فرار الشيطان

فرار الشيطان

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين .. أما بعد:

معلوم أن كيد الشيطان ضعيف، وأنه ليس له سلطان على أولياء الله المخلصين، فلا يجد عندهم بغيته، بل يفر من مجالسهم إلى مجالس اللهو والعبث.

وقد ورد في الحديث أن من الأفعال التي يفر منها الشيطان؛ الأذان، وهو الشعار الذي يحمل معنى التوحيد؛ ذلك التوحيد الذي طالما حاربه إبليس، وأضل الناس عنه، وصدهم عن سبيله، فإذا ما ارتفع صوت المؤذن؛ فرَّ الشيطان وله ضراط كما جاء في الحديث فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع الأذان، فإذا قضي الأذان أقبل، فإذا ثوب بها أدبر، فإذا قضي التثويب أقبل، حتى يخطر بين المرء ونفسه يقول: اذكر كذا وكذا ما لم يكن يذكر، حتى يظل الرجل إن يدري كم صلى؟ فإذا لم يدر أحدكم كم صلى ثلاثاً أو أربعاً فليسجد سجدتين وهو جالس))1.

ومن الحديث يتضح لنا فوائد جمة ذكرها بعض العلماء منهم عبد الرحمن بن أبي بكر أبو الفضل السيوطي – رحمه الله تعالى – إذ يقول: "وإنما أدبر الشيطان عند الأذان لئلا يسمعه، فيضطر إلى أن يشهد له بذلك يوم القيامة، وقيل: لعظم أمر الأذان؛ لما اشتمل عليه من قواعد التوحيد، وإظهار شعار الإسلام وإعلانه، وقيل: ليأسه من وسوسته للإنسان عند الإعلان بالتوحيد قال ابن الجوزي: فإن قيل كيف يهرب الشيطان من الأذان، ويدنو في الصلاة، وفيها القرآن ومناجاة الحق – عز وجل -؟ فالجواب: أن بُعدَه عند الأذان لغيظه من ظهور الدين، وغلبة الحق، وعلى الأذان هيبة يشتد انزعاجه لها، ولا يكاد يقع فيه رياء، ولا غفلة عند النطق به؛ لأن النفس لا تحضره؛ وأما الصلاة فإن النفس تحضر فيفتح لها الشيطان أبواب الوسواس، وقال ابن أبي جمرة: الأذان إعلام بالصلاة التي هي أفضل الأعمال بألفاظ هي من الذكر، لا يزاد فيها ولا ينقص منها، بل تقع على وفق الأمر، فيفر من سماعها، وأما الصلاة فلما يقع من كثير من الناس فيها من التفريط، فيتمكن من المفرط، فلو قدر أن المصلي وفَّى بجميع ما أمر به فيها؛ لم يقربه إذا كان وحده وهو نادر، وكذا إذا انضم إليه مثله فإنه يكون أندر، فإذا قضى النداء أقبل"2، فيصيب الشيطان الذعر والخوف، والضيق والكرب؛ لأنه لا ينسجم مع ذكر الله – عز وجل – يقول الله – تعالى -: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}3، فلا يجدون هذا الفزع، ولا يلاقون هذا الخوف إلا عند ذكر الله، بل يستأنسون بقرنائهم وأوليائهم، ويحفزونهم على فعل الشر، وعلى الركوب في مطايا الهالكين قال الله – عز وجل –: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا}4، فيحصل الفرار كلما سمعوا ذكر الله، فتفر قلوبهم قبل أبدانهم {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا }5 قال ابن عبد البر – رحمه الله تعالى -: "فقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في هذا الحديث: ((إذا نودي للصلاة)) يريد إذا أذن لها، ((فرَّ الشيطان)) من ذكر الله في الأذان، وأدبر ((وله ضراط)) من شدة ما لحقه من الخزي والذعر عند ذكر الله، وذكر الله في الأذان تفزع منه القلوب ما لا تفزع من شيء من الذكر لما فيه من الجهر بالذكر، وتعظيم الله فيه، وإقامة دينه، فيدبر الشيطان لشدة ذلك على قلبه؛ حتى لا يسمع النداء"6.

وفي هذا الحديث بيان لفضل الأذان قال ابن عبد البر – رحمه الله تعالى -: "وفي هذا الحديث فضل للأذان عظيم؛ ألا ترى أن الشيطان يدبر منه، ولا يدبر من تلاوة القرآن في الصلاة، وحسبك بهذا فضلاً لمن تدبر"7، وكما يشغل الشيطان نفسه بالضراط لكي لا يستمع إلى الأذان، فكذلك تجد من استحوذ عليه الشيطان يتشاغل بمزاميره من الأغاني والموسيقى، فيعرض عن كل ما فيه ذكر الله – عز وجل -، فيلقى من ذلك عيشة الضنك والضيق يقول – تعالى -: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}8، فيشابه الشيطان في فعله – نسأل الله السلامة والعافية -، فيما أهل الإيمان إذا ذكر الله كان حالهم كما وصفهم الله – تعالى -: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}9، فكيف إذا كان هذا الذكر بصوت جهوري؟ وكيف يكون مستوى شعور المؤمن بالعزة وهو ينصت إلى نداء الحق قد علا في سماء التوحيد.

نسأل الله – تعالى – أن ينصر دينه وكتابه وعباده الصالحين، والحمد لله رب العالمين.


 


1 البخاري (1174)، ومسلم (389).

2 تنوير الحوالك شرح موطأ مالك (1/69).

3 سورة الزمر (45).

4 سورة مريم (83).

5 سورة الإسراء (46).

6 التمهيد لابن عبد البر (18/308).

7 التمهيد لابن عبد البر (18/309).

8 سورة طه (124).

9 سورة الأنفال (2).