الزهد .. حقيقته وفضله

الزهد..حقيقته وفضله

 

الخطـبة الأولـى:

الحمد لله الذي أيقظ الغافلين، ونفع بالتذكرة المؤمنين، فلم يشتغلوا بالدنيا وحدها، بل جمعوا بين الدنيا والدين، وعرفوا ما لربهم من الحق فقاموا به قيام الصادقين، أحمده حمد الحامدين، وأشكره وأستعينه فهو نعم المولى ونعم المعين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي المصطفى الأمين، اللهم صلّ وسلّم على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين1, أما بعد:

كثيرا ما نسمع الخطباء والوعاظ يتحدثون عن الزهد ويرغّبون فيه انطلاقا من نصوص الشريعة -كتاب وسنة- والتي مدحت المتصفين بهذه المنقبة العظيمة, وحذرت من الوقوع في مضادتها من الانخراط في متاع الدنيا ونسيان الله والدار الآخرة, وقطع ما أمر الله به أن يوصل بسبب ذلك, فما هو حقيقة الزهد –أيها المسلمون- وما فضله الذي يلحق من عاش حياة الزهد والورع وابتغى بذلك وجه الله والدار الآخرة؟!

هذا ما سنقف سويا معه اليوم في هذه اللحظات, فاسمعوا –رحمكم الله- بقلوبكم قبل آذانكم؛ لنخرج بالفائدة التي تنفعنا في الدنيا والآخرة.

أيها المسلمون:

إن للزهد معنى في لغتنا العربية فهو يعني: القلة في كل شيء، والشيء الزهيد هو القليل، وإنسان مزهد أي قليل المال، والزهيد هو قليل المطعم، ومنه قول الله -عز وجل-: {وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزّاهدين} (20) سورة يوسف.

والزهد ضد الرغبة، ففلان يزهد في الشيء أي يرغب عنه.

ومن معاني الزهد في اصطلاح المسلمين: بغض الدنيا والإعراض عنها، وهو ترك راحة الدنيا طلبا لراحة الآخرة، وعرفه الجرجاني فقال: "هو أن يخلو قلبك مما خلت منه يدك". ويعرفه ابن تيمية فيقول: "الزهد ترك الرغبة فيما لا ينفع في الدار الآخرة, وهو فضول المباح فيما يستعان به على طاعة الله". ويعرفه ابن الجوزي فيقول: "هو عبارة عن انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه". ومثال ذلك ترك الدنيا لحقارتها بالنسبة إلى نفاسة الآخرة، ومعنى ذلك أن من رغب عن شيء وليس مرغوبا فيه ولا مطلوبا في نفسه لا يسمى زاهدا، ويقول ابن القيم عنه: "الزهد سفر القلب من وطن الدنيا وأخذه منازل الآخرة".

عباد الله: إن متعلقات الزهد خمسة أشياء، وهي:

1- المال: وليس المراد من الزهد في المال رفضه، وإنما نعم المال الصالح للعبد الصالح، فالمال قد يكون نعمة إذا أعان صاحبه على طاعة الله -سبحانه وتعالى- وأنفقه في رضوان الله، فعلى سبيل المثال عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- كان من أصحاب الأموال, وكان يستخدم ذلك المال في طاعة ربه، أما المال الذي يفسد صاحبه فيدفعه إلى الطغيان فإن ذلك المال يكون نقمة على صاحبه، يقول الله تعالى: {كلّا إنّ الإنسان ليطغى* أن رّآه استغنى} (6-7) سورة العلق.

2- الملك والرياسة: وليس المراد من الزهد أيضا رفض الملك والرياسة، فسليمان وداود -عليهما السلام- كانا من أزهد الناس في زمانهما، ولهما من الملك ما أخبرنا الله عز وجل, وكذلك يوسف -عليه السلام- قال: {ربّ قد آتيتني من الملك وعلّمتني من تأويل الأحاديث} (101) سورة يوسف. وإنما الملك الذي يطغى صاحبه هو الذي نهى الله عنه، يقول الله سبحانه في النمرود الطاغية: {ألم تر إلى الّذي حآجّ إبراهيم في ربّه أن آتاه اللّه الملك} (258) سورة البقرة.

3- الصورة: فليس من الزهد أن يكون الرجل أشعث أغبر، لا يحسن ما يلبس، ففي الحديث: (لا يدخل الجنّة من كان في قلبه مثقال ذرّة من كبر) قال رجل: إنّ الرّجل يحبّ أن يكون ثوبه حسنا, ونعله حسنة! قال: (إنّ اللّه جميل يحبّ الجمال, الكبر بطر الحقّ وغمط النّاس)2.

4- الزهد عما في أيدي الناس: وعدم استشرافه أو التطلع إليه، وفي هذا يقول -صلى الله عليه وسلم-: (ازهد فيما في أيدي النّاس يحبّك النّاس)3. فإن جاء من الناس للعبد شيء بدون استشراف نفس ولا إذلالها فلا بأس به.

5- النفس: ويقصد بذلك عدم عجب المرء بنفسه فيظن أنه سيخرق الأرض، أو يبلغ الجبال طولا، فيتكبر بمنصبه أو بما أعطاه الله من صورة على خلق الله، وإنما يتواضع ويخفض جناحه للمؤمنين، كما أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم-: {واخفض جناحك للمؤمنين} (88) سورة الحجر.

إن حقيقة الزهد -أيها الناس- هو انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه، فهو إذا يستلزم مرغوبا عنه ومرغوبا فيه خير من المرغوب عنه، والمرغوب عنه لابد أن يكون مرغوبا فيه بوجه من الوجوه.

وإن مما يعينك –أخي المسلم- على الزهد أمور كثيرة، منها: علم العبد أن الدنيا ظل زائل وخيال زائر، فهي كما قال تعالى: {..لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفّار نباته ثمّ يهيج فتراه مصفرّا ثمّ يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة مّن اللّه ورضوان وما الحياة الدّنيا إلّا متاع الغرور} (20) سورة الحديد. ومنها: علم العبد أن وراء الدنيا دارا أعظم منها قدرا وأجلّ، وهي دار البقاء, ومنها: معرفة العبد وإيمانه الحق بأن زهده في الدنيا لا يمنعه شيئا كتب له منها, وأن حرصه عليها لا يجلب له ما لم يقض له منها.

وإن الزهد الحقيقي مداره على صحة اليقين بالله الرزاق، وقوة هذا اليقين، فمن كان قويّ الإيمان، صحيح اليقين، وثق بالله في أموره كلها، وأحسن التوكل عليه، وترك المزاحمة على فضول الدنيا، وانشغل بمحابّ الله تعالى من أنواع العبادة، فيما فتح الله له، من ذكر وصلاة وصدقة وعلم وتعليم ودعوة إلى الله، وأمر بالمعروف ونـهي عن المنكر، وجهاد في سبيل الله, فإذا انشغل المرء بذلك ورضي بما قسم الله له من نعم الدنيا، ووطّن نفسه على القناعة بما رزق منها وعلى التقلل من أمرها، في الطعام، واللباس، والمراكب، والرياسات المشتملة على حب الدنيا، والترفع فيها على الناس، ارتاح قلبه، وذلك أن الاستكثار منها مما يجلب الهمّ والغمّ.

على أن ما جاء من رئاساتـها، مما تعيّن على العبد القيام به، إذا كان ممن وهبه الله – تعالى – العلم، والصلاح، وقوة النفس، فعليه أن يقوم حيث أقامه الله – تعالى -، خدمة للدين، وإصلاحا للناس، ولا يقول: أزهد في الرياسة لما فيها من وجاهة، وزينة، وما تدعو إليه من التفاخر والكبر، بل يقبلها إن علم في نفسه مقدرة على الإصلاح والنفع، والسلامة من الظلم، والسكوت عن المنكرات، ونحو ذلك مما يضره في دينه، فإن خشي وقوع شيء من ذلك فلا يقبل، فالعاقل الموفق لا يعدل بالسلامة في دينه شيئا، ولهذا قالوا: إنما الزهد في القلب، كما أثر عن غير واحد من سلفنا الصالحين.

فحسن التوكل على الله تعالى، وصدق اليقين به سبحانه هو عين الغنى، فمن تحقق من ذلك كان زاهدا، وكان غنيا، وإن خلت يده من فضول الدنيا.

وليس وجود المال مع المرء مانعا ومعارضا لأن يكون زاهدا في الدنيا، بل إنه يكون من الزاهدين إذا اكتسب ماله من الحلال، وأنفقه في محابّ الله، فوصل منه أرحامه، وأحسن إلى جيرانه، أو جهّز غازيا، أو خلفه من هذا المال في أهله بخير، أو غير ذلك من وجوه البر والإحسان، فهذا زهد الراشدين العالمين, لا زهد الجاهلين، وقد سئل الإمام أحمد عمّن معه مال: هل يكون زاهدا؟ فقال: إن كان لا يفرح بزيادته، ولا يحزن بنقصه.

ومراد أحمد -رحمه الله- التنبيه على ألا يكون المال فتنة ينشغل المرء به؛ فيذهب معه عقله حيث ذهب، فيدور حول المال سروره وأحزانه، فينسى أمر الآخرة.

أما إذا فرح بالمزيد من الربح في تجارته لما يمكّنه ذلك من زيادة العمل الصالح، والتقرب إلى الله تعالى, ففرحه بـهذه النية هو من العمل الصالح، وكذا حزنه على تلف ماله، الذي يستغني به عما في أيدي الناس، ويكتفي به عن الوقوف بأبواب السلاطين، فيصون دينه عن النقص، فحزنه هذا ليس مذموما، بل المذموم ما كان حزنا مجردا على فوات الدنيا، لشدة تعلقه بها, وقد روي أن سفيان الثوري –رحمه الله- حزن على تجارة له غرقت، فعوتب في ذلك، فقال: إنما مالي قوام ديني, فكل ما أصاب العبد في الدنيا من المال، يريد به الدنيا وتفاخرها وزينتها فهو متاع الغرور، لأنه يلهيه عن طلب الآخرة، وكل ما كان منها بلاغا إلى ما هو خير منها، فليس بمذموم، وليس هو من متاع الغرور.

وفقنا الله جميعا لما يحب ويرضى, وألهمنا رشدنا إنه سميع مجيب, والحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.. أما بعد:

يقول أبو سليمان: ليس الزاهد من ألقى هموم الدنيا واستراح منها، إنما الزاهد من زهد في الدنيا، وتعب فيها للآخرة.

فالزاهد في الدنيا على هذا النحو يحبه الله، والزاهد فيما في أيدي الناس يحبه الناس، فقد روي أن أعرابياً سأل ناسا من أهل البصرة: من سيد القوم في بلدكم؟ فقالوا: الحسن؛ أي البصري، فقال: بم سادهم؟ قالوا: احتاج الناس إلى علمه، واستغنى هو عن دنياهم.

وقال ربيعة: رأس الزهادة جمع الأشياء بحقها، ووضعها في حقها. وقال سفيان الثوري: الزهد في الدنيا قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ، ولا بلبس العباء, وقال: كان من دعائهم: اللهم زهّدنا في الدنيا، ووسّع علينا منها، ولا تزوها عنا فترغّبنا فيها.4

عباد الله:

إن من أعظم الزهد أن يستغني الإنسان عما في أيدي الناس، وأن يتعلق بالركين الشديد، وهو الله تعالى، كما أمر الله نبيه المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أن يقول لقومه: {قل ما سألتكم مّن أجر فهو لكم إن أجري إلّا على اللّه} (47) سورة سبأ. وقال أيضاً: {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلّفين} (86) سورة ص.

فمن أراد أن يكون عزيز النفس، محبوباً إلى الله وإلى خلقه فليقنع بما آتاه الله ولا يلهث بعد حطام الدنيا على حساب دينه وعرضه، فإن القناعة كنز لا يفنى، ولهذا لما جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا علمته أحبني الله وأحبني الناس؟ قال: (ازهد في الدنيا يحبك الله عز وجل، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس)5.

أيها الناس: كيف نغتر ونتنافس ونتقاتل ونتحاسد على متاع زائل، قد قال فيه ربنا: {وفرحوا بالحياة الدّنيا وما الحياة الدّنيا في الآخرة إلاّ متاع} (26) سورة الرعد. وقال عز وجل: {إنّما مثل الحياة الدّنيا كماء أنزلناه من السّماء فاختلط به نبات الأرض ممّا يأكل النّاس والأنعام حتّى إذا أخذت الأرض زخرفها وازّيّنت وظنّ أهلها أنّهم قادرون عليهآ أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لّم تغن بالأمس كذلك نفصّل الآيات لقوم يتفكّرون} (24) سورة يونس. وقال سبحانه:{لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم واللّه لا يحبّ كلّ مختال فخور} (23) سورة الحديد. وقال تعالى حاكيا عن مؤمن آل فرعون أنه قال: {يا قوم إنّما هذه الحياة الدّنيا متاع وإنّ الآخرة هي دار القرار} (39) سورة غافر.".

وفقنا الله جميعا لسلوك سبيل المؤمنين, وجنبنا سبل القوم المجرمين, وجعلنا ممن رأى الحق حقا فاتبعه, ورأى الباطل باطلا فاجتنبه, اللهم اجعلنا هداة مهتدين صالحين مصلحين, إنك جواد كريم, وصلى الله وسلّم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, والحمد لله رب العالمين.


 


1 الفواكه الشهية في الخطب المنبرية لـ(السعدي).

2 رواه مسلم برقم (131).

3 رواه الحاكم في المستدرك برقم (7985)، والطبراني في الكبير برقم (5839)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (922).

4 بتصرف من موقع المختـار الإسـلامي، وكتاب الفواكه الشهية في الخطب المنبرية، للسعدي.

5 سبق تخريجه.