شيبتني هود وأخواتها
الحمد لله وحده، خلق الخلق فأحصاهم عدداً، وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً، ثم الصلاة والسلام على خير الورى، وأفضل البشر، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:
جاء في الحديث عَنْ عِكْرِمَةَ عن ابنِ عبّاسٍ – رضي الله عنهما – قالَ: قالَ أَبُو بَكْر – رضي الله عنه -: "يَا رَسُولَ الله قَدْ شِبْتَ" قالَ: ((شَيّبَتْنِي هُودٌ، وَالْوَاقِعَةُ، وَالمُرْسَلاَتُ، وعَمّ يَتَسَاءَلُونَ، وإِذَا الشّمْسُ كُوّرَتْ))1، وروى القرطبي عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: سمعت أبا علي السري يقول: رأيت النبي – صلى الله عليه وسلم – في المنام فقلت: يا رسول الله روي عنك أنك قلت: ((شيبتني هود)) فقال: ((نعم))، فقلت له: ما الذي شيبك منها؟ قصص الأنبياء، وهلاك الأمم؟ فقال: ((لا ولكن قوله: فاستقم كما أمرت))2 قال الحافظ المناوي في شرح كتاب فيض القدير: "شيبتني هود: أي سورة هود، وأخواتها: أي وأشباهها من السور التي فيها ذكر أهوال القيامة، والعذاب، والهموم والأحزان؛ إذا تقاحمت على الإنسان أسرع إليه الشيب في غير أوان، قال المتنبي:
والهم يخترم الجسم نحافة ويشيب ناصية الصبيّ ويهرم
ولما فيها من ذكر الأمم، وما حلَّ بهم من عاجل بأس اللّه، فأهل اليقين إذا تلوها انكشفت لهم من ملكه وسلطانه، وبطشه وقهره؛ ما تذهل منه النفوس، وتشيب منه الرؤوس، فلو ماتوا فزعاً لحُقَّ لهم، لكن اللّه لطف بهم لإقامة الدين"3، وقال ابن عباس – رضي الله عنه -: "ما نزل على النبي – صلى اللّه عليه وسلم – آية كانت أشق ولا أشد من قوله – تعالى -: {فاستقم كما أمرت}، ولذلك قال – صلى اللّه عليه وسلم – لأصحابه حين قالوا: أسرع إليك الشيب قال: ((شيبتني هود…))"4.
فالفزع يورث الشيب قبل موعده، وهذه السورة اشتملت على الوعيد الهائل، والهول الطائل الذي يفطر الأكباد، ويذيب الأجساد حيث قد قال – تعالى – عنه: {يوماً يجعل الولدان شيباً}، وإنما شابوا من الفزع.
وقال بعض أهل العلم: شاب النبي – صلى الله عليه وسلم – من هود وأخواتها لما فيهن من التخويف الفظيع، والوعيد الشديد، لاشتمالهن مع قصرهنّ على حكاية أهوال الآخرة وعجائبها وفظائعها، وأحوال الهالكين والمعذبين، مع ما في بعضهن من الأمر بالاستقامة وهو من أصعب المقامات، وهو كمقام الشكر، إذ هو صرف العبد في كل ذرة ونفس جميع ما أنعم اللّه به عليه من حواسه الظاهرة والباطنة إلى ما خلق لأجله من عبادة ربه بما يليق بكل جارحة من جوارحه على الوجه الأكمل، ولهذا لما قيل للمصطفى – صلى اللّه عليه وسلم – وقد أجهد نفسه بكثرة البكاء والخوف والضراعة: أتفعل هذا وقد غفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: ((أفلا أكون عبداً شكوراً))5.
والمقصود من قوله: "شيبتني" ظهور آثار الضعف عليه قبل أوان الكبر، وليس المراد منه ظهور كثرة الشعر الأبيض عليه؛ لحديث أنس قال: "ما عددت في رأس رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولحيته إلا أربع عشرة شعرة بيضاء"6، وذلك لما في هذه السور من أهوال يوم القيامة والمثلات (أي: العقوبات) النوازل بالأمم الماضية؛ أخذ مني مأخذه حتى شبت قبل أوانه.
وقال ابن القيم – رحمه الله -: "الذي شيب من هود – صلى الله عليه وسلم – {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}7؛ لأن الاستقامة لا تكون عن هوى وإنما تكون الاستقامة على حسب ما أمرت، ولا يستطيع الإنسان أن يستقيم كما أمر إلا بعد أن يعلم بماذا أمر، ثم بعد ذلك يستقيم عليه، والاستقامة عزيزة، ولذا كان عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يقول: "استقيموا، ولا تروغوا روغان الثعلب".
نسأل الله – تعالى – أن يلهمنا رشدنا، وأن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، والحمد لله رب العالمين.