ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً

(ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً)

 

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}1،{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}2، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}3، أما بعد:

فإننا اليوم سنتحدث عن طبيعة في الإنسان جَبَلَهُ الله – تعالى – عليها؛ إذ جعله كائناً اجتماعياً يأنس بغيره من الناس، فينتقي من الناس من يجالسه، ويذهب ويأتي معه، ويفضي إليه، ويخصه بأسراره، ثم ما يلبث أن يقلده، ويتبع سلوكه وآرائه، ويقتفي أثره، فإذا ما رأيت فلاناً فكأنك ترى خليله؛ وربما كان هذا الصاحب داعيةً إلى الخير والصلاح، حاثاً على البر والتقوى – وهذا خيرٌ عظيمٌ لكلا الصديقين -، لكن الأسى كل الأسى عندما يكون الشيطان هو الموجِّه لهذه الصحبة، والدليل لهذه الخلة؛ فترى العجب العجاب؛ فذلك المسكين قد سلك به صاحبه كل المهالك، وأورده أسوأ المسالك، حتى إذا حُشِرَ الخلق، وعُرِفَ الحق من الباطل؟ وبان صاحب الخير من الشر، والفاجر من البر، يوم يكون الناس في شدة وكرب، قد نظر كلٌ إلى ما قدَّم بعينيه، هنالك يعضُّ الظالم على يديه، فيندم ندماً طويلاً، ويصرخ يا ويلتاه ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً.

وقبل أن تكون هذه الصرخات؛ أردنا أن نستبق الأحداث فنوجه كل شرائح المجتمع، ونخص الأحداث لأنهم أكثر تضرراً بذلك، وأسرع من يُجَرُّوا إلى الدروب الحوالك، وهي في الأول والأخير لكل من ألقى السمع وهو بصير.

وإنك لترى الرجل يمضي بالفطرة على طريق الخير، فإذا بقطاع الطرق – من أهل الشر – يمنعونه من مواصلة السير، ويصدونه عن سواء السبيل، إنهم الرفقة السيئة، إنهم شلة البعد عن الله، شغلهم الشاغل الصد عن سبيل الله، وبهذا جاء البيان من النبي – صلى الله عليه وسلم – ليجلِّي لنا الفرق بين الجليس الصالح الذي يدل على الخير، ويهدي إلى البر، والجليس السوء الذي لا يزال رابضاً في مستنقعات الرذيلة يحمل لواء شؤم المعصية، ويدعو لطريق الضلال صباح مساء؛ بكل ما أوتي من قوة فعن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((مثل الجليس الصالح والسوء؛ كحامل المسك ونافخ الكير؛ فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحاً خبيثةً))4.

وإنما ذكر النبي – صلى الله عليه وسلم – ذلك لعلمه بخطورة الرفقة، وتأثير الصداقة على المعتقد والسلوك وغير ذلك قال الإمام النووي – رحمه الله تعالى – "فيه تمثيله – صلى الله عليه وسلم – الجليس الصالح بحامل المسك، والجليس السوء بنافخ الكير، وفيه فضيلة مجالسة الصالحين، وأهل الخير والمروءة، ومكارم الأخلاق والورع، والعلم والأدب، والنهي عن مجالسة أهل الشر، وأهل البدع، ومن يغتاب الناس، أو يكثر فجره وبطالته"5؛ وهذا بالضبط ما حصل لأبي طالب عم النبي – صلى الله عليه وسلم – الذي كان يدافع عن النبي – صلى الله عليه وسلم -، بل كان قد أخبره من سابق أنه في قرارة نفسه معترف بالدين الإسلامي، فها هو أبو طالب يقول كما ذكر ذلك عنه ابن إسحاق:

"والله لن يصلوا إليك بجـمعـهم    حتى أوسـد في التراب دفينا

فامضي لأمرك ما عليك غضـاضة أبشر وقرّ بذاك منك عيـونا

ودعوتني وعلمتُ أنك نــاصحي         فلقد صدقت وكنت قِدْمُ أمينا

وعرضت دينـاً قد عرفت بــأنه         من خـير أديان البريـة دينا

لولا الملامـة أو حذار مسـبــة         لوجدتني سمـحاً بذاك مبينا"6

لكنها الرفقة السيئة، لكنهم أهل السوء الذين طالما منعوا الخير، لولا الملامة من رفقاء السوء، ولولا العتاب من الأصحاب؛ لكان أبو طالب من أهل الإيمان والله المستعان جاء عن ابن المسيب عن أبيه: "أن أبا طالب لما حضرته الوفاة؛ دخل عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – وعنده أبو جهل، فقال: ((أي عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله))، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب ترغب عن ملة عبد المطلب، فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر شيء كلمهم به: على ملة عبد المطلب، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((لأستغفرن لك ما لم أنه عنه))؛ فنزلت: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}7، ونزلت: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}8"9.

أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين أما بعد:

فإن خطر الرفقة السيئة قد ذكره الله – تعالى – في كتابه الكريم؛ وذلك عند ذكر حال أهل الجنة وما هم فيه من نعيم، وروح وريحان، حيث يتذاكرون ما كانوا عليه في الدنيا، فيذكر أحدهم أنه لولا رحمة الله به لكن من ضحايا رفقاء السوء قال – تعالى – وهو يذكر حديثهم مع بعضهم: {قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ}10، وعند هذه الآيات يذكر العلماء قصة عجيبة حصلت في الأمم السابقة، إنها قصة تؤكد خطورة رفقاء السوء؛ حيث يروي القصة الإمام ابن كثير – رحمه الله تعالى – بسنده إلى أبي حفص أنه قال: "سألت إسماعيل السدي عن هذه الآية: {قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ}، قال: فقال لي: ما ذكرك هذا؟ قلت: قرأته آنفاً فأحببت أن أسألك عنه، فقال: أما فاحفظ: كان شريكان في بني إسرائيل أحدهما مؤمنٌ والآخر كافرٌ، فافترقا على ستة آلاف دينار لكل واحدٍ منهما ثلاثة آلاف دينار، ثم افترقا فمكثا ما شاء الله – تعالى – أن يمكثا، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن: ما صنعت في مالك؟ أضربت به شيئاً؟ أتجرت في شيء؟ فقال له المؤمن: لا فما صنعت أنت؟ فقال: اشتريت به أرضاً ونخلاً، وثماراً وأنهاراً بألف دينارٍ. قال: فقال له المؤمن: أو فعلت؟ قال: نعم. قال: فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله – تعالى – أن يصلي؛ فلما انصرف أخذ ألف دينارٍ فوضعها بين يديه ثم قال: اللهم إن فلاناً – يعني شريكه الكافر – اشترى أرضاً ونخلاً، وثماراً وأنهاراً بألف دينارٍ، ثم يموت غداً ويتركها؛ اللهم إني اشتريت منك بهذه الألف دينارٍ أرضاً ونخلاً، وثماراً وأنهاراً في الجنة، قال: ثم أصبح فقسمها في المساكين، قال: ثم مكثا ما شاء الله – تعالى – أن يمكثا، ثم التقيا، فقال الكافر للمؤمن: ما صنعت في مالك أضربت به في شيء؟ أتجرت به في شيء؟ قال: لا. قال: فما صنعت أنت؟ قال: كانت ضيعتي قد اشتد علي مؤنتها؛ فاشتريت رقيقاً بألف دينارٍ يقومون لي فيها، ويعملون لي فيها، فقال له المؤمن: أوفعلت؟ قال: نعم. قال: فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله – تعالى – أن يصلي، فلما انصرف أخذ ألف دينارٍ فوضعها بين يديه، ثم قال: اللهم إن فلاناً – يعني شريكه الكافر – اشترى رقيقاً من رقيق الدنيا بألف دينار؛ يموت غداً فيتركهم، أو يموتون فيتركونه؛ اللهم إني اشتريت منك بهذه الألف الدينار رقيقاً في الجنة، قال: ثم أصبح فقسمها في المساكين، قال: ثم مكثا ما شاء الله – تعالى – أن يمكثا ثم التقيا، فقال الكافر للمؤمن: ما صنعت في مالك؟ أضربت به في شيء؟ أتجرت به في شيء؟ قال: لا فما صنعت أنت؟ قال: كان أمري كله قد تم إلا شيئاً واحداً؛ فلانةٌ قد مات عنها زوجها، فأصدقتها ألف دينارٍ؛ فجاءتني بها ومثلها معها، فقال له المؤمن: أو فعلت؟ قال: نعم. قال فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله – تعالى – أن يصلي، فلما انصرف أخذ الألف الدينار الباقية فوضعها بين يديه، وقال: اللهم إن فلاناً – يعني شريكه الكافر – تزوج زوجة من أزواج الدنيا بألف دينارٍ فيموت غداً فيتركها، أو تموت غداً فتتركه؛ اللهم وإني أخطب إليك بهذه الألف الدينار حوراء عيناء في الجنة، قال: ثم أصبح فقسمها بين المساكين، قال: فبقي المؤمن ليس عنده شيء. قال: فلبس قميصاً من قطنٍ، وكساءً من صوفٍ، ثم أخذ مراً فجعله على رقبته يعمل الشيء ويحفر الشيء بقوته، قال: فجاءه رجل فقال: له يا عبد الله أتؤاجرني نفسك مشاهرةً – شهراً بشهرٍ – تقوم على دواب لي تعلفها، وتكنس سرقينها؟ قال: أفعل. قال: فواجره نفسه مشاهرةً – شهراً بشهرٍ – يقوم على دوابه، قال: وكان صاحب الدواب يغدو كل يوم ينظر إلى دوابه؛ فإذا رأى منها دابة ضامرةً؛ أخذ برأسه فوجأ عنقه، ثم يقول له: سرقت شعير هذه البارحة، قال: فلما رأى المؤمن هذه الشدة. قال: لآتين شريكي الكافر؛ فلأعملن في أرضه؛ فليطعمني هذه الكسرة يوماً بيومٍ، ويكسوني هذين الثوبين إذا بليا، قال: فانطلق يريده فانتهى إلى بابه وهو ممس، فإذا قصر مشيد في السماء، وإذا حوله البوابون، فقال لهم: استأذنوا لي على صاحب هذا القصر، فإنكم إذا فعلتم سرَّه ذلك، فقالوا له: انطلق إن كنت صادقاً فنم في ناحية، فإذا أصبحت فتعرض له. قال: فانطلق المؤمن، فألقى نصف كسائه تحته ونصفه فوقه ثم نام، فلما أصبح أتى شريكه فتعرض له، فخرج شريكه الكافر وهو راكب، فلما رآه عرفه فوقف وسلم عليه وصافحه، ثم قال له: ألم تأخذ المال مثل ما أخذت؟ قال: بلى، قال: وهذه حالي وهذه حالك؟ قال: بلى. قال: أخبرني ما صنعت في مالك؟ قال: لا تسألني عنه قال فما جاء بك؟ قال: جئت أعمل في أرضك هذه فتطعمني هذه الكسرة يوماً بيومٍ، وتكسوني هذين الثوبين إذا بليا. قال: لا ولكن أصنع بك ما هو خير من هذا؛ ولكن لا ترى مني خيراً حتى تخبرني ما صنعت في مالك؟ قال: أقرضته. قال: من؟ قال: المليء الوفي. قال: من؟ قال: الله ربي، قال – وهو مصافحه فانتزع يده من يده – ثم قال: {أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} قال السدي: محاسبون، قال: فانطلق الكافر وتركه، قال: فلما رآه المؤمن وليس يلوي عليه؛ رجع وتركه، يعيش المؤمن في شدة من الزمان، ويعيش الكافر في رخاءٍ من الزمان، قال: فإذا كان يوم القيامة، وأدخل الله – تعالى – المؤمن الجنة يمرُّ فإذا هو بأرضٍ ونخلٍ وثمارٍ وأنهارٍ، فيقول: لمن هذا؟ فيقال: هذا لك، فيقول: يا سبحان الله، أو بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا؟ قال: ثم يمرُّ فإذ هو برقيق لا تحصى عدتهم، فيقول: لمن هذا؟ فيقال: هؤلاء لك، فيقول: يا سبحان الله، أو بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا. قال: ثم يمرُّ فإذا هو بقبة من ياقوتة حمراء مجوفة فيها حوراء عيناء، فيقول: لمن هذه؟ فيقال: هذه لك، فيقول: يا سبحان الله! أو بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا، قال: ثم يذكر المؤمن شريكه الكافر فيقول: {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ* أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} قال: فالجنة عالية، والنار هاوية، قال: فيريه الله – تعالى – شريكه في وسط الجحيم من بين أهل النار، فإذا رآه المؤمن عرفه فيقول: {تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * أَفَما نَحنُ بِمَيتِيِنَ * إَلَّا مَوتَتُنَا الأولَى وَمَا نَحنُ بِمُعَذَّبِينَ * إنَّ هَذَا لَـهَُوَ الفَوزُ العَظِيْمُ * لِمِثْل ِهَذَا فَلْيَعْمَلِ العَامِلُونَ} بمثل ما قد مُنَّ عليه، قال: فيتذكر المؤمن ما مرَّ عليه في الدنيا من الشدة، فلا يذكر مما مرَّ عليه في الدنيا من الشدة أشد عليه من الموت"11.

إن الجرح الذي يصنعه رفيق السوء في الأخلاق والقيم والعقائد لينفجر ويتسع في يوم يحتاج الإنسان فيه إلى من يخفف آلامه وهو يوم القيامة، يصف هذه الحالة المأساوية صاحب كتاب "في ظلال القرآن" فيقول: "ثم يعرض مشهداً من مشاهد ذلك اليوم، يصور ندم الظالمين الضالين، يعرضه عرضاً طويلاً مديداً، يخيل للسامع أنه لن ينتهي ولن يبرح، مشهد الظالم يعض على يديه من الندم والأسف والأسى: {ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً * يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً * لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولاً}، ويصمت كل شيء من حوله، ويروح يمد في صوته المتحسر، ونبراته الأسيفة، والإيقاع الممدود يزيد الموقف طولاً، ويزيد أثره عمقاً، حتى ليكاد القارئ للآيات، والسامع؛ يشاركان في الندم والأسف والأسى! {ويوم يعض الظالم على يديه} فلا تكفيه يدٌ واحدةٌ يعض عليها، إنما هو يداول بين هذه وتلك، أو يجمع بينهما لشدة ما يعانيه من الندم اللاذع المتمثل في عضه على اليدين، وهي حركة معهودة يرمز بها إلى حالة نفسية فيجسمها تجسيماً، {يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً} فسلكت طريقه لم أفارقه، ولم أضل عنه، الرسول الذي كان ينكر رسالته، ويستبعد أن يبعثه الله رسولاً {يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً} فلاناً بهذا التجهيل ليشمل كل صاحب سوء يصدُّ عن سبيل الرسول، ويضل عن ذكر الله {لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني} لقد كان شيطاناً يضل، أو كان عوناً للشيطان {وكان الشيطان للإنسان خذولاً}، يقوده إلى مواقف الخذلان، ويخذله عند الجد، وفي مواقف الهول والكرب"12.

وحال الرفقة السيئة في الحقيقة أشد من ذلك، وخطرها أعظم؛ لكننا نكتفي بهذا فإن فيه العظة والعبرة لمن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد، اللهم ألحقنا بالصالحين، واحشرنا مع الذين أنعمت من النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، وصلِّ اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


 


1 سورة آل عمران (102).

2 سورة النساء (1).

3 سورة الأحزاب (70-71).

4 البخاري (5108).

5 شرح صحيح مسلم للنووي (16/178).

6 سيرة ابن كثير (1/464).

7 سورة التوبة (113).

8 سورة القصص (56).

9 البخاري (3595) وهذا لفظه، ومسلم (35).

10 سورة الصافات (51-57).

11 تفسير القرآن العظيم (4/12).

12 في ظلال القرآن . سورة الفرقان. (27-29).