فتنة الدهيماء

فتنة الدهيماء

 

الحمد لله ما حمده الذاكرون الأبرار، والصلاة والسلام على النبي المختار، وعلى آله وصحبه ما تعاقب الليل والنهار، أما بعد:

من تأمل في السنة المطهرة – على صاحبها أفضل الصلاة، وأتم التسليم – يجدها مليئة بأحاديث الفتن، وأخبار الملاحم والوقائع في آخر الزمان، حتى يقول القاضي عياض: "لقد أخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – بما يكون إلى قيام الساعة، وذلك مما أطلعه الله عليه من الغيوب المستقبلية، والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً حتى بلغت حد التواتر المعنوي"1، وهذه الاستفاضة حدت ببعض العلماء من المتقدمين والمتأخرين إلى إفراد أحاديث الفتن وأخبار آخر الزمان في جزء يلم شتاتها، ويجمع متفرقها، إذ المسلم لا شك بحاجة أن يعيش مع هذه الأحاديث قلباً وقالباً، تفهماً وتأملاً لاعتبارات وحكم أرادها الشارع قد أشار وألمح العلماء – رحمهم الله – إليها في كتبهم ومنها:

1- الابتلاء والامتحان:

فإن أحاديث الملاحم وأشراط الساعة والفتن في الجملة من الغيب الذي يجب الإيمان به، والذي يثيب الله على الإيمان به العباد، وبغيره يختل إيمان المرء، ويحيطه دخن ولبس فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((أُمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله))2، فلا يصح إيمان العبد إلا بالإيمان بكل ما جاء به النبي – صلى الله عليه وسلم – من أحكام شرعية، وغيبيات ماضية، وحاضرة، ومستقبلية، والتسليم له بالجميع.

وقد اعتنت كتب العقائد بالتنبيه إلى هذه المسألة على وجه العموم، وما يتعلق بأشراط الساعة على وجه الخصوص فتجد الإمام الطحاوي مثلاً يقول: "ونؤمن بأشراط الساعة من خروج الدجال، ونزول عيسى بن مريم – عليه السلام – من السماء، ونؤمن بطلوع الشمس من مغربها، وخروج دابة الأرض من موضعها"3، ويقول الإمام ابن قدامة المقدسي – رحمه الله تعالى – في لمعة الاعتقاد: "ويجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي – صلى الله عليه وسلم -، وصح به النقل عنه فيما شاهدناه أو غاب عنا، نعلم أنه حق وصدق، وسواء في ذلك ما عقلناه وجهلناه، ولم نطلع على حقيقة معناه… إلى أن قال: "ومن ذلك أشراط الساعة مثل: خروج الدجال، ونزول عيسى بن مريم – عليه السلام – فيقتله، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وأشباه ذلك مما صح به النقل"4.

2- التحذير مما يستقبل الناس، والإرشاد إلى ما يفعلون:

والمتأمل في كثير من الأخبار المتكلمة عن أشراط الساعة يجدها قد وردت بذم بعض ما سيقع من أشراط، كما جاءت بالتحذير من الدخول في مختلف الفتن الكبيرة والصغيرة، العامة والخاصة، فالمؤمن الكيِّس هو من اعتزل تلك الفتن، وتيقظ لتلك الأشراط؛ لئلا يكون من أهلها قال البرزنجي5: "وأرسله – يعني النبي – صلى الله عليه وسلم – كالمسبحة والوسطى نذيراً، فأخبر عن جميع الفتن والأشراط الكائنة قبلها فاسأل به خبيراً، فبلَّغ وبالغ، وحذر أمته الفتن عموماً، والدجال خصوصاً تحذيراً"6، وهذا المعنى ظاهر جلي في نصوص الأشراط والفتن، والتحذير والإرشاد يقع فيها باللفظ الصريح، وبالتنبيه والإشارة، فهذه الأخبار ليست أخباراً مجردة تحكي الوقائع ولا تهدي العباد، بل الهداية فيها منصوص عليها، والعمل الواجب مبين، ومن نظر في أحاديث الدجال وتتبعها وجد من الأوامر والإرشادات والاحتياطات الشيء الكثير كالأمر بالاستعاذة منه، والنأي عنه، وقراءة فواتح سورة الكهف، ودخول ناره لا جنته، وكيف تؤدى الصلاة في وقته إلى غير ذلك مما يؤكد هذا المعنى، ومما يبين هذا المعنى كذلك كثير من أحاديث الفتن كحديث عثمان الشحام قال: انطلقت أنا وفرقد السبخي إلى مسلم بن أبي بكرة وهو في أرضه، فدخلنا عليه فقلنا: هل سمعت أباك يحدث في الفتن حديثاًً؟ قال: نعم، سمعت أبا بكرة يحدث قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إنها ستكون فتن، ألا… ثم تكون فتنة القاعد فيها خير من الماشي فيها، والماشي فيها خير من الساعي إليها، ألا فإذا نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه)) قال: فقال رجل: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: ((يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاة، اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟)) قال: فقال رجل: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: "أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين، أو إحدى الفئتين، فضربني رجل بسيفه أو يجيء سهم فيقتلني؟ قال: ((يبوء بإثمه وإثمك، ويكون من أصحاب النار))7، والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وإنما المقصود التنبيه والإشارة ليس إلا.

3- الاستعداد لقيام الساعة:

ومن فائدة هذه الأخبار إشعار العباد بقرب المعاد؛ ليستعدوا له الاستعداد المناسب، إذ هو المقصود أصالة بذكر هذه النصوص، فهي أمارات وعلامات وأشراط لقيام الساعة يستدل من خلالها على قرب الساعة قال الطيبي: "الآيات أمارات للساعة إما على قربها، وإما على حصولها"8، واستشعار هذا القرب يوجب من العبد مزيد سعي وإعداد لهذا اليوم العظيم، يدل عليه قول النبي – صلى الله عليه وسلم – لما سئل: متى الساعة؟ فقال: ((ماذا أعددت لها))9؟ فتأمل حسن إرشاد النبي – صلى الله عليه وسلم – للسائل، وصرفه إلى ما يعنيه ويفيده من شأن الساعة وهي قضية الإعداد يقول الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى -: "والحكمة في تقدم الأشراط إيقاظ الغافلين، وحثهم على التوبة والاستعداد"10، فأشراط الساعة مواعظ تزجر القلوب لتقبل على علام الغيوب – جل وعلا -، كلما وقع شرط منها فهي خطوة يخطوها الناس جميعاً نحو الآخرة، فالسعيد من سار في هذه الدنيا متذكراً للآخرة، عاملاً لها، والشقي من أعرض عن أخراه قد عمي عنها ونسيها {نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ}11.

4- أن هذه الأخبار من دلائل النبوة:

فهي تعدُّ من دلائل نبوة النبي – صلى الله عليه وسلم – وصدقه، فإن المرء إذا رأى أمراً قد تحقق من تلك الأخبار ازداد إيمانه ويقينه بصدق النبي – صلى الله عليه وسلم – في نبوته، وأنه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حقاً، ومن لطائف الأخبار المؤكدة لهذا المعنى ما ثبت عن طارق بن شهاب قال: كنا عند عبد الله ابن مسعود – رضي الله عنه – جلوساً فجاء رجل فقال: قد أقيمت الصلاة، فقام وقمنا معه، فلما دخلنا المسجد رأينا الناس ركوعاً في مقدم المسجد، فكبر وركع وركعنا، ثم مشينا، وصنعنا مثل الذي صنع، فمرَّ رجل يسرع، فقال: عليك السلام يا أبا عبد الرحمن، فقال: صدق الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم -، فلما صلينا ورجعنا دخل إلى أهله، جلسنا، فقال بعضنا لبعض: أما سمعتم رده على الرجل "صدق الله، وبلغت رُسُلُه"، أيكم يسأله؟، فقال طارق: أنا أسأله، فسأله حين خرج، فذكر عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ((إن بين يدي الساعة تسليم الخاصة، وفشو التجارة، حتى تعين المرأة زوجها على التجارة، وقطع الأرحام، وشهادة الزور، وكتمان شهادة الحق، وظهور القلم))12.

هذه إطلالة سريعة على بعض الحكم والدروس المستفادة من أحاديث الفتن.

حديث فتنة الدهيماء

وبعد هذه الإشارة الوجيزة لحِكَمِ أحاديث الفتن؛ نستعرض سوياً حديثاً منها صوَّر فتناً وأحداثاً تقع في آخر الزمان على هذه الأمة، نطق به من لا {يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}13، فقد جاء عن عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- قال: "كنا قعوداً عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فذكر الفتن، فأكثر في ذكرها حتى ذكر فتنة الأحلاس، فقال قائل: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وما فتنة الأحلاس؟ قال: ((هي هرب وحرب، ثم فتنة السراء دخنها من تحت قدمي رجل من أهل بيتي، يزعم أنه مني وليس مني، وإنما أوليائي المتقون، ثم يصطلح الناس على رجل كورك على ضلع، ثم فتنة الدهيماء لا تدع أحداً من هذه الأمة إلا لطمته لطمة، فإذا قيل "انقضت"؛ تمادت، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، حتى يصير الناس إلى فسطاطين: فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه، فإذا كان ذاكم فانتظروا الدجال من يومه أو من غده))14.

حكم الحديث:

قال الألباني في "السلسلة الصحيحة": أخرجه أبو داود، والحاكم، وأحمد من طريق أبي المغيرة: حدثنا عبد الله بن سالم، حدثني العلاء بن عتبة الحمصي أو اليحصبي عن عمير بن هاني العنسي سمعت عبد الله بن عمر – رضي الله عنه – يقول : " كنا عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قعوداً نذكر الفتن، فأكثر ذكرها حتى ذكر فتنة الأحلاس، فقال قائل: يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وما فتنة الأحلاس؟ قال : هي …" الحديث، وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات رجال البخاري غير العلاء بن عتبة وهو صدوق كما في التقريب، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد"، ووافقه الذهبي.15

دلالات الحديث:

كنا قعوداً: أي قاعدين.

فذكر الفتن: أي الواقعة في آخر الزمان.

فأكثر في ذكرها: أي البيان.

حتى ذكر فتنة الأحلاس: الأحلاس جمع حلس، وإنما شبهها بالحلس لظلمتها والتباسها، أو لأنها تركد وتدوم فلا تقلع، يقال: "فلان حلس بيته" إذا كان يلازم قعر بيته لا يبرح، ويقال: هم أحلاس الخيل إذا كانوا يلزمون ظهوره16، والحلس: هو الكساء الذي على ظهر البعير تحت القتب17، قال الخطابي: إنما أضيفت إلى الأحلاس؛ لدوامها، وطول لبثها، أو لسواد لونها، وظلمته18.

فقال قائل: وما فتنة الأحلاس، قال: ((هي هرب)): بفتحتين أي: يفر بعضهم من بعض؛ لما بينهم من العداوة والمحاربة.

((وحرب)): بفتحتين أي أخذ مال، وأهل؛ بغير استحقاق.

((وفتنة السراء)): والمراد بالسراء النعماء التي تسر الناس من الصحة والرخاء، والعافية من البلاء والوباء، وأضيفت إلى السراء؛ لأن السبب في وقوعها ارتكاب المعاصي، بسبب كثرة التنعم، أو لأنها تسر العدوّ قال التوربشتي19– رحمه الله -: "يحتمل أن يكون سبب وقوع الناس في تلك الفتنة وابتلائهم بها أثر النعمة، فأضيفت إلى السراء يعني يكون التركيب من قبيل إضافة الشيء إلى سببه، ويحتمل أن يكون صفة للفتنة فأضيفت إليها إضافة مسجد الجامع، ويراد منها سعتها لكثرة الشرور والمفاسد، ومن ذلك قولهم: قفاه سراء إذا كانت وسيعة، يعني يكون التقدير فتنة الحادثة السراء أي الواسعة التي تعم الكافة من الخاصة والعامة20.

((دخنها)): بفتحتين أي: إثارتها وهيجانها، وشبهها بالدخان الذي يرتفع كما شبه الحرب بالنار، وإنما قال: ((من تحت قدمي رجل من أهل بيتي)) تنبيهاً على أنه هو الذي يسعى في إثارتها، أو إلى أنه يملك أمرها.

((يزعم أنه مني)) أي: في الفعل، وإن كان مني في النسب، والحاصل أن تلك الفتنة بسببه، وأنه باعث على إقامتها.

((وليس مني)): أي من أخلائي، أو من أهلي في الفعل؛ لأنه لو كان من أهلي لم يهيج الفتنة، ونظيره قوله – تعالى -: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}21، أو ليس من أوليائي في الحقيقة، ويؤيده قوله – صلى الله عليه وسلم – في هذا الحديث: ((إنما أوليائي المتقون))، قال الأردبيلي: فيه إعجاز، وعلم للنبوة، وفيه أن الاعتبار كل الاعتبار للمتقي، وإن بَعُدَ عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – في النسب، وأن لا اعتبار للفاسق والفتان عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وإن قَرُبَ منه في النسب"22.

((ثم يصطلح الناس على رجل)) أي يجتمعون على بيعة رجل.

((كورك)) بفتح وكسر قاله القري.

((على ضلع)) بكسر ففتح وهذا مَثَل، والمراد أنه لا يكون على ثبات؛ لأن الورك لثقله لا يثبت على الضلع لدقته، والمعنى أنه يكون غير أهل للولاية؛ لقلة علمه، وخفة رأيه وحلمه، فهم يصطلحون على رجل لا نظام له، ولا استقامة لأمره، وفي شرح السنة معناه: "أن الأمر لا يثبت ولا يستقيم له، وذلك أن الضلع لا يقوم بالورك ولا يحمله، وحاصله: أنه لا يستعد ولا يستبد لذلك، فلا يقع عنه الأمر موقعه، كما أن الورك على ضلع يقع غير موقعه، قال: وإنما يقال في باب الملاءمة والموافقة إذا وصفوا به هو ككف في ساعد، وساعد في ذراع ونحو ذلك، يريد أن هذا الرجل غير خليق للملك، ولا مستقل به23.

((ثم فتنة الدهيماء)) وهي بضم ففتح، والدهماء: السوداء، والتصغير للذم أي: الفتنة العظماء، والطامة العمياء، وفي النهاية هي تصغير الدهماء يريد الفتنة المظلمة، والتصغير فيها للتعظيم، وقيل: المراد بالدهيماء الداهية، ومن أسماء الداهية الدهيم، زعموا أن الدهيم اسم ناقة غزا عليها سبعة إخوة متعاقبين، فقتلوا عن آخرهم، وحملوا عليها حتى رجعت بهم، فصارت مثلاً في كل داهية.

((لا تدع)) أي: لا تترك تلك الفتنة ((أحداً من هذه الأمة إلا لطمته لطمة)) أي: أصابته بمحنة، ومسته ببلية، وأصل اللطم هو: الضرب على الوجه ببطن الكف، والمراد أن أثر تلك الفتنة يعم الناس، ويصل لكل أحد من ضررها، قال الطيبي – رحمه الله -: "هو استعارة مكنية شبه الفتنة بإنسان، ثم خيل لإصابتها الناس اللطم الذي هو من لوازم المشبه به، وجعلها قرينة له24.

((فإذا قيل انقضت)) أي: فمهما توهموا أن تلك الفتنة انتهت، ((تمادت)) أي: بلغت المدى، أي: الغاية من التمادي، وفي نسخة بتشديد الدال من التمادد تفاعل من المد، أي استطالت واستمرت واستقرت.

((يصبح الرجل فيها مؤمناً)) أي: لتحريمه دم أخيه، وعرضه، وماله.

((ويمسي كافراً)) أي: لتحليله ما ذكر، ويستمر ذلك، وهذا مطابق لحديث: ((بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل))25.

((حتى يصير الناس إلى فسطاطين)) بضم الفاء وتكسر أي: فرقتين، وقيل: مدينتين، وأصل الفسطاط الخيمة فهو من باب ذكر المحل، وإرادة الحال.

((فسطاط إيمان)) أي: إيمان خالص ((لا نفاق فيه)) أي لا في أصله، ولا في فصله من اعتقاده وعمله.

((وفسطاط نفاق لا إيمان فيه)) أي أصلاً أو كمالاً لما فيه من أعمال المنافقين من الكذب، والخيانة، ونقض العهد وأمثال ذلك.

((فإذا كان ذلك فانتظروا الدجال)) أي ظهوره ((من يومه أو من غده)) وهذا يؤيد أن المراد بالفسطاطين المدينتين، فإن المهدي يكون في بيت المقدس فيحاصره الدجال، فينزل عيسى عليه – الصلاة والسلام -، فيذوب الملعون كالملح ينماع في الماء، فيطعنه بحربة له فيقتله فيحصل الفرج العام، والفرج التام كما قال سيد الأنام26.

قال الطيبي – رحمه الله – الفسطاط: بالضم والكسر المدينة التي فيها يجتمع الناس، وكل مدينة فسطاط، وإضافة الفسطاط إلى الإِيمان أما بجعل المؤمنين نفس الإيمان مبالغة، وأما بجعل الفسطاط مستعاراً للكتف والوقاية على المصرحة أي هم في كتف الإيمان ووقايته"27.

لمحات مهمة:

 أولاً: الذي يظهر أن هذا التمايز عندما تخرج الدابة، وكما جاء في الآثار: وتطلع الشمس من مغربها، فإذا ما طلعت الشمس من مغربها تميَّز المؤمن من الكافر؛ لأن الدجال يظهر، ثم ينزل المسيح فيقتله، فخروج المسيح الدجال يكون قبل نزول المسيح، وقبل يأجوج ومأجوج.

ثانياً: لا يمكن إسقاط النصوص التي يطرقها الاحتمال على واقع معين إلا بعد وقوعها وانقضائها، فقد كان من هدي السلف – رحمهم الله – أنهم لا ينزلون أحاديث الفتن على واقع حاضر، وإنما يرون أصدق تفسير لها وقوعها مطابقة لخبر النبي – صلى الله عليه وسلم -، ولذلك نلاحظ أن عامة شارحي الأحاديث الشريفة كانوا يفيضون في شرحها، واستنباط الأحكام منها، حتى إذا أتوا على أبواب الفتن، وأشراط الساعة؛ أمسكوا أو اقتصدوا في شرحها للغاية، وربما اقتصروا على تحقيق الحديث، واكتفوا بشرح غريبه، بخلاف ما يحصل من بعض المتعجلين المتكلفين اليوم فإنه بمجرد ظهور بوادر لأحداث معينة سياسية كانت، أو عسكرية، محلية، أو عالمية؛ تستخفهم البُداءات، وتستفزهم الانفعالات، فيسقطون الأحاديث على أشخاص معينين، أو وقائع معينة، ثم لا تلبث الحقيقة أن تبين، ويكتشفوا أنهم تهوروا وتعجلو28، فلا ينبغي لأحد أن يقول: أن ما يقع الآن من الأحداث والأشياء التي وقعت من حرب وهروب الناس ونهب الأموال هذه هي فتنة الأحلاس، ويفسر الحديث باجتهاد يضعف فيه النظر، إذ الأولى أن نكف عن ذلك، ونأتي على الحديث دون إسقاط؛ إلا إذا تبين لنا بما فيه كفاية ودون لبس صدق الواقعة فيه، ونأخذ من مجموع الأحاديث هذه كيفية مواجهتها، ونتعلم منها دروساً نجابه بها هذه المحن والفتن.

ثالثاً: هذا الحديث يبين لنا أن الصحة والرخاء قد تقع فيها فتن عظمية، فليس محل الفتن والتمحيص كما يظن البعض الشدائد والضراء فحسب بل كما قال الله – سبحانه -: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}29، أي نختبركم أيها الناس بالشر وهو الشدة نبتليكم بها، وبالخير وهو الرخاء والسعة والعافية فنفتنكم به، قال ابن عباس – رضي الله عنه -: قوله: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} قال: بالرخاء والشدة، وكلاهما بلاء"30.

رابعاً: نستشف من الحديث أهمية تميِّز أهل الإيمان عن أهل النفاق، وأن المرء في كل فتنة تمس جناب الأمة ينظر أين موقعه، وينتبه أن ينخرط في معسكر النفاق وأهل الشقاق قال حذيفة بن اليمان – رضي الله عنه -: "أتتكم الدهيم ترمي بالنَّشف31، ثم أتتكم ترمي بالرَّضف32، ثم أتتكم سوداء مظلمة، والسوداء المظلمة التي تموج كموج البحر، والرابعة تسوقهم إلى الدجال"33، والمقصود أنه تحصل أسباب يتمايز بها الناس، فيتميز المؤمنون من الكافرين، يصير الناس إلى طائفتين: طائفة أهل إيمان لا نفاق فيه، وطائفة أهل كفر لا إيمان فيه، فهذه من جملة الأحوال التي تكون في آخر الزمان.

فيجب على المسلمين أن يكونوا دائماً – وبالخصوص في وقت الفتن – متعلقين بربهم، وهذه الأحاديث، وهذه النصوص الشرعية؛ يجب أن يكون لها في القلب موقعاً، فيجب الاعتقاد بها، وأن نعلم أنما أُخبرنا بها لنستعدّ؛ ونأخُذ الأُهبة، فنستعدّ يا عباد الله بالعمل والإيمان الصالح فهو خير زاد لمواجهتها.

نسأل الله – سبحانه وتعالى – أن يثبّتنا جميعاً بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين اللهم آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


 


1 الشفا بتعريف أحوال المصطفى (1-650)

2 رواه مسلم برقم (31).

3 شرح الطحاوية (499).

4 شرح لمعة الاعتقاد لابن عثيمين (101-104).

5 هو محمد بن عبد الرسول بن عبد السيد الشافعي البرزنجي الأصل والمولد، المحقق المدقق النحرير الأوحد الهمام، ولد بشهرزور ليلة الجمعة ثاني عشر ربيع الأول سنة أربعين وألف ونشأ بها، وكانت وفاته في غرة محرم سنة ثلاث ومائة وألف، ودفن بالمدينة – رحمه الله تعالى -.

6 الإشاعة لأشراط الساعة (23).

7 رواه مسلم برقم (5138).

8 فتح الباري (11/352).

9 رواه البخاري برقم (3412).

10 تحفة الأحوذي (6/381).

11 سورة التوبة (67).

12 رواه أحمد برقم (3676)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (647).

13 سورة النجم (3-4)

14 رواه أبو داود في سننه برقم (3704)، وأحمد في مسنده برقم (5892)، ورواه الحاكم في مستدركه برقم (8574)، ورواه الطبراني في مسند الشاميين برقم (2491)، وصححه الألباني في أكثر من موطن.

15 السلسة الصحيحة (2/702).

16 الفقيه والمتفقه (1/296).

17 لسان العرب لابن منظور (6/55).

18 عون المعبود (11/208).

19شهاب الدين أبو عبد الله فضل الله التوربشتي الحنفي محدث، فقيه، من أهل شيراز، توفي في حدود سنة 600 هـ، من آثاره: شرح مصابيح السنة للبغوي

وسماه الميسر، المعتمد في المعتقد، مطلب الناسك في علم المناسك، وتحفة المرشدين في اختصار تحفة السالكين.

20 مرقأة المفاتيح (10/34).

21 سورة هود (46).

22 عون المعبود (11/208).

23 مرقأة المفاتيح (10/35).

24 عون المعبود (11/209).

25 رواه مسلم برقم (169).

26 مرقأة المفاتيح (10/35).

27 عون المعبود (11/209).

28 المهدي وفقه أشراط الساعة (705).

29 سورة الأنبياء (35).

30 تفسير ابن جرير الطبري (17/24).

31 النشف الحجارة التي يقذف بها البركان وهي التي تحل بها الأقدام .

32 الرضف: الحجارة المحماة.

33 مصنف ابن أبي شيبة (7/450).