استغاثات لاقت مجيباً

استغاثات لاقت مجيباً

 

الحمد لله ناصر عباده الموحدين، وقامع الكفرة والملحدين، رفع راية الجهاد في البقاع بإذنه، ونكس الكفر في البطاح بقهره، مستدرج الكافرين بمكره، أظهر دينه على الدين كله، القاهر على عباده فلا يمانَع، والظاهر على خليقته فلا ينازَع، والحاكم بما يشاء فلا يدافع.

أشهد أن لا إله إلا وحده لا شريك له، شهادة عبده وابن عبده، وابن أمته، ومن لا غنى لنا عن رحمته طرفة عين، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.

سبحانه من لو سجدنا بالجباه له                         على شبا الشوك والمحمي من الإبر

لم نبلغ العشر من معشار نعمته                           ولا العشير ولا عشراً من العشر

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، شهادة ظهر نورها ولاح، وغدا برهانها وراح، وعلا ذكرها وساح

روحي الفداء لمن أخلاقه شهدت                        بأنه خيــر مبعوث من البشر

عمت فضائله كل البلاد كمـا                         عمَّ البرية ضوء الشمس والقمر

أما بعد:

معاشر المسلمين: إن تاريخكم التليد يحمل في طياته بشائر وآهات، وانتصارات وزفرات، ونفحات ولفحات، ومواقف سطرت بلون الدم، وأخرى كتبت بمداد الفخر، وثالثة حبرت بماء الكرامة؛ لكني اختزن المشاهد واللقاءات؛ فالحديث عنها يطول ويطول، وتفاصيلها ذو شجون وشجون، واستسمحكم عباد الله: أن أنقلكم مباشرة لأسمعكم عن لحظات شرف لقادة في أمة الإسلام كان لهم مع صرخات الثكالى، وأنات الآيامى، وصيحات الحيارى؛ نبرة عزٍّ أجمر التاريخ نيرانها، وأجج البوح والنوح سعارها، وأجاب الشريف المنيف خوارها.

يومها دوت صرخة "وامعتصماه"، فلامست استغاثتها أسماع المعتصم، فحرك لنداها جحافل الحق تثأر وتنتقم، فكانت بلسماً لقلوب مكلومة، وشفاءً لصدور مشحونة، وعزاءاً لأمم على أمرها مغلوبة.

وأما اليوم فلا عزاء لنا، حيث دوي "وامعتصماه" يملأ الأفاق، ويشق أنينه الطباق، ويقطع كمده أمة الوفاق؛ لكنه لا يلقى مجيباً، ولا يحرك شفيقاً، ولا يدوي منكوباً جريحاً

كم يستغيث بنا المستضعفون وهم            قتلى وأسرى فلا يهتز إنسان

أيها المسلمون:

كم تلجلَجَتْ في تاريخنا من أصواتٍ لمنكوبين، وكم ترقرقت في ماضينا من دمعات لمظلومين، وكم تعالت في غابر دهرنا من استغاثات لمقهورين؛ لكنها لم تكن مجرد صيحات في الهواء تهيم، أو أنَّات محبوسة في الضمير تقيم؛ بل كان لها أثرُها ووقْعُها في تهييج أنفة الأمة، وإذكاء نار الغيرة الإسلامية في قلوب رجالها، وتحريك نخوة العروبة أوساط شبابها وأبناءها.

ولقد حفظ لنا التاريخُ مواقفَ وضَّاءةً لأسلافنا؛ أجج روح الثأر في ضمائرها صيحاتُ المستغيثين، وألهبت مثار الحرب في كوامنها آهاتُ المكلومين.

فيومَ أن كنا خير أمَّة كانت تتكافأ دماؤنا، ويسعى بذمَّتنا أدنانا، ونحن يد على من سوانا.

ويوم أن كنا خير أمَّة فكَكْنا العاني، وأجبْنا الداعيَ، وأغثنا الملهوف، ونصرْنا المظلوم.

ويوم أن كنا مستجيبين لله وللرسول صدقاً تمثَّلْنا قولَ الله حقّاً: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ}1.

يومها

ملكنــا هذه الدنيا قروناً                   وأخضعها جدود خالدونا

وسطرنا صحائف من ضياء                   فما نسي الزمان ولا نسينا

وكـنا حين يرميـنا أناس                   نـؤدبـهم أباة قـادرينا

وكنا حين يأخــذنا ولي          بطغيان ندوس له الجـبينا

فتعالوا إخوة الإيمان نقطع حجب الزمان، ونستنطق صفحات التاريخ؛ لنقف على لوحات مشرقة، وأحداث غير عابرة في تاريخنا المنسي؛ لأولئك القوم الذين عاشوا لأمتهم، وكانت لصرخات المستضعفين والثكالى والأيامى وقعها الدامي في قلوبهم، فلامست منها الشغاف، وأيقظت فيها الهتاف، فحركت لذلك جيوش الحق تنشر الموت الزعاف، صيحات لاقت مجيباً يوم غاب في زماننا المجيب، وقلَّ الناصر، فجيشوا جيوشهم، وتركوا عروشهم؛ ليهبُّوا نصرة لنداء المستغيثات من المسلمات العفيفات، ويعيدوا الكرامة المنزوعة، والهيبة المسلوبة.

إنها مواقف حُقَّ لنا أن نفخر بها ونفاخر في زمن التخاذل والخذلان.

إخوة الإيمان:

إن أولى تلك الاستغاثات التي حفظها لنا الزمانُ هو خبر تلك المرأة الأنصارية المسلمة في سوق بني قينقاع:

يوم أن دخلت تلك المرأة السوقَ وهي في كامل حشمتها وسترها، وحيائها وعفافها، وكان سماسرة هذا السوق وأهله هم من يهود بني قينقاع، حين كانوا يعملون في صياغة الحلي والمجوهرات.

وقفت تلك المرأة الشريفة عند صائغ يهودي تساومه على بضاعة أرادتها، فالتفَّ حولها مجموعةٌ يهودية قذرة جعلوا يراودونها على كشف وجهها، والمرأة تأبى وتتمنَّع، فما كان من أحدهم إلا أن عمد إلى ثوبها – وهي قاعدة غافلة – فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سَوْءتها, فتضاحك اليهود وتمايلوا، فصاحت المرأة المقهورة: يا أهل الإسلام، فقام رجل من المسلمين قد أحرقت الغيرةُ صدرَه فقتل اليهودي، فتنادى اليهود وتمالؤوا عليه حتى قتلوا الرجل المسلم.

وتَطير الأخبارُ إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – وصحابتِه الكرام، ويقع هذا الحدث في قلوبهم موقعاً عظيماً، لتّتَفق كلمتهم على نصرة الدم المسلم، وكرامة العرض المسلم، حين عقد النبي – صلى الله عليه وسلم – لواء الجهاد، وأعطاه لعمه حمزة بن عبد المطلب.

ويمضى اللواء الإسلامي وهو مصمم على تأديب هذه الشرذمة المرذولة الخائنة، وما إن تطاير إلى أسماع اليهود مقدم لواء حمزة بن عبد المطلب – رضي الله عنه – حتى هربوا خلف أسوارهم، واختبؤوا في حصونهم.

ويحاصرهم النبي – صلى الله عليه وسلم – خمس عشرة ليلة، وبقذف الله في قلوبهم الرعبَ, فلما أيقنوا بالهلاك، وعلموا أن لا مناص لهم ولا محيص؛ أسلموا أمرهم واستسلموا، ونزلوا على حكم رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، حينها أصدر النبي – صلى الله عليه وسلم – أوامره، وحكم فيهم بحكم الله – جل جلاله – أن يُكتَّفوا، وتضرب أعناقهم.

فما كان من رأسُ النفاق عبدالله بن أُبي بن سلول لما أنزل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حكم الله فيهم؛ إلا أن تدخل، ودافع عنهم ونافح، وقال: أحسِنْ في مواليَّ يا محمد، فأعرَضَ عنه النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -، فأعاد ابن أُبيٍّ مقالته، وجعل يُدخِل يدَه في جيب درع النبي – صلى الله عليه وسلم – حتى تغيَّر وجهُ النبي – صلوات الله وسلامه عليه -، وعُرِف منه الغضب، وهو يقول: ((أرسلني)) – أي: اتركني – فيقول المنافق: أربعمائة حاسر، وثلاثمائة دارع، قد منعوني الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة؟ إني امرؤٌ أخشى الدوائر.

فطاوعه النبي – صلى الله عليه وسلم -؛ غير أنه حَكَم فيهم بإجلائهم من المدينة مع نسائهم وذراريهم، وأن للمسلمين ما سيتركونه من أموالهم وأسلحتهم2، وأنزل الله في إثر ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ}3.

عباد الله:

فتأملوا كيف انتصر المسلمون لهذه المرأة العفيفة الطاهرة يوم استغاثت بأهل الإسلام، فكان الجواب في سرعة النداء، فأين أهل الإٍسلام، وأين أرباب الزعامات اليوم من آلاف الصرخات التي انطلقت من فلسطين وأفغانستان، والشيشان، والعراق، وسائر بلاد المسلمين، لسان حالهن:

أو ما يحركك الذي يجري لنا                 أو ما يثيرك جرحنا الدفاق

لكن حنانيك يا أختاه من تنادين، وبمن تستغيثين، ومن تستنجدين

لقد أسمعت لو ناديت حياً           ولكن لا حياة لمن تنادي

وثمة أمر أرى من المهم الإشارة إليه في هذه الحادثة، فهذا التعاطف الذي جرى بين النفاق واليهود في صدر الإسلام يستمر، وهاهي الأمة عبر تاريخها الطويل ترى نماذجَ ونماذجَ من هذا التزاوج, وها نحن نرى اليوم صوتَ النفاق يتكاتف مع مجازر اليهود، تارة بتأييدهم على حملتهم النازية الآثمة ضد إخواننا في الدم والعقيدة، وتارة بتبرير جرائمهم البشعة، ومجازرهم الفظيعة، ومذابحهم الشنيعة؛ بحجج واهية، وأعذار من الإيمان خاوية، وتارة بالصمت المطبق تجاه عدوان اليهود، وإرسال الألسنة الحِدَادِ على إخوانهم المجاهدين المرابطين، المدافعين عن حقهم، وأرضهم، ومقدساتهم، قاتلهم الله أني يؤفكون.

عباد الله:

ومشهد آخر سجَّله التاريخ لرجل لم يكن يُعرف بصلاح السيرة، ولا باستقامة المسيرة قال عنه الذهبي: كان من جبابرة الملوك، وفسَّاقهم، ومتمرديهم، وقال ابن حزم: كان من المجاهرين بالمعاصي، مَلَكَ هذا الرجلُ أمرَ الأندلس في أواخر القرن الثاني؛ إنه الحكم بن هشام الأموي، هذا الأمير على ما ذُكِر عنه – عفا الله عنَّا وعنه – إلا أنه كان يحمل بين جنبيه غيرة وحمية، حيث دخل عليه شاعر من رجال دولته فأنشده قصيدة طويلة جاء فيها:

تَدَارَكْ نِسَاءَ  العَالَمِينَ  بِنُصْرَةٍ                 فَإِنَّكَ أَحْرَى أَنْ تُغِيثَ وَتَنْصُرَا

فسأله عن الخبر والأمر، فأخبره الشاعر: أنَّه لقي في أطراف دولته بالأندلس امرأةً من البادية حسيرة كسيرة، داهَمَ النصارى أرضَهم، فقتَلُوا وأسَرُوا منهم، فجعلَتِ المرأةُ تستغيث بالحكم بن هشام، وتقول: واغوثاه يا حكم! لقد أهملتنا وأسلمتنا، حتى استأسد العدو علينا، فأيَّمنا، وأيتمنا، فما كاد الشاعر ينهي فصولَ ما رأى؛ حتى رأى الحكم بن هشام قد ثار واستثار، ونادى مِن حينه بالاستعداد لنصرة مَن استَنصَر به.

وما هي إلا ثلاثة أيام إلا والحكم يجوب أطراف مملكته، فيسأل عن العدو الذي أغار عليهم؛ فدُلَّ على مكانهم، فسَارَ نحوهم، وحاصرهم حتى فتح حصونهم، وجاس ديارهم، واستباح ذمارهم، وأسَرَ مُقاتِلتَهم، ثم أمر بإحضار المرأة، وجميع مَن أُسر له أحدٌ من تلك البقاع المسلمة؛ فجاؤوا وهم يرون مَن ظلَمَهم وقَهَرهم مأسوراً، مربوطاً، ذليلاً، فأمر الحكم حينها بضرب أعناقهم؛ ليشفي صدور قوم مؤمنين، ويُذهِب غيظ قلوبهم، وبعدها سأل الحكمُ المرأةَ: هل أغاثكم الحكم؟ فقالت المرأة: "إي والله لقد أشفى الصدور، وأنكأ العدو، وأغاث الملهوف"، ثم ودَّعهم وودَّعوه بدعوات ملؤها الحفظُ، والعز، والنصرة.4

تاريخنا مشرق بيض صفائحه                  هلا على عجل يوم قرأناه

ومشهد آخر من مشاهد نخوتنا وعزَّتنا لتلك الصرخات التي لاقت مجيباً:

امرأة هاشمية في بلد الغربة بين الروم النصارى في بلدة عمورية، تمشي في سوق المدينة، فيحاول أحد الروم أن يستميلها للحرام، ففوَّتت عليه غرضه، فأغلظ عليها، فردَّت عليه، فما كان من هذا الرومي إلا أن لطم المرأة، وصكَّها في وجهها، وأمام قلة حيلتها، وضعفها وغربتها؛ لم تجد إلا أن تطلقها صيحةً من قلبِها قبل لسانها لتقول: "وامعتصماه" إنها صيحة خرجت من فم امرأة مكلومة محروقة،لم ينتهك عرضها، ولم يؤخذ مالها، ولم يُقتل أحد من عشيرتها، إنما صفعها علج رومي خبيث، فلامست هذه الصرخة قلوبا ًحية، وضمائر أبية، فردَّ على استنجادها الرومي بغرور وعنجهية وقال: عساه أن يأتيَك على فرسه الأبلق.

ويشاء الله – تعالى – أن يرى هذا المشهدَ أحدُ تجار المسلمين؛ فيتألَّم لما يرى، وتتحرك في قلبه النخوةُ والغيرة، فينطلق من حينه ميمِّماً وجهَه إلى بغداد.

يسافر هذا الرجلُ، ويقطع المفاوز؛ لا لمصلحة يرجوها، وإنما نصرةً لقضية امرأة مقهورة مظلومة، ويدخل الرجل الغيور على المعتصم، ويُصوِّر له ما رأى من خبر المرأة واستصراخها به، فيستشيط المعتصم غضباً، ويعلن النفير، ويقسم بالله أن لا يمس رأسَه ماءٌ من جنابة حتى يدوس أرضَهم بخيله الأبلق.

قال أهل عصره عنه: وكان إذا حلف حلف، وإذا أقسم أقسم.

نعم؛ خرج المعتصم من بغداد؛ نصرةً لامرأة واحدة، ولكنَّه خرج أيضاً من أجل عزِّة الأمة، وكرامة الأمة، وهيبة الأمة.

كنا جبالاً في الجبال وربمــا                سرنا على موج البحار بحارا

بمعابد الإفرنج كان أذانــنا                قبل الكتائب يفتح الأمصار

لم تنس إفريقيا ولا صحراؤها                 سجداتنا والأرض تقذف نارا

كنا نرى الأصنام من ذهب فنهـ            ـدمها ونهدم فوقها الكفارا

لو كان غير المسلمين لحازهـا               كنزاً وصاغ الحلي والدينارا

ويخرج جيش الإسلام بقادته، وأبطاله، وعلمائه؛ يفتحون المدن والحصون، حتى وصلوا مدينة عمورية، فحاصروها وضربوها بالمنجنيق، ودام الحصار خمسة وخمسين يوماً؛ حتى استسلم النصارى الرومان، وأعلنوا تسليم المدينة للمسلمين، فدخل المسلمون مدينة عمورية فاتحين منتصرين غانمين.

ويبحث المعتصم عن المرأة التي استنجدت، فلما حضرت بين يديه قال لها: هل أجابك المعتصم؟ قالت: نعم.

فلما استقدم الرجل قالت له: هذا هو المعتصم قد جاء وأخزاك، قال: قولي فيه قولك، قالت: "أعزَّ الله ملك أمير المؤمنين بحسبي من المجد أنك ثأرت لي، بحسبي من الفخر أنك انتصرت، فهل يأذن لي أمير المؤمنين في أن أعفو عنه، وأدع مالي له"؟!.

فأعجب المعتصم بمقالها، وقال لها: "لأنت جديرة حقاً بأن حاربت الروم ثأراً لك، ولتعلم الروم أننا نعفو حينما نقدر"5.

هذا هو مجد أمتنا .. أمة لا إله إلا الله محمد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.

فلا إله إلا الله .. استغاثة لإمراة مسلمة أُزهقت من أجلها نفوس، وطارت بسببها رؤوس.

صرخة لعفيفة في شرق الأرض عملت عملها في قلب المعتصم، فلم  يهدأ له بال، ولم يهنأ له عيش حتى أنتقم لها، وأخذ بثأرها.

واليوم! كم من صرخات تنادي "وامعتصماه"، كم من صارخة "واغوثاه"، كم من مستجدية "واإسلاماه"، ولكن لا حياة لمن تنادى.

رُبَّ وَامُعْتَصِمَاهُ انْطَلَقَتْ        مِلْءَ أَفْوَاهِ  الصَّبَايَا  اليُتَّمِ

لاَمَسَتْ أَسْمَاعَهُمْ لَكِنَّهَا        لَمْ تُلاَمِسْ نَخْوَةَ المُعْتَصِمِ

وفي هذا الفتح حبَّر الشاعر أبو تمام قصيدتَه المشهورة:

السَّيْفُ أَصْدَقُ أَنْبَاءً  مِنَ  الكُتُبِ        فِي حَدِّهِ الحَدُّ بَيْنَ  الجِدِّ  وَاللَّعِبِ

فَتْحُ الفُتُوحِ تَعَالَى  أَنْ  يُحِيطَ  بِهِ        نَظْمٌ مِنَ الشِّعْرِ أَوْ نَثْرٌ مِنَ الخُطَبِ

تلك – عبادَ الله – بعضٌ من المشاهد المحفورة في تراثنا، والتاريخ لا ينسى مثل هذه المواقف الشامخة البيضاء، ولا ينسى أيضاً أن يدوِّن المواقف السوداء الخائنة الخائبة.

أقول قولي هذا…

الخطبة الثانية:

الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على عبده المصطفى، وعلى آله وصحبه ومن اجتبى، أما بعد:

فيا إخوة الإيمان:

وبعد هذه المشاهد المضيئة ها نحن نرى اليوم بأعيننا من الصور والمناظر ما يفتُّ الفؤادَ فتّاً، ويقطع القلب كمداً، لأطفال يمزَّقون، وجرحى يئنُّون، ورجال ونساء يستغيثون، تعالت صيحاتهم، وبحتْ أصواتهم، يطلبون النصرة، ويستنجدون النخوة، فإلى متى، وحتام هذا الصمت، وذاك الجمود؟

إِلَى  مَتَى  يَبْقَى  فُؤَادُكَ   قَاسِياً        وَإِلَى  مَتَى  تَبْقَى   بِغَيْرِ   شُعُورِ

هَلاَّ  قَرَأْتَ  مَلاَمِحَ  الأُمِّ   الَّتِي        ذَبُلَتْ مَحَاسِنُ وَجْهِهَا المَذْعُورِ

هَلاَّ اسْتَمَعْتَ إِلَى بُكَاءِ صَغِيرِهَا        وَإِلَى   أَنِينِ   فُؤَادِهَا    المَفْطُورِ

هَلاَّ نَظَرْتَ إِلَى  دُمُوعِ  عَفَافِهَا        وَإِلَى  جَنَاحِ   إِبَائِهَا   المَكْسُورِ

لا عذر لنا أمام الله، وقد رأينا وشاهدنا، ثم لا نتحرك لنصرة من استنصر بنا.

لا تلتفت – أخي المبارك – يميناً وشمالاً، وترمي بالمسؤولية على فلان أو فلان فكلُّنا مطالبون بنصرتهم وإغاثتهم، كلٌّ حسب قدرته ومكانته: فالقادة مطالبون أن يتَّقوا الله، ويصلحوا ذات بينهم، وأن يتحركوا سياسيّاً.

       والتجار مأمورون ببذل المال في سبيل الله، والجهاد بالمال مقدَّم في مواضعَ كثيرةٍ من كتاب الله على الجهاد بالنفس.

       والعلماء والمفكرون مطالبون بجهاد الكلمة، والنصرة بالقلم واللسان.

       وأئمة المساجد مأمورون بالدعاء، وإحياء سنة القنوت عند النوازل.

       وكل غيور على دينه وأمَّته مطالَب بإحياء قضية إخوانه في بيته، وعمله، وسائر مجلسه.

والجميع مطالب بحمل السلاح الذي نيط به: سلاح الدعاء، وسلاح المال، وسلاح الكلمة، وسلاح الشعر والقصيدة، قال – صلى الله عليه وسلم -: ((جاهدوا المشركين بأموالكم، وأنفسكم، وألسنتكم))6.

أما إن بَرَدَت أحاسيسك، وتبلَّد شعورك، وقعدت عن نصرة من استغاث؛ فنحن لا نرجو منك أُخي إلا الصمت، وأن تكفَّ لسانك عن إخوانك المجاهدين المرابطين هناك، فهي صدقة تتصدق بها على نفسك قال – صلى الله عليه وسلم -: ((ما من امرئ يخذل امرأ مسلماً عند موطن تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عرضه؛ إلا خذله الله – عز وجل – في موطن يحب فيه نصرتَه، وما من امرئ ينصر مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته؛ إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته))7.

نسأل الله – تعالى – أن يهيئ لهذه الأمة أمراً رشداً يعز فيه أهل طاعته، ويذل فيه أهل معصيته، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.


 


1 سورة الأنفال (72).

2 دلائل النبوة (3/174) بتصرف.

3 سورة المائدة (51-52).

4 سير أعلام النبلاء (8/254 وما بعدها) بتصرف.

5 سمط النجوم العوالي (3/451) بتصرف.

6 رواه النسائي برقم (3045)، وأبو داود برقم (2143)، وأحمد برقم (11798)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (5401).

7 رواه أبو داود برقم (4240)، وأحمد برقم (15773)، وحسنة الألباني في الجامع الصغير برقم (10627).