تحزيب القرآن

تحزيب القرآن

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. أما بعد:

فإن القلوب تصدأ وتقسو، والنفس تضعف، وتهبط بها دواعي الشهوات, وهواتف الدنيا، والإنسان يعيش في هذه الدار في معركة مع النفس والهوى والشيطان.

ولئن كان المقاتل يحتاج للسلاح المعنوي والمادي؛ فالذي يخوض في معركة المصير أولى بأن يعتني بإصلاح نفسه, والذي يحمل لواء الدعوة وراية الإصلاح أولى الناس بأن يهتم بنفسه وتربيتها، وصلتها بالله -عز وجل- وأولاهم بأن يأخذ الزاد في سفره إلى الله والدار الآخرة.

وما تقرب إلى الله بأفضل من تلاوة كتابه والوقوف عند معانيه وحدوده؛ فحريٌّ بنا أن نضرب من ذلك بسهم وافر, ومن رحمة الله بعباده وفضله عليهم أن شرع لهم ما يتعبدون به إليه سبحانه.

ولما كان تحزيب القرآن من السنن المهجورة -بل المجهولة- عند كثير من طلاب العلم فضلاً عن عامة الناس, في حين كان الأمر متواتراً ومعلوماً عند السلف، فقلما تقرأ في ترجمة أحدهم إلا وتجد أنه كان يختم القرآن في كذا وكذا.

وسنورد هنا مسائل نافعة بإذن الله ومحفزة لمن تهاون منا بالقرآن وتراجع في تلاوته وتدبره, ونسأل الله أن ينفعنا بما نقول ونقرأ ونكتب ونسمع, إنه سميع مجيب.

1- مشروعية تحزيب القرآن:

مما يدل على مشروعية تحزيب القرآن ما يلي:

1- حديث عبد الله بن عمرو، وهو حديث طويل مشهور، ولفظه: "كنت أصوم الدهر، وأقرأ القرآن كل ليلة", قال: فإما ذكرت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإما أرسل لي، فأتيته فقال: (ألم أُخبر أنك تصوم الدهر وتقرأ القرآن كل ليلة؟) فقلت: بلى يا نبي الله؛ ولم أرد إلا الخير، قال: (فإن بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام)، ثم قال: (واقرأ القرآن في كل شهر)، قال: قلت: يا نبي الله: إني أطيق  أفضل من ذلك، قال: (فاقرأه في سبع، ولا تزد على ذلك؛ فإن لزوجك عليك حقاً, ولزورك عليك حقاً، ولجسدك عليك حقاً)، قال: شددت؛ فشدد علي، قال: وقال لي النبي-صلى الله عليه وسلم-: (لعلك يطول بك العمر)، فصرتُ إلى الذي قال لي النبي-صلى الله عليه وسلم- فلما كبرت وددت أني قبلت رخصة النبي-صلى الله عليه وسلم1.

2- ما ثبت عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل)2.

3- ما رواه أبو داود عن ابن الهاد قال: سألني نافع بن جبير بن مطعم فقال لي: في كم تقرأ القرآن؟ فقلت: ما أحزِّبه، قال لي نافع: لا تقل ما أحزِّبه؛ فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (قرأت جزءاً من القرآن)3.

4- حديث أوس بن حذيفة الثقفي ولفظه: "قدمنا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في وفد ثقيف, فنزلوا الأحلاف على المغيرة بن شعبة, وأنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بني مالك في قبة له, فكان يأتينا كل ليلة بعد العشاء فيحدثنا قائماً على رجليه حتى يراوح بين رجليه, وأكثر ما يحدثنا ما لقي من قومه من قريش, ويقول: (ولا سواء كنا مستضعفين مستذلين، فلما خرجنا إلى المدينة كانت سجال الحرب بيننا وبينهم ندال عليهم ويدالون علينا), فلما كان ذات ليلة أبطأ عن الوقت الذي كان يأتينا فيه. فقلت: يا رسول الله, لقد أبطأت علينا الليلة! قال: (إنه طرأ عليَّ حزبي من القرآن فكرهت أن أخرج حتى أتمه), قال أوس: فسألت أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: ثلاث وخمس وسبع وتسع وإحدى عشرة وثلاث عشرة وحزب المفصل4.

2- هدي السلف في تحزيب القرآن:

أولاً: ذكر من روي عنه الختم في سبع:

أخرج أبو عبيد في فضائل القرآن, بإسناده عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "إني لأقرأ جزئي -أو قالت: سبعي- وأنا جالسة على فراشي أو على سريري".

  وأخرج الطبراني كما في المجمع وقال: رجاله ثقات، عن الأحوص قال: قال عبدالله: "لا يُقرأ القرآن في أقل من ثلاث، اقرؤوه في سبع، ويحافظ الرجل على حزبه", وكذا أخرجه ابن أبي شيبة دون قوله: "وليحافظ".

وأخرج أبو عبيد في فضائل القرآن، والبيهقي في السنن عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه كان يختم في غير رمضان من الجمعة إلى الجمعة.

وقال الحافظ: أخرج ابن أبي داود عن عثمان وابن مسعود وتميم الداري أنهم كانوا يختمون في سبع. وأخرج أبو عبيد عن إبراهيم أنه كان يقرأ القرآن في كل سبع، وكذا رواه ابن أبي شيبة, وأخرج ابن أبي شيبة والفريابي عن هشام بن عروة قال: "كان عروة يقرأ القرآن في كل سبع".

وأخرج أيضاً عن أبي مجلز أنه كان يؤم الحي في رمضان، وكان يختم في سبع, وأخرج ابن أبي شيبة بإسناده عن إبراهيم قال: "كان عبد الرحمن بن يزيد يقرأ القرآن في كل سبع، وكان علقمة والأسود يقرؤه أحدهما في خمس والآخر في ست، وكان إبراهيم يقرؤه في سبع, وقال ابن قدامة في المغني. وقال عبد الله بن أحمد كان أبي يختم القرآن في النهار في كل سبعة، يقرأ كل يوم سبعاً، لا يكاد يتركه نظراً، وقال حنبل: كان أبو عبد الله يختم من الجمعة إلى الجمعة, وقال إسحاق بن هانىء في مسائله وسئل: في كم يقرأ القرآن؟ قال: أقل ما يقرأ في سبع.

ثانياً: ذكر من روي عنه الختم من الثلاث إلى السبع:

سبق عن علقمة والأسود, أنهما يقرآن في خمس وست.

وكان أبو الدرداء يقرأ القرآن في كل أربع, ومن طريق بلال ابن يحيى: لقد كنت أقرأ بهم ربع القرآن في كل ليلة، فإذا أصبحت قال بعضهم: لقد خففتَ بنا الليلة.

ثالثاً: ذكر من روي عنه الختم في أقل من ثلاث:

ذكر ابن علان عن ابن أبي داود أنه روى عن الأسود بن يزيد أنه كان يختم القرآن في رمضان كل ليلتين, وقال: سنده صحيح.

وأخرج الحافظ من طريق الدارمي عن سعيد بن جبير أنه كان يختم القرآن في كل ليلتين, قال: وأخرجه ابن أبي داود، قال: وأخرج ابن سعد عن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف أنه كان يفعل ذلك, ومن طريق واصل بن سليمان قال: صحبت  عطاء بن السائب فكان يختم القرآن في كل ليلتين.

هل يكون التحزب بالسور أو الأجزاء؟

عقد شيخ الإسلام ابن تيمية لهذه المسألة فصلاً في الجزء الثالث عشر من مجموع الفتاوى ورأى أن التحزيب المشروع هو أن يكون بالسور للأمور الآتية:

1- أن المنقول عن الصحابة هو التحزيب بالسور لا بالأجزاء وذكر حديث أوس بن حذيفة، وقد سبق في أول البحث.

2- أن الأجزاء والأحزاب محدثة وفيه حديث أوس أنهم حزّبوه بالسور، وهذا معلوم بالتواتر فإنه قد علم أن أول ما جُزئ القرآن بالحروف تجزئة ثمانية وعشرين وثلاثين، وستين، هذه الأجزاء التي تكون في أثناء السورة، وأثناء القصة ونحو ذلك كان في زمن الحجاج وما بعده وروي أن الحجاج أمر بذلك. ومن العراق فشا ذلك ولم يكن أهل المدينة يعرفون ذلك.

3- أن هذه التحزيبات تتضمن دائماً الوقوف على بعض الكلام المتصل بما بعده حتى يتضمن الوقوف على المعطوف دون المعطوف عليه، فيحصل القارئ في اليوم الثاني مبتدئاً بمعطوف كقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (24) سورة النساء. وقوله: {وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} (31) سورة الأحزاب. وأمثال ذلك، ويتضمن الوقف على بعض القصة دون بعض -حتى كلام المتخاطبين- حتى يحصل الابتداء في اليوم الثاني بكلام المجيب كقوله تعالى: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} (72) سورة الكهف. ومثل هذا الوقوف لا يسوغ في المجلس الواحد إذا طال الفصل بينهما بأجنبي، ولهذا لو ألحق بالكلام عطف أو استثناء، أو شرط ونحو ذلك بعد طول الفصل بأجنبي لم يسغ ذلك بلا نزاع.

4- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان عادته الغالبة وعادة أصحابه أن يقرأ في الصلاة بسورة كـ(ق) ونحوها، وكما كان عمر -رضي الله عنه- يقرأ بيونس ويوسف والنحل, وأما القراءة بأواخر السور وأواسطها فلم يكن غالباً عليهم.

وقال: وإذا كان تحزيبه بالحروف إنما هو تقريب لا تحديد، كان ذلك من جنس تجزئته بالسور هو أيضاً تقريب، فإن بعض الأسباع قد يكون أكثر من بعض في الحروف, وفي ذلك من المصلحة العظيمة بقراءة الكلام المتصل بعضه ببعض، والافتتاح بما فتح الله به السورة، والاختتام بما ختم به، وتكميل المقصود من كل سورة ما ليس في ذلك التحزب.

 وبعد هذه الوقفات السريعة أرى أنه لا يليق بشاب مسلم طالب للعلم -يحمل بين كاهليه هم الإصلاح والتغيير ودعوة الناس- أن لا يكون له حزب من كتاب الله قل أو كثر.

ومهما ادعى الإنسان المشاغل فهذه الدعوى تحتاج للبينة, ولو أعطي الناس بدعواهم لادعى أقوام دماء أناس وأموالهم, وهذا دليل على قلة اهتمامه، ومتى كانت تلاوة كتاب الله وإصلاح النفس وعبادة الله -عز وجل- مما لا يفعل إلا في وقت الفراغ؟!

ففي التحزيب تأسٍ بالسلف -رضوان الله عليهم- وفيه علاوة على ذلك تحقيق لهديه -صلى الله عليه وسلم- في المداومة على العمل الصالح فقد كان عمله دائماً، وكان يقول: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)5.

وفيه أن الإنسان يُكتب له حزبه إذا شغله عنه مرض أو سفر, وفيه أيضاً تعاهد القرآن كما أمر بذلك -صلى الله عليه وسلم- فعن أبي موسى -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (تعاهدوا القرآن, فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفلتاً من الإبل في عقلها)6.

وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إنما مثل صاحب القرآن كمثل الإبل المعقّلة؛ إن عاهد عليها أمسكها وإن أطلقها ذهبت)7.8.

نسأل الله بمنه وكرمه أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا, وجلاء همومنا وغمومنا, اللهم ذكرنا منه ما نسينا, وعلمنا منه ما جهلنا, وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار, إنك سميع مجيب, وصلِّ اللهم وسلِّم وبارك على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.


 


1 رواه البخاري (4664) (ج 15 / ص 477) ومسلم (1963) (ج 6 / ص 41).

2 رواه مسلم (1236) (ج 4 / ص 107).

3 رواه أبو داود برقم (1184) (ج 4 / ص 164) وصححه الألباني في تحقيق  سنن أبي داود برقم (1392).

4 رواه ابن ماجه برقم (1335) (ج 4 / ص 245). وضعفه الألباني.

5 رواه البخاري (5983) (ج 20 / ص 100) ومسلم (1305) (ج 4 / ص 188).

6 رواه البخاري (4645) (ج 15 / ص 447).

7 رواه مسلم (1313) (ج 4 / ص 198).

8 الموضوع مستفاد -بتصرف يسير- من مجلة البيان العدد 41 ص61 محرم 1411هـ والعدد 42 ص48 صفر 1411هـ.