الثلاث درجات
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، والصلاة والسلام على خير خلقه وأكرم رسله محمد بن عبد الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه..
أما بعد:
أيها الناس: إن فضل الله وكرمه على خلقه عظيم، فهو ذو الفضل وصاحب الفضل وإليه الفضل، وقد تفضل على عباده بأن شرع لهم أعمالاً ترفع بها درجاتهم، وتكفر بها من سيئاتهم، ومن هذه الأعمال التي ترفع بها الدرجات ما جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات، وثلاث كفارات، وثلاث درجات… )) وأما الثلاث الدرجات: ((إطعام الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام))1.
وسنقف في هذا اليوم العظيم مع الثلاث الدرجات..
الدرجة الأولى: ((إطعام الطعام)) فقد ورد في فضلها حديث أبي مالك الأشعري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إنَّ في الجنة غرفًا يُرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن أطعم الطعام، وأفشى السلام، وصلى بالليل، والناس نيام))2، وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((اعبدوا الرحمن، واطعموا الطعام، وافشوا السلام؛ تدخلوا الجنة بسلام))3..
أيها المؤمنون: إن إطعام الطعام عمل من أجلّ القربات، وأعظم الحسنات؛ ففي الحديث المتفق عليه عن عبد الله بن عمر أن رجلاً سأل رسول الله: أي الإسلام خير؟ قال: ((تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف))، وقد قال النبي-صلى الله عليه وسلم- لصهيب: ((خياركم من أطعم الطعام))4..
ومهما قل ما يقدمه الإنسان لغيره من الطعام فإنه -مع النية الخالصة- يعظم عند الله تعالى؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ الله ليربي لأحدكم التمرة واللقمة كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله -صغار الخيل والإبل– حتى تكون مثل أحد))5..
أيها الناس: الدرجة الثانية: ((إفشاء السلام))؛ فالسلام اسم من أسماء الله الحسنى، وإفشاء السلام وبذله من أعظم خصال الإسلام والإيمان؛ ففي البخاري عن عبد الله بن عمرو أن رجلاً سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي الإسلام خير؟ قال: ((تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف))..
وإفشاء السلام سبب من أسباب المحبة والألفة؛ أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: ((لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أو لا أدلكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم؟! أفشوا السلام بينكم))..
وبإفشاء السلام والمصافحة تحط الذنوب والخطايا؛ فعن حذيفة أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن المؤمن إذا لقي المؤمن فسلم عليه وأخذ بيده فصافحه تناثرت خطاياهما كما يتناثر ورق الشجر))6.
ومن أبخل البخل: البخل بالسلام؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: ((أعجز الناس من عجز في الدعاء، وأبخل الناس من بخل بالسلام))7، ولذلك جاءت النصوص بتحريم الهجران بين المؤمنين، والحث على التصافي والتوادّ؛ فعن أبي أيوب-رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيصدُّ هذا ويصدُّ هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام))8. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله عَظُمَ شأنه ودام سلطانه، أحمده سبحانه وأشكره عم امتنانه وجَزَلَ إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، به علا منار الإسلام وارتفع بنيانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس: الدرجة الثالثة من الدرجات الثلاث التي جاء ذكرها في الحديث: ((قيام الليل))؛ فقد جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- قال: ((… أفضل الصلاةِ بَعْد الفريضةِ صلاةُ الليل))..
وقد أثنى الله على أهل قيام الليل في خمسة عشر موضعًا من القرآن، منها قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} سورة السجدة(16)، وقال في وصف المتقين: {كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} سورة الذاريات(17، 18)، قال قتادة: "قلَّ ليلة تأتي عليهم إلا يصلون فيها لله عز وجل إما من أولها أو من وسطها"9. وقال سبحانه في وصف عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} سورة الفرقان(64).
وما أجمل ساعات الليل ودقائقه حين يقف بين يدي الله؛ فقد أخرج مسلم عن جابر قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن في الليل لساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله خيرًا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة)).. قال ثابت البناني -رحمه الله-: "ما شيء أجده في قلبي ألذّ عندي من قيام الليل"10. وقال أبو سليمان الداراني -رحمه الله-: "لأهل الطاعة بليلهم ألذ من أهل اللهو بلهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا"11.
ومن أعظم ما ورد في شأن أهل قيام الليل قول النبي -صلى لله عليه وسلم-: ((ثلاثة يحبهم الله ويضحك إليهم ويستبشر بهم))، وذكر منهم: ((والذي له امرأة حسناء وفراش لين حسن، فيقوم الليل فيقول الله: يذر شهوته ويذكرني، ولو شاء رقد، والذي إذا كان في سفر وكان معه ركب فسهروا ثم هجعوا فقام من السحر في ضراء وسراء))12.
وجاء في الأثر: عن أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربةٌ إلى ربكم، ومكفرةٌ للسيئات، ومنهاةٌ عن الإثم))13.
أيها المؤمنون: ليكن لنا شيء من الليل ولو يسيرًا؛ فعن ابن عباس قال: ذكرت قيام الليل فقال بعضهم: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((نصفه ربعه فواق حلب ناقة)) أي قدر ما بين رفع اليد عن الضرع وضمها وقت الحلب.
وتحدثنا أمُّنا عائشة بأعجب ما رأته من النبي -صلى الله عليه وسلم-، فتقول: أتاني في ليلتي حتى مسّ جلده جلدي ثم قال: ((ذريني أتعبد لربي عز وجل))، قالت: فقلت: والله، إني لأحب قربك وأحب أن تعبد ربك، فقام إلى القربة فتوضأ ولم يكثر صبَّ الماء، ثم قام يصلي فبكى حتى بلَّ لحيته، ثم سجد فبكى حتى بلَّ الأرض، ثم اضطجع على جنبه فبكى، حتى إذا أتاه بلال يؤذنه بصلاة الصبح قالت: فقال: يا رسول، ما يبكيك وقد غفر الله لك ذنبك ما تقدم وما تأخر؟! فقال: ((ويحك يا بلال، وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل علي في هذه الليلة: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} سورة آل عمران(190)، ثم قال: ((ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها))14.
وقد سار على نهجه في ذلك أصحابه -رضي الله عنهم-، فهذا عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- كان في وجهه خطان أسودان مثل الشراك من البكاء، ولما قرأ رضي الله عنه {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} سورة التكوير(1)، وانتهى إلى قوله تعالى: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} سورة التكوير(10). خر مغشيا عليه. ومر يوماً بدار إنسان وهو يصلي ويقرأ سورة والطور فوقف يستمع فلما بلغ قوله تعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِن دَافِعٍ} سورة الطور(7) (8) نزل عن حماره، واستند إلى حائط، ومكث زمانا ورجع إلى منزله، فمرض شهرا يعوده الناس، ولا يدرون ما مرضه15.
وقد روي أن قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} سورة الزمر(9) نزلت في عثمان بن عفان-رضي الله عنهما-، قال ابن عمر: "ذلك لكثرة صلاة أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه- بالليل وقراءته حتى إنه ربما قرأ القرآن في ركعة"16.. وكان أبو هريرة وامرأته وخادمه يقتسمون الليل ثلاثًا، كما يقول أبو عثمان النهدي: "تضيفت أبا هريرة سبعا، فكان هو وامرأته وخادمه يتعقبون الليل أثلاثا؛ يصلي هذا ثم يوقظ هذا، ويصلي هذا ثم يوقظ هذا"17.
بل كان الأشعريون قوم أبي موسى يعرفون بالليل بالقرآن، يقول النبي-صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح مسلم: ((إني لأعرف أصوات رُفْقَةِ الأشعريين بالقرآن حين يخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل)).. فبأيّ شيء تعرف بيوت كثير منا -أيها المسلمون- بالليل في هذه الأيام؟! إلى الله المشتكى، وصلى الله على خير من صلى وقام، وطاف بالبيت الحرام، وعلى آله وصحبه والتابعين على الدوام.
اللهم أعنا على الصالحات، واصرف عن الشرور والمهلكات، وارزقنا توبة قبل الموت، ورحمة بعد الموت.. إنك أنت الغفور الرحيم.
1 رواه الطبراني في معجمه الأوسط، وقال الألباني: "حسن لغيره"؛ كما في صحيح الترغيب والترهيب، رقم(453).
2 رواه ابن حبان.
3 رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح" وقال الألباني: "صحيح" كما في صحيح الترغيب والترهيب، رقم(945).
4 رواه أبو الشيخ ابن حبان في كتاب الثواب، وقال الألباني: "حسن صحيح" كما في صحيح الترغيب والترهيب، رقم(948).
5 رواه الطبراني وابن حبان في صحيحه واللفظ له، وقال: "صحيح"؛ كما في صحيح الترغيب والترهيب، رقم (857).
6 رواه الطبراني، وقال الألباني: "صحيح لغيره"؛ كما في صحيح الترغيب والترهيب، رقم(2720).
7 رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح، وقال الألباني: "حسن صحيح"؛ كما في صحيح الترغيب والترهيب، رقم(2714).
8 رواه البخاري ومسلم، وهذا لفظ البخاري.
9 مختصر تفسير ابن كثير(3/417). للصابوني.
10 صفة الصفوة(3/262).
11 المصدر السابق(4/228).
12 رواه الطبراني وإسناده حسن من حديث وعن أبي الدرداء، وقال الألباني: "حسن"؛ كما في صحيح الترغيب والترهيب، رقم (629).
13 رواه الترمذي، وقال الألباني: "حسن لغيره"؛ كما في صحيح الترغيب والترهيب، رقم (624).
14 رواه ابن حبان في صحيحه، وقال الألباني: "حسن" كما صحيح الترغيب والترهيب، رقم(1468).
15 يراجع: إحياء علوم الدين(4/184).
16 تفسير القرآن العظيم(4/61).
17 صفة الصفوة(1/692). دار المعرفة – بيروت.