الفقه العملي في المسجد

الفقه العملي في المسجد

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:

وسائل التعليم كثيرة، منها المقروء، ومنها المسموع، ومنها المشاهد، ونعيش اليوم في هذه المقالة مع طريقة من طرق تلقي العلم، وأسلوب من أساليب التعليم، إنه أسلوب "التطبيق العملي"، وليس ذلك جديد بل كان معمولاً به في زمن النبي – صلى الله عليه وسلم -، فقد كان الناس في زمن النبي – صلى الله عليه وسلم – يقبلون على الإسلام، ولا يتهيأ لأكثرهم فرص التعلم، لكنهم كانوا يتعلمون في أي لحظة تسمح لهم، وكان معلمهم – وهو النبي صلى الله عليه وسلم – يستغل أي فرصة ليعلمهم فيها، ويرفع عنهم جهلهم، ومن ذلك تعليمهم أمور دينهم في بيت الله – عز وجل -، إذ ترى النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو أمير الدولة، وإمام الناس؛ لكنه لا ينشغل عن تعليم الجاهل، وتوجيه المخطئ، وتبيين الحق، وإزهاق الباطل، يلقى رجلاً لا يحسن صلاته فيبادره بالنصيحة كما جاء عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دخل المسجد، فدخل رجل فصلى، فسلم على النبي – صلى الله عليه وسلم -، فرد، وقال: ((ارجع فصل فإنك لم تصل))، فرجع يصلي كما صلى، ثم جاء فسلم على النبي – صلى الله عليه وسلم -، فقال: ((ارجع فصل فإنك لم تصل))، ثلاثاً، فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني!! فقال: ((إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، وافعل ذلك في صلاتك كلها))1 فأين الأئمة والمصلحون ليقتدوا بالنبي – صلى الله عليه وسلم – حين يذكر الملاحظات على صلاة الرجل، ويبين له مواطن النقص فيها بعد أن نظر إلى صلاته وهو يقوم بها.

ومن الفقه العملي أيضاً أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أمر أصحابه أن يصلوا كما كان يصلي فعن مالك بن الحويرث – رضي الله عنه – قال: أتينا النبي – صلى الله عليه وسلم – ونحن شببة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رفيقاً، فلما ظن أنا قد اشتهينا أهلنا أو قد اشتقنا سألنا عمن تركنا بعدنا؟ فأخبرناه، قال: ((ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا فيهم، وعلموهم ومروهم))، وذكر أشياء أحفظها أو لا أحفظها، ((وصلوا كما رأيتموني أصلي، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم))2، وهنا درس عملي آخر يوجهه النبي – صلى الله عليه وسلم – لأصحابه، حيث ثمرات هذا الدرس قد تفوق الكثير من الدروس التنظيرية، "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وافعلوا كفعلي لتنتفعوا وينتفع الناس بكم، فكم من الناس سيتعلم الصلاة وهو يتابع الإمام، أو وهو ينظر إلى المأمومين.

وموطن ثالث رأى فيه النبي – صلى الله عليه وسلم – من لا يحسن الصلاة فعلمه فعن عبد الرحمن بن شبل – رضي الله عنه – قال: "نهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن ثلاث: عن نقرة الغراب، وعن فرشة السبع، وأن يوطن الرجل المكان الذي يصلي فيه كما يوطن البعير"3.

وما زال – عليه الصلاة والسلام – يعدل ما يحتاج إلى تعديل، ويوجه إن احتاج الأمر إلى توجيه؛ حتى فَقِهَ عنه أصحابه فعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة – وأشار بيده على أنفه -، واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين، ولا نكفت الثياب والشعر))4 يشير بيده – عليه الصلاة والسلام – ليبين لأصحابه الدرس بوضوح، وكيف يكون السجود، وعلى أية صفة يكمل، وقد تعلم الصحابة – رضوان الله عليهم – الدرس فلم يزالوا يرمقون صلاة النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى آخر حياته، ويتابعون أفعاله – صلى الله عليه وسلم -؛ فعن وائل بن حجر – رضي الله عنه – "أنه رأى النبي – صلى الله عليه وسلم – رفع يديه حين دخل في الصلاة؛ كبر (وصف همام: حيال أذنيه)، ثم التحف بثوبه، ثم وضع يده اليمنى على اليسرى، فلما أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب، ثم رفعهما، ثم كبر فركع، فلما قال: سمع الله لمن حمده رفع يديه، فلما سجد سجد بين كفيه"5.

وبهذا يُعلم أن المسجد مكان مناسب للتطبيقات العملية الفقهية التي تتعلق بالصلاة، ويتم فيها التوجيه والإرشاد، والتعليم والبيان.

نسأل المولى القدير أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وعملاً وتقوى وصلاحاً، والحمد لله رب العالمين.


 


1 البخاري (715)، مسلم (602).

2 البخاري (6705).

3 ابن ماجه (1419)، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه (1176).

4 البخاري (770)، ومسلم (758).

5 مسلم (608).