الثقافة بين مفهومين

الثقافة بين مفهومين

 

الخطبة الأولـى:

الحمد لله الذي أيقظ الغافلين، ونفع بالتذكرة المؤمنين، فلم يشتغلوا بالدنيا وحدها، بل جمعوا بين الدنيا والدين، وعرفوا ما لربهم من الحق، فقاموا به قيام الصادقين، أحمده حمد الحامدين، وأشكره وأستعينه، فهو نعم المولى ونعم المعين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي المصطفى الأمين، اللهم صلِّ وسلِّم على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين1.

أيها المسلمون:

نقف هذا اليوم مع مفهوم الثقافة عند أهل الإسلام وعند أعدائهم ممن جندوا أنفسهم لمحاربة الإسلام وأهله, فيا ترى ما هي الثقافة وما مفهومها؟!

لفظ الثقافة من: ثَقِفَ الرجل, ومعناها: صار حاذقاً فطناً، والثقافة هي العلوم والمعارف والفنون التي يطلب الحذق فيها, وهذا هو المعنى اللغوي لهذه اللفظة, وأما في الاصطلاح فالثقافة هي: مجموعة الأعراف والطرق والنظم والتقاليد التي تميز جماعة أو أمة أو سلالة عرقية عن غيرها, وعلى مستوى الفرد يطلق اللفظ على درجة التقدم العقلي التي حازها، بصرف النظر بالطبع عن مستويات الدراسة التي أنجزها.

ومنذ وقت طويل تتعدد التعريفات لهذا اللفظ حتى أنه في مطلع الخمسينات حصر عالمان أمريكيان من علماء الأنثروبولوجي مائة وخمسين تعريفاً للثقافة.

وليس من شك في أن الثقافة الإسلامية ككل وثقافات الشعوب الإسلامية المختلفة، تمثل أنماطاً بارزة للثقافة المتصلة والممتدة بجذور قوية في الماضي، بل يكاد المراقبون ينظرون إلى الثقافات الإسلامية اليوم على أنها أقدم الثقافات التي لا تزال موجودة في عالم اليوم دون تقلبات أو تغيرات حادة في مفاهيمها الأولى، ويرجع هذا بالطبع إلى سمو التعليمات الإسلامية، التي تستمد وجودها من الخالق -جل وعلا- من خلال تشريع سماوي لم يقتصر على العبادات وإنما تكفل بتوجيه السلوك الإنساني في المعاملات والعادات ونمط الحياة اليومية على مستوى الفرد والمجتمع على نحو ما نعرف جميع2.

عباد الله:

تحوط استخدام مصطلح "الثقافة" اليوم جملة من المحاذير التي ينبغي على العلماء والمهتمين بالمعرفة والعلوم والتربية، وكذلك الكتاب والمؤلفين وعامة الأمة التنبه لها, ومن تلك المحاذير التي يجب الانتباه لها عند إطلاق واستخدام لفظ الثقافة: تزيين قيم ومبادئ وعقائد الكفار والضلَّال والمبتدعة، ومساواتها مع غيرها من قيم وعقائد ومبادئ الإسلام، باعتبار الكل إرث حضاري، أو نتاج بشري، أو أفكار وآراء تخطئ وتصيب أو يختار منها الأنسب.

فيقال عند الحديث عن العلمنة أو الاشتراكية أو الديمقراطية أو غيرها من المبادئ المناقضة للإسلام: إنها مدارس اجتهادية، ومناهج تجريبية، تخضع للنظر والتأمل، والمزج مع الإسلام، أو التقاسم معه، فهي تحكم السياسة والاقتصاد والأدب! وهو يحكم الروح والأخلاق والعبادة!.

ومن المحاذير –أيضاً- أن توصف الممارسات الباطلة والأخلاق الفاحشة بهذا المصطلح؛ فالسحر والتنجيم، وقراءة الحظ ومعرفة البروج وغيرها من الخرافات المحرمة تنتشر في الصحافة باسم التثقف، وحرية الحصول على المعرفة، وكأن المعرفة ألغاز غيبية لا يستطيع الإنسان وصولها إلا بالمشعوذين والكهان!

والطرب، والغناء، والتمثيل، ومشاهدة ما يخدش الحياء، ويذهب المروءة، ويهتك العرض يمرر في بلداننا الإسلامية تحت مسمى الثقافة والآداب، ويا لها من مفارقة أن يقال عن عري الشرق والغرب إن هذه آداب وفنون بل و"ثقافة"، فيما تعني الثقافة: الحذق والذكاء والتهذيب، فأي حذق، وذكاء، وتهذيب وراء اللهو والطرب والرقص!!

ومن المحاذير: أن يقلل من شأن النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، مقابل كتب بشرية مؤلفة، وكلمات موروثة، وأمثلة سائرة، فيترك الوحي، ويؤخذ بأهواء الخلق، ويعرض عن الفقه في الدين، وتطلب الحكمة عند الجهلة، ومن لا خلاق لهم, ويقال للمستمسك بدينه: إنك جاهل بأشعار الشعراء، وحكمة الحكماء، وأمثال الخبراء، وسيرة الملوك، وإلهامات أرباب الكرامة، عندها تعطل الشريعة، ويصبح المعروف منكراً، والمنكر معروفاً.

ومن المحاذير في استخدام هذا المصطلح: إبعاد الناس عن تأصيل علومهم ومعارفهم الدينية والدنيوية؛ فيصبحوا أميين بما يناسب طبيعة العصر، وظروف المرحلة3.

عباد الله:

إن الإشكالية هي أننا في عصر أصبح فيه العالم الإسلامي سوقاً للمذاهب الفكرية والسياسية والثقافية؛ يقف من يسمون بـ"المثقفون العرب" في هذا الخضم الهائل ينهلون ويغترفون صنوفاً من الأفكار والثقافات، ثم يعيدون تعليبها وتسويقها تحت شعار بقلم/ "اسم عربي"  ثم ينطلقون ناعقين باسم الثقافة، ناشرين آراءً وأفكاراً غربية المنشأ، لا تمت بصلة إلى ثقافتنا الحقيقية كمسلمين.

هذا المشهد الثقافي الغريب يدعونا للوقوف أمام إشكالية تحديد مفهوم الثقافة والمثقف مستندين إلى قيمنا الأصيلة وأهدافنا النبيلة كأمة ذات رسالة، وعلى هذا الأساس نتساءل: هل المثقف هو من يحصل أكبر كم من المعارف والمعلومات، أو يحصل على أعلى الشهادات، ثم نجده يعيش بعيداً عن الواقع، ويفكر بعقلية مقطوعة الصلة بقضايا وطنه وأمته، أو ينظر إلى الواقع برؤية لا تعكس الحقائق كما هي، فيزين الانحراف ويسميه حرية، ويذم الصلاح ويسميه رجعية.

هل هذه هي الثقافة التي نعول عليها في عملية الإصلاح والنهوض؟ لا شك أن هذه ليست هي الثقافة التي ننشدها ونعول عليها، فليس ثمة رابط بينها وبين الواقع الذي ننتظر أن تلعب الثقافة والمثقفون دوراً في إصلاحه وتقويمه، بل هي تهدم تراث الأمة، وتنهال على القيم الأصيلة هدماً وتخريباً، غير مدركة أنها بذلك تهوي بالأمة إلى دركات التخلف والسقوط والفساد.

إنه لأمر مؤسف أن نرى أدعياء الثقافة من السفهاء يتعدون على ثوابت الأمة باسم الثقافة والحرية، ونرى الأقزام يتطاولون على الأعلام من العلماء والدعاة، والمفكرين الصادقين.

إنها لمأساة أن نرى المرضى يفرغون حثالة أفكارهم السقيمة، ويسكبون قذارة عُقدهم النفسية المزمنة؛ متدثرين برداء الثقافة وحرية التعبير والرأي، مجردين الثقافة من معانيها الأصيلة التي تقوم على سمو الأهداف، ونظافة الوسائل، وتهدف إلى التقويم والإصلاح والتهذيب، محاولين إقصاء المثقفين الحقيقيين الذين يجمعون إلى المعرفة والعلم الرؤية الثاقبة المؤسسة على الفهم الصحيح للواقع، والذين يتعاملون مع واقعهم بمقتضى القيم والمبادئ، وقاصدين إلى نشر الخير والحق، مستعلين عن التعامل بمقتضى ما تمليه عليهم الشهوات والرغبات والاعتبارات الحقيرة، رافضين أن يكونوا أبواقاً تنعق بما يُراد لها أن تنعق به.

ومن هنا فإن العلماء والمتعلمين الذين يؤدون دوراً وظيفياً بحتاً في شتى المجالات أعدادهم كثيرة، ولكن المثقفين منهم الذين يؤدون دوراً إصلاحياً قلة، وعلى عاتقهم تقع مسئولية كبيرة؛ لأنهم يحملون هموم الأمة وتطلعاتها، ويفكرون حين تتوقف العقول عن التفكير، ويتكلمون حيث تنعقد الألسن عن الكلام، ويثبتون حين تتساقط التماثيل.

هؤلاء هم المثقفون الحقيقيون من العلماء والمفكرين والمصلحين، هم الأعلام الذين تهتدي بهم الأمة، والنجوم التي يأتم بها السائرون، والأمل الذي نعيش على وهج حرارته، وتباشير إشراقاته4. {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} (115) سورة النساء. أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم إنه غفور رحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي وعد المؤمنين بالنصر والتأييد, وأشهد أن لا إله إلا الله الولي الحميد, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي جاهد في الله حق جهاده لإعلاء التوحيد, أما بعد:

إن الثقافة الإسلامية تتميز بخصائص لا توجد عند أولئك المغرورين بثقافتهم الزائفة, ومن تلكم الخصائص: أنها تتميز عن سائر الثقافات بأن مصدرها الأساسي هو الوحي الإلهي، وجميع فروع هذه الثقافة من العلوم والمعارف تدور حول فلك الوحي المتمثل في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وما أجمع عليه المسلمون.

وتتميز بموافقتها للفطرة القويمة والعقل السليم, ومعنى موافقة الثقافة الإسلامية للفطرة القويمة، هو أن الإنسان لو تجرد من الهوى والتعصب والاستكبار والعناد، فإنه سيعترف بأحقية الثقافة الإسلامية وسلامتها من الباطل، وموافقتها للحق، وكذلك العقل السليم إذا تجرد من الأهواء سيوافق ما جاء في الثقافة الإسلامية، ويشهد بأنه حق، وسيجد ذلك متلائماً مع دلالة العقل، فلا يوجد شيء في الثقافة الإسلامية صحيح النقل عن مصدرها الأصلي الكتاب والسنة يخالف صريح العقل.

ومن مزايا الثقافة الإسلامية سلامتها من التناقض, ومعنى هذه الخاصية أننا إذا استبعدنا الدخيل على الثقافة الإسلامية وتخلصنا من شوائب ما نسب إليها مما ليس عليه دليل صحيح من القرآن أو السنة، فإننا لن نجد فيها أي تناقضات البتة، كما قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} (82) سورة النساء.

واعلموا: أنه لا يوجد في الثقافة الإسلامية ما يكون مستحيلاً في العقل، ولكن قد يوجد فيها ما يحتار فيه العقل, والمقصود بهذه الخاصية، أن الثقافة الإسلامية قد تشتمل على أمور يمكن أن تحتار بعض العقول في كيفيتها؛ لأنها ليست من قبيل الواقع المحسوس، بل هي من أمور الغيب، مثل الإيمان بالبعث والنشور، والملائكة والجن وغير ذلك, ولكنها لا تشتمل أبداً على ما يحكم العقل السليم باستحالته، كما يوجد في النصرانية المحرفة على سبيل المثال، التي تؤمن بالتثليث وهو أن الله الواحد في زعمهــم، هو في نفس الوقت ثلاثة أقانيم: الأب والابن والروح القدس فالعقل يحكم باستحالة أن يكون الواحد ثلاثة، وأما في الثقافة الإسلامية، فلا يوجد البتة ما يقطع العقل باستحالته، إلا إن كان منسوباً إلى الثقافة الإسلامية وليس منها.

ومن الخصائص المميزة للثقافة الإسلامية أنها جاءت لكل العالمين من الجن والإنس إلى يوم القيامة، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (107) سورة الأنبياء. وهي شاملة لكل ما يحتاجه الناس للفوز بالسعادة والفلاح في الدنيا والآخرة, قال الله تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} (38) سورة الأنعام. وهي كذلك صالحة لهداية الناس في كل زمان ومكان وكل أمة وفي جميع الأحوال, وهي محفوظة بحفظ الله تعالى إلى قيام الساعة، ولقد تعرضت لكثير من الضربات من أعدائها حتى بلغت بهم الظنون أنهم سيقضون عليها إلى الأبد، ولكنها عادت متجددة قوية مرة أخرى، وبهذا تظهر ميزة أخرى وهي أنها ثابتة ثبات الجبال إلى قيام الساعة, كما قال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (8) سورة الصف.

ولما كانت الثقافة الإسلامية مصدرها من الله تعالى، فقد تكفل الله تعالى بمن يتمسك بها علماً وسلوكاً بأن يرفع قدره ويعلي شأنه، كما قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (11) سورة المجادلة. ولهذا لما كانت الأمة الإسلامية متمسكة بثقافتها الإسلامية أعزها الله، جعل غيرها من الأمم تابعة له5.

عباد الله:

إن الأعداء قد غزونا بقوانينهم يريدون منا أن ندع أحكام الكتاب والسنة التي صدرت من الرب العليم بمصالح العباد, الحكيم في شرعه فلم يشرع إلا ما فيه الخير والرشد والعدل والسداد, الرحيم بخلقه فلم يشرع لهم إلا ما فيه مصلحتهم في الحال والمآل, ولم ينههم إلا عما فيه مضرتهم في الحال والمآل, وإن أعداءنا إذا نجحوا من هذه الناحية فقد حازوا نصراً مبيناً وذلك من وجهين: الأول: أننا نصير عالة عليهم وتابعين لهم نتشبع بآرائهم ونتروى بأفكارهم.

الثاني: أننا بذلك نترك تطبيق أحكام ديننا التي لا انتصار لنا عليهم إلا بتطبيقها والتزامها ظاهراً وباطناً, وأما إفساد الثقافة فإنهم أدخلوا على الثقافة الإسلامية ما يبعدها عن أهدافها وأغراضها حتى أصبحت جافة هزيلة لا ترى فيها حياة الدين ودسومته, وبذلك استولى الضعف على المسلمين وتداعت عليهم الأمم وصاروا غثاء كغثاء السيل يجري بهم التيار قهراً, لا يملكون تقدماً ولا تأخراً, لو هبت الريح لمزقتهم ولو استقبلهم أصغر العيدان لفرقهم, ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها؛ فلو أن المسلمين تدبروا كتاب ربهم وسنة نبيهم وعملوا بما فيهما وطبقوا ذلك على الأفراد والجماعات في جميع العبادات والمعاملات لفتح الله عليهم بركات من السماء والأرض, ولنصرهم وألقى في قلوب أعدائهم الرعب؛ فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم, والله يقول: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ* الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (40-41) سورة الحـج6. اللهم أعز الإسلام والمسلمين, وأذلَّ الشرك والمشركين, واحم حوزة الدين, وصلِّ اللهم على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين, والحمد لله رب العالمين.


 


1 الفواكه الشهية في الخطب المنبرية لـ(السعدي).

2 من كتاب مفاهيم إسلامية مقال لـ(أ.د/محمد محمد الجوادى).

 http://www.islamselect.com/index.php?ref  3 من مقال لـ( أنور قاسم الخضري).

 http://www.islamselect.com/index.php?ref  4  من مقال لـ(أنور الشبَحي).

6 الضياء اللامع من الخطب الجوامع لـ(ابن عثيمين).