يعني أبو ثلاث وأربع وخمس سنوات هو أصلاً نفسياً يحتاج إلى هذا, ويجب أن تراجع الأمور على ضوء الكتاب والسنة حتى لا يدخل علينا الفساد باسم البديل الإسلامي؛ لأننا صرنا نسمع شيئاً اسمه الغناء الإسلامي والديسكو الإسلامي والفيديو كليب الإسلامي والأغاني الإسلامية, وتحت كلمة إسلامي سوقت أشياء من المحرمات كثيرة, والفن الإسلامي والأفلام مدبلجة يؤتى بها، من إنتاج الكفار والفكرة للكفار والحركات للكفار واضح في الفلم والمسلسل الكرتوني, يضيفوا السلام عليكم, وإن شاء الله و صار إسلامي, وأنه أسلموها وما هي إلا قشور وضعوها في الظاهر، ووجدت أفلام إسلامية وفيها فتيات جميلات وأشياء من الإنشاد مع الدف ثم تطور الطبل ثم تطورت المؤثرات, وصار الآن تنشد قصائد أبي العتاهية في الزهد عند بعض الناس بفرقة موسيقية كاملة, ويسمونها حفلة إسلامية, وصارت بعض المسرحيات يقال لها: مسرح إسلامي, فيها كل شيء الباروكات ووصل الشعر المحرم والأشياء الاصطناعية, وألفاظ نابية، وتمثيل أدوار الكفار والصلبان وأدوار الحيوانات والبهائم والسباب والشتائم وأشياء كثيرة ثم يسمى مسرحاً إسلامياً, ودخلت قضية القنوات على أنها إسلامية وفيها من الهزل والتربية على الميوعة ما الله به عليم, وبعض القنوات على أنها إسلامية فيها اختلاط الرجال والنساء وتُوجَّه الكاميرا على المرأة قال: نزلت دمعتها, ثم يقال: إسلامي, واختلاط في الأستوديو إسلامي, وتبرج أمام الداعية إسلامي, وهكذا من أنواع الانحرافات, وكأن المسألة ليست قضية قشرية ولا لعب وخداع, وبعض الناس يقولون: إن شاء الله سنقدم بدائل إسلامية ما تستطيع تحاكي هوليود ولا سوني, هذه شركات عالمية ضخمة واقتصاديات الترفيه في البلاد الصناعية تحتل المراتب الأولى, وليس بالضرورة أن نسير على منوالهم, نحن كما قلنا: نأخذ بقدر لنستعين به على عبادة الله تعالى, أما ما نراه اليوم من مشابهة هذه الأناشيد للأغاني في كل شيء في طريقتها والحركات وما يسمى بالفيديو كليب ومن يصنعه أو ينتجه أو يخرجه حتى يأتي بأفكاره وخلفيته أحياناً تكون نصرانية ومؤثرات كالموسيقى وأشياء من أنواع المحرمات الكثير الكثير, والواجب علينا أن نتقي الله سبحانه وتعالى ونعلم أن البديل لابد أن يضبط بالشرع وأن يكون بقدر ولا يشترط أن نبحث عن بديل في اللذة والنشوة كما قلنا, وقال ابن القيم: (كل ما يشتهيه الطبع ففيما أباحه الله سبحانه وتعالى غنية عنه) عدة الصابرين صـ 42. ويجب أن لا تخدعنا المظاهر وأن يكون عندنا حقائق وأن يكون عندنا إنتاج من أصله موافق للشرع, ويجب أن نوقن بأن رضا الله قبل رضا الناس, ومن أراد أن يقدم مشروعاً من هذه المشاريع وبديلاً لابد أن يلتمس رضا الله أولاً، ولا يجوز لأحد كما قال شيخ الإسلام أن يغير الشريعة من أجل أحد, وبعض الناس يتوهمون مصالح وهمية ويقيمون عليها علالي وقصوراً, وبعضهم يريد أن يطبب زكاماً فيحدث جذاماً, فلا البديل نصروا ولا المعصية كسروا، والبديل الترفيهي ليس هو الأصل كما قلنا, ولكنه كان معيناً وليس أصلاً, ولم تقتل هذه الأشياء أوقاتهم, ويجب أن نرفع الشعار الأنفع لا الأمتع, وينبغي أن يكون الترفيه له معاني هادفة, وهناك ألعاب تعليمية وألعاب ذكاء وألعاب تنشيطية وحركية بدنية، وأيضاً فإن إضاعة الأموال في هذا الترفيه بهذا الإسراف الموجود لا يقره الشرع, قال ميمون بن مهران: (ما أحب أني أَعْطَيْتُ درهماً في لهو, وأن لي مكانه ألفاً نخشى أن من فعل ذلك أن تصيبه هذه الآية {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}سورة لقمان (6)، حلية الأولياء (4/83).

 ولابد أن نعلم أن ضعف سلطان الشريعة هو الذي يجعل الناس يبحثون دائماً عن  البدائل والترفيه, ولو أن الشريعة كانت في نفوسهم قوية وحية لما جروا وراءها هذا الجري, وينبغي أن نعلم أن الدين يحتاج إلى نصرة وأن حال المسلمين في الأرض اليوم أحوج إلى عمل دءوب ولا وقت الآن للتواني والغرق في هذه الأشياء, ويجب أن تؤسس القضية على سد أوقات الفراغ؛ لأن الوقت إذا صار فيه فراغ قال الناس: هاتوا الاستجمام وهاتوا الترفيه وكيف نشغل أنفسنا؟ فلا بد أن تؤسس مشاريع تستوعب طاقات أفراد الأمة وتصب في صالح الأمة بملء أوقاتهم بما يعود عليها بأنواع القوة والانتشار, وأن يعلم المسلم أن مبدأ {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ *وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}سورةالشرح(7-8)، أنه ينبغي عليهم أن ينتقل بموجبة من طاعة إلى طاعة وإذا فرغ من أشغال الدنيا إلى عبادة الله, واستثمار الصحة والمال والفراغ والشباب بما ينفع الإنسان من مبدأ (( احرص على ما ينفعك )) صحيح مسلم (2664).

نسأل الله عز وجل أن يجعلنا هداة مهتدين وأن يختم لنا بخاتمة السعادة أجمعين, وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.