أولياء الرحمن وأولياء الشيطان
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
فإن الله ولي المؤمنين المتقين، يهديهم ويوفقهم، وينصرهم ويؤيدهم ويرعاهم؛ ذلك أنهم قد والوا الله، وآمنوا به، وكفروا بما يعبد من دونه، وأما الكفار فإن الطاغوت وليهم؛ لأنهم اتخذوه ولياً، فوكلهم الله إلى من والوه؛ فخابوا وخسروا، وشتان بين من كان ولياً لله، وبين من كان ولياً للطاغوت؛ يقول الله – تعالى – مبيناً ذلك: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (سورة البقرة:257).
شرح الآية:
بعد أن ذكر الله في الآية السابقة أنه لا يكره أحد على الدخول في الدين لأنه قد استبان الرشد من الغي، فمن كفر بالطاغوت، وآمن بالله؛ فإنه ولي من أولياء الله؛ حيث قال – تبارك وتعالى -: اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ أي متوليهم؛ والمراد بذلك الولاية الخاصة. وما ذلك إلا لأنهم كفروا بالطاغوت، وآمنوا بالله وحده لا شريك؛ فلا يبغون عنه بدلاً، ولا يشركون به أحداً، قد اتخذوه حبيباً وولياً، ووالوا أولياءه، وعادوا أعداءه، فتولاهم بلطفه، ومنَّ عليهم بإحسانه؛ فأخرجهم من ظلمات الكفر والمعاصي والجهل إلى نور الإيمان والطاعة والعلم؛ وهذه من ثمرات ولاية الله الخاصة لهم فقال تعالى: يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ؛ وقد أفرد النور لأنه طريق واحد؛ وجمع الظلمات باعتبار أنواعها؛ لأنها إما ظلمة جهل؛ وإما ظلمة كفر؛ وإما ظلمة فسق؛ أما ظلمة الجهل فظاهرة: فإن الجاهل بمنزلة الأعمى حيران لا يدري أين يذهب؛ كما قال تعالى: أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ وهذا صاحب العلم؛ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا (سورة الأنعام:122) وهذا صاحب الجهل؛ وأما ظلمة الكفر فلئن الإيمان نور يهتدي به الإنسان، ويستنير به قلبه، ووجهه؛ فيكون ضده على العكس من ذلك؛ أما ظلمة الفسق فهي ظلمة جزئية تكبر وتصغر بحسب ما اقترف من الذنوب والمعاصي، ودليل ذلك أن النبي ﷺ أخبر أن العبد إذا أذنب ذنباً نكت في قلبه نكتة سوداء1، والسواد ظلمة، وتزول هذه النكتة بالتوبة، وتزيد بالإصرار على الذنب؛ فالظلمات ثلاث: ظلمة الجهل، والكفر، والمعاصي، يقابلها نور العلم، ونور الإيمان، ونور الاستقامة.
قال ابن كثير – رحمه الله -: “ولهذا وحد – تعالى – لفظ النور وجمع الظلمات؛ لأن الحق واحد، والكفر أجناس كثيرة، ولكنها باطلة؛ كما قال: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (سورة الأنعام:153)؛ وقال تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ (سورة الأنعام:1)؛ وقال تعالى: عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ (سورة النحل:48) إلى غير ذلك من الآيات التي في لفظها إشعار بتفرد الحق، وانتشار الباطل، وتفرده، وتشعبه”.
وقد صرح في هذه الآية الكريمة بأن الله ولي المؤمنين، وصرح في موضع آخر بخصوص هذه الولاية للمسلمين دون الكافرين، وهو قوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى الذين آمَنُواْ وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ (سورة محمد:11)، وصرح في موضع آخر بأن نبيه ﷺ أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهو قوله تعالى: النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ (سورة الأحزاب:6)، وبيَّن في آية البقرة هذه ثمرة ولايته تعالى للمؤمنين وهي إخراجه لهم من الظلمات إلى النور بقوله تعالى: الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور، وبيَّن في موضع آخر أن من ثمرة ولايته إذهاب الخوف والحزن عن أوليائه، وبيَّن أن ولايتهم له تعالى بإيمانهم وتقواهم، وذلك في قوله تعالى: ألا إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (سورة يونس:62-63)، وصرح في موضع آخر أنه تعالى ولي نبيه ﷺ، وأنه أيضاً يتولى الصالحين، وهو قوله تعالى: إِنَّ وَلِيِّيَ الله الذي نَزَّلَ الكتاب وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين (سورة الأعراف:196). أولياء الشيطان:
أما من كفر بالله فإنه قد والى الشيطان، ووالاه الشيطان؛ ولهذا قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ فتولوا الشيطان وحزبه، واتخذوه من دون الله ولياً، ووالوه، وتركوا ولاية ربهم وسيدهم، فسلطه عليهم عقوبة لهم، فهو يؤزهم إلى المعاصي أزاً، ويزعجهم إلى الشر إزعاجاً، فيخرجهم من نور الإيمان والعلم والطاعة إلى ظلمة الكفر والجهل والمعاصي.
وإذا تأملت – أخي المسلم – في قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ، والتي قبلها؛ تجد فرقاً بين التعبيرين في الترتيب، ففي الجملة الأولى قال تعالى: الله ولي الذين آمنوا لأمور ثلاثة؛ أحدها: أن هذا الاسم الكريم إذا ورد على القلب أولاً استبشر به؛ ثانياً: التبرك بتقديم ذكر اسم الله ؛ ثالثاً: إظهار المنة على هؤلاء بأن الله هو الذي امتن عليهم أولاً فأخرجهم من الظلمات إلى النور؛ أما الجملة الثانية: وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ؛ ولو كانت الجملة على سياق الأولى لقال: “والطاغوت أولياء الذين كفروا”؛ ومن الحكمة في ذلك: أولاً: ألّا يكون الطاغوت في مقابلة اسم الله؛ ثانياً: أن الطاغوت أهون وأحقر من أن يُبدأ به ويُقدّم؛ ثالثاً: أن البداءة بقوله تعالى: الذين كفروا أسرع إلى ذمهم مما لو تأخر ذكره.
وقوله تعالى: والذين كفروا أي كفروا بكل ما يجب الإيمان به سواءً كان كفرهم بالله، أو برسوله، أو بملائكته، أو باليوم الآخر، أو بالقدر، أو غيرها مما يجب الإيمان به.
وقوله تعالى: أولياؤهم جمع “وليّ”؛ وجمعت لكثرة أنواع الشرك، والكفر؛ بخلاف سبيل الحق؛ فإنها واحدة.
ولما نقول أن الله ولي المؤمنين، وأن الله ليس ولي للكافرين بالمعنى الخاص بل الشيطان وليهم؛ لا نعني أبداً أن الكفار خارجين عن ولاية الله وملكه، وتصرفه وقدرته، بل هم داخلون تحت ولاية الله العامة، منفية عنهم ولاية الله الخاصة التي ينفرد بها المؤمنون؛ كما في قوله: الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ؛ وأما الكفار فإنهم تحت ولاية الله العامة أي تحت قهر الله وقدرته، وملكه وتصرفه؛ كما في قوله: وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (سورة يونس:30)، وقوله: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ (سورة الفرقان:26)، وقوله: الملك يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ (سورة الحج:56) فلما تولوا عن الله، ووالوا غيره؛ جازاهم الله على ذلك أن حرموا الخيرات، وفاتهم النعيم والبهجة والمسرات، وكانوا من حزب الشيطان وأولياءه في دار الحسرة، فلهذا قال تعالى: أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، وقوله أَصْحَابُ جمع صحب؛ و”الصاحب” هو الملازم لغيره؛ فأصحاب النار هم أهلها الملازمون لها؛ وقُدم الجار والمجرور لإفادة الحصر، ولمراعاة الفواصل.
بعض الفوائد المستفادة من الآية:
1. فضيلة الإيمان، وأنه تحصل به ولاية الله ؛ لقوله تعالى: اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ.
2. إثبات الولاية لله ؛ أي أنه يتولى عباده، وولايته نوعان الأول: الولاية العامة بمعنى أن يتولى شؤون عباده، وهذه لا تختص بالمؤمنين كما قال تعالى: وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (سورة يونس:30) يعني الكافرين، والنوع الثاني: ولاية خاصة بالمؤمنين؛ كقوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (سورة محمد:11)، وكما في قوله تعالى: اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ ومقتضى النوع الأول أن لله – تعالى – كمال السلطان والتدبير في جميع خلقه، ومقتضى النوع الثاني: الرأفة، والرحمة، والتوفيق.
3. أن الكافرين أولياؤهم الطواغيت سواء كانوا متبوعين، أو معبودين، أو مطاعين.
4. براءة الله من الذين كفروا يؤخذ من المنطوق والمفهوم، فالمفهوم في قوله تعالى: اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ، فمفهومه: لا الذين كفروا، المنطوق من قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ وهذا مقابل لقوله تعالى: اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ.
5. سوء ثمرات الكفر وعواقبه، وأنه يهدي إلى الضلال – والعياذ بالله -؛ لقوله تعالى: يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ، وهذا الإخراج يشمل ما كان إخراجاً بعد الوقوع في الظلمات، وما كان صدًّا عن النور، وعلى الثاني يكون المراد بإخراجهم من الظلمات: استمرارهم على الظلمات.
6. إثبات النار وأنها موجودة قد أعدت للكافرين؛ لقوله تعالى: أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، وقوله تعالى: وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (سورة آل عمران:131)، وثبت عن النبي ﷺ في غير حديث أنه رآها ففي صلاة الكسوف عرضت عليه النار، ورأى فيها عمرو بن لُحيّ يجر قصبه في النار2، ورأى المرأة التي تعذب في هرة، ورأى صاحب المحجن يعذب3.
7. أن الكافرين مخلدون في النار؛ لقوله تعالى: أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ، والصاحب للشيء الملازم له، وأن هذا الخلود خاص بالكافرين لقوله تعالى: هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ أي دون غيرهم، وأما من يدخل النار من عُصاة الموحدين فإنه لا يخلّد فيه4.
والله أعلم، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.