حكم الدعاء بعد الصلاة

حكم الدعاء بعد الصلاة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:

في هذا المقال سيكون الحديث حول موضوع حكم الدعاء بعد الصلوات المكتوبة، وسنورد أقوال العلماء في هذا المسألة التي اختلف أهل العلم فيها إلى قولين:

القول الأول: الدعاء عقب الصلوات المكتوبة مرغب فيه شرعاً من قبل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقد روى الترمذي  عن أبي أمامة – رضي الله عنه – قال: قيل يا رسول الله أي الدعاء أسمع؟ قال: ((جوف الليل الأخير، ودبر الصلاة المكتوبة))1 قوله: "أي الدعاء أسمع" أي أوفق إلى السماء، أو أقرب إلى الإجابة، ومعنى "دبر الصلاة المكتوبة" أي بعد الصلاة المكتوبة2، وقد أخرج الطبري من رواية جعفر بن محمد الصادق قال: "الدعاء بعد المكتوبة أفضل من الدعاء بعد النافلة كفضل المكتوبة على النافلة"3 ذكر ذلك ابن حجر العسقلاني في الفتح، وسكت عنه في أثناء شرحه لكتاب الدعوات في صحيح البخاري "باب الدعاء بعد الصلاة"، ومما قاله ابن حجر – رحمه الله – في شرحه لهذا الباب: أي المكتوبة، وفي هذه الترجمة رد على من زعم أن الدعاء بعد الصلاة لا يشرع4. انتهى كلامه رحمه الله.

وتسمية البخاري – رحمه الله – لهذا الباب بهذا الاسم يدل على مشروعية الدعاء بعد الصلاة، وقد أرشد كثير من العلماء إلى استحباب الدعاء بعد الصلاة المكتوبة في مصنفاتهم منهم الذين سبق ذكرهم وهم: البخاري في جامعه، وابن حجر في شرحه لصحيح البخاري، ومنهم الإمام النووي في كتابه "المجموع شرح المهذب" وقد قال فيه: "فرع: قد ذكرنا استحباب الذكر والدعاء للإمام والمأموم والمنفرد، وهو مستحب عقب كل الصلوات بلا خلاف"5.

القول الثاني: ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمة الله -، والإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى – إلى عدم استحباب الدعاء بعد الصلاة، وسبب الخلاف هو ما هو المراد من دبر الصلاة هل هو آخرها قبل السلام أم بعد السلام، ونريد ِ أن ننظر إلى دلالة لفظ: "دبر" في كتب اللغة، ثم نتأمل دورانه في كتب السنة؛ لنقف على دلالاته المختلفة.

جاء في جمهرة اللغة: "الدبر: ضد القبل، والإدبار: خلاف الإقبال، وأمس الدابر: الذاهب6"، وفي مجمل اللغة: "الدبر: خلاف القبل، والدبير: ما أدبرت به المرأة من غزلها حين تفتله"7.

وفي معجم مقاييس اللغة: "دبر" الدال والباء والراء، أصل هذا الباب أن جله في قياس واحد وهو آخر الشيء، وخلفه خلاف، فمعظم الباب أن الدبر خلاف القبل، والدبير: ما أدبرت به المرأة من غزلها حين تفتله، قال ابن السكيت: "القبيل من الفتل: ما أقبلت به إلى صدرك، والدبير: ما أدبرت به عن صدرك"، ثم قال: "ودبر النهار، وأدبر، وذلك إذا جاء آخره، وهو دبره8.

وفي تاج العروس: "الدبر بالضم، وبضمتين؛ نقيض القبل، والدبر من كل شيء عقبه ومؤخره"، وفيه: "وأدبار السجود وإدباره: أواخر الصلوات، وقد قرئ: وأدبار وإدبار فمن قرأ (وأدبار) فمن باب خلف ووراء، ومن قرأ (وإدبار) فمن باب خفوق النجم"9.

وفي التاج أيضاً: "الدبر (خلف الشيء)، ومنه جعل فلان قولك دبر أذنه أي خلف أذنه"10.

وفي لسان العرب: "الدبر والدبر: نقيض القبل، ودبر كل شيء: عقبه ومؤخره، وجمعها: أدبار، ودبر كل شيء: خلاف قبله في كل شيء، ما خلا قولهم: جعل فلان قولك دبر أذنه أي خلف أذنه".

ومن مجموع ما سبق يتبين أن لفظ: "دبر" يعني: خلاف القبل آخر الشيء، خلف الشيء وما بعده، وقد جاء هذا اللفظ في القرآن الكريم، والسنة المطهرة بهذه المعاني والدلالات، فمن ذلك قوله – سبحانه -: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ}11 أي من الخلف، وقوله سبحانه: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ}12.

 

أدلة من منع من الدعاء بعد الصلاة المكتوبة:

ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – إلى أن الدعاء لا يشرع بعد الصلاة، وإنما محل الدعاء في الصلاة لا خارجها، وحمل ما ورد من الأدعية في دبر الصلاة على أن ذلك محله آخر الصلاة، وقبيل السلام، وقد سئل – رحمه الله تعالى -: هل دعاء الإمام والمأموم عقيب صلاة الفرض جائز أو لا؟ فأجاب: "الحمد لله. أما دعاء الإمام والمأمومين جميعاً عقيب الصلاة فهو بدعة، لم يكن على عهد النبي – صلى الله عليه وسلم -، بل إنما كان دعاؤه في صلب الصلاة؛ فإن المصلي يناجي ربه، فإذا دعا حال مناجاته له كان مناسباً، وأما الدعاء بعد انصرافه من مناجاته وخطابه فغير مناسب، وإنما المسنون عقب الصلاة هو الذكر المأثور عن النبي – صلى الله عليه وسلم – من التهليل، والتحميد، والتكبير، كما ((كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول عقب الصلاة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد))13.

وقد ثبت في الصحيح أنه قال: ((من سبح دبر الصلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد ثلاثاً وثلاثين، وكبر ثلاثاً وثلاثين؛ فذلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، حطت خطاياه))14 أو كما قال، فهذا ونحوه هو المسنون عقب الصلاة، والله أعلم"15.

وقال ابن تيمية – رحمه الله تعالى -: "الذي نقل عن النبي – صلى الله عليه وسلم – من ذلك بعد الصلاة المكتوبة إنما هو الذكر المعروف كالأذكار التي في الصحاح، وكتب السنن والمسانيد وغيرها مثل ما في الصحيح: أنه ((كان قبل أن ينصرف من الصلاة يستغفر ثلاثاً، ثم يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام))"16… إلخ، وقال: "وأما دعاء الإمام والمأمومين جميعاً عقيب الصلاة فلم ينقل هذا أحد عن النبي – صلى الله عليه وسلم -، ولكن نقل عنه أمر معاذ أن يقول دبر كل صلاة: ((اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك))"17، ونحو ذلك.

ولفظ (دبر الصلاة) قد يراد به آخر جزء من الصلاة كما يراد بدبر الشيء مؤخره، وقد يراد به ما بعد انقضائها كما في قوله – تعالى -: {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ}18، وقد يراد به مجموع الأمرين، وبعض الأحاديث يفسر بعضاً لمن تتبع ذلك وتدبره.

وبالجملة فهنا شيئان:

أحدهما: دعاء المصلي المنفرد كدعاء المصلي صلاة الاستخارة وغيرها من الصلوات، ودعاء المصلي وحده إماماً كان أو مأموماً.

والثاني: دعاء الإمام والمأمومين جميعاً، فهذا الثاني لا ريب أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يفعله في أعقاب المكتوبات كما كان يفعل الأذكار المأثورة عنه، إذ لو فعل لنقله عنه أصحابه، ثم التابعون، ثم العلماء، كما نقلوا ما هو دون ذلك، ولهذا كان العلماء المتأخرون في الدعاء على أقوال: منهم من يستحب ذلك عقيب الفجر والعصر كما ذكر ذلك طائفة من أصحاب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد، وغيرهم، ولم يكن معهم في ذلك سنة يحتجون بها، وإنما احتجوا بكون هاتين الصلاتين لا صلاة بعدها، ومنهم من استحبه أدبار الصلوات كلها، وقال: لا يجهر به إلا إذا قصد التعليم كما ذكر ذلك طائفة من أصحاب الشافعي، وغيرهم، وليس معهم في ذلك سنة، إلا مجرد كون الدعاء مشروعاً، وهو عقب الصلوات يكون أقرب إلى الإجابة، وهذا الذي ذكروه قد اعتبره الشارع في صلب الصلاة.

فالدعاء في آخرها قبل الخروج مشروع مسنون بالسنة، واتفاق المسلمين، بل قد ذهب طائفة من السلف والخلف إلى أن الدعاء في آخرها واجب قال ابن تيمية – رحمه الله -: "والمناسبة الاعتبارية فيه ظاهرة، فإن المصلي يناجي ربه، فما دام في الصلاة لم ينصرف فإنه يناجي ربه، فالدعاء مناسب لحاله، أما إذا انصرف إلى الناس من مناجاة الله لم يكن موطن مناجاة له ودعاء، وإنما هو موطن ذكر له، وثناء عليه، فالمناجاة والدعاء حين الإقبال والتوجه إلى الله في الصلاة، أما حال الانصراف فالثناء والذكر أولى"19.

ولذلك نجد شيخ الإسلام يرجح أن دبر الصلاة يراد به آخر جزء منها، وقد يراد به ما يلي آخر جزء منها، كما في دبر الإنسان فإنه آخر جزء منه، قال – رحمه الله -: "فالدعاء المذكور في دبر الصلاة إما أن يراد به آخر جزء منها؛ ليوافق بقية الأحاديث، أو يراد به ما يلي آخرها، ويكون ذلك ما بعد التشهد، أو يكون مطلقاً أو مجملاً، وبكل حال فلا يجوز أن يخص به ما بعد السلام؛ لأن عامة الأدعية المأثورة كانت قبل ذلك، ولا يجوز أن يشرع سنة بلفظ مجمل يخالف السنة المتواترة بالألفاظ الصريحة)20.

ومن كل ما سبق يمكن تلخيص رأي شيخ الإسلام في هذه المسألة في النقاط الآتية:

1- أن محل الدعاء قبل السلام لا بعد السلام، وأن الصلاة كلها محل دعاء.

2- أن الأحاديث التي جاءت في الأدعية دبر الصلاة ينبغي أن تحمل على ما قبل السلام، لأن دبر كل شيء جزء منه.

3- لا يجوز أن يقال بسنية الدعاء بعد الصلاة؛ لأن ذلك تشريع لسنة بلفظ مجمل وهو "دبر الصلاة" هذا، مع تجويزه لأن يراد بدبر الصلاة ما بعدها أيضاً.

أما تلميذه ابن القيم – رحمه الله – فقد تناول هذه المسألة في كتابه زاد المعاد، ويحسن بنا أن ننقل نص كلامه لنكون على بينة من مذهبه في المسألة، وحتى لا ينسب إليه – رحمه الله – ما لم يره، قال في زاد المعاد في هديه – صلى الله عليه وسلم – في الصلاة: "وأما الدعاء بعد السلام من الصلاة مستقبل القبلة أو المأمومين فلم يكن ذلك من هديه – صلى الله عليه وسلم – أصلاً، ولا روي عنه بإسناد صحيح ولا حسن، وأما تخصيص ذلك بصلاتي الفجر والعصر فلم يفعل ذلك هو ولا أحد من خلفائه، ولا أرشد إليه أمته، وإنما هو استحسان رآه من رآه عوضاً من السنة بعدهما، والله أعلم.

وعامة الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما فعلها فيها وأمر بها فيها، وهذا هو اللائق بحال المصلي، فإنه مقبل على ربه يناجيه ما دام في الصلاة، فإذا سلم منها انقطعت تلك المناجاة، وزال ذلك الموقف بين يديه، والقرب منه، فكيف يترك سؤاله في حال مناجاته، والقرب منه، والإقبال عليه، ثم يسأل إذا انصرف عنه، ولا ريب أن عكس هذا الحال هو الأولى بالمصلي، إلا أن هاهنا نكتة لطيفة، وهو أن المصلي إذا فرغ من صلاته، وذكر الله وهلله، وسبحه، وحمده، وكبره بالأذكار المشروعة عقيب الصلاة؛ استحب له أن يصلي على النبي – صلى الله عليه وسلم – بعد ذلك ويدعو بما شاء، ويكون دعاؤه عقيب هذه العبادة الثانية لا لكونه دبر الصلاة، فإن كل من ذكر الله وحمده وأثنى عليه، وصلى على رسوله – صلى الله عليه وسلم – استحب له الدعاء عقيب ذلك كما في حديث فضالة بن عبيد: ((إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله، والثناء عليه، ويصلي على النبي – صلى الله عليه وسلم – ثم ليدع بما شاء))21 قال الترمذي: حديث صحيح"22، وهذا نص كلامه – رحمه الله، وهو عين ما قاله الإمام ابن تيمية.

غير أنا نراه بعد صفحات قلائل يذكر أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – كان يدعو إذا سلم من الصلاة، وذكر بعض أدعيته مثل حديث معاذ: ((اللهم أعني على ذكرك))، وحديث علي بن أبي طالب ((كان إذا سلم من الصلاة قال: اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت …))23، قال بعده: "هذه قطعة من حديث علي الطويل الذي رواه مسلم في استفتاحه – عليه الصلاة والسلام -، وما كان يقوله في ركوعه، سجوده، ولمسلم فيه لفظان أحدهما: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يقوله بين التشهد والتسليم، وهذا هو الصواب، والثاني: كان يقوله بعد السلام، ولعله كان يقوله في الموضعين. والله أعلم"24.

وقال عقيب إيراد ((حديث معاذ حين أوصاه الرسول – صلى الله عليه وسلم – أن يقول في دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك)) ودبر الصلاة يحتمل قبل السلام وبعده، وكان شيخنا يرجح أن يكون قبل السلام، فراجعته فيه فقال: دبر كل شيء منه كدبر الحيوان"25، ويبدو والله أعلم أن الإمام ابن القيم متجاذب بين متابعته لشيخه وبين نظره إلى الأحاديث، مما حدا به إلى التوفيق بين قول شيخه الإمام، ودلالات الحديث التي ذكرها في الزاد، وعقد له فصلاً في بيان ما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يقوله بعد انصرافه من صلاته، والتجاذب الذي كان ابن القيم – رحمه الله – واقعاً تحت تأثيره يشير إليه، ويوحي به قوله – رحمه الله -: "ودبر الصلاة يحتمل قبل السلام وبعده، وكان شيخنا يرجح أن يكون قبل السلام، فراجعته فيه، فقال: "دبر كل شيء منه كدبر الحيوان"، وإذن فقد كان ابن القيم يراجع شيخه في تفسيره لمدلول "دبر الصلاة"، والمراجعة تعني ولا شك أنه كان يرى رأياً غير رأي شيخه، وأنه كان يناقشه فيه؟ ولذلك جاء بتلك "النكتة اللطيفة"  في تجويزه بل استحبابه لدعاء المصلي بعد أن يفرغ من صلاته، وأذكاره المشروعة، وقوله: إن هذا الدعاء المستحب ليس لكونه واقعاً دبر الصلاة، ولكن لكونه بعد الأذكار المشروعة، والصلاة والسلام على رسول الله، ومع ذلك فقد فهم منه بعض الناس أنه يمنع من الدعاء بعد الصلاة مطلقاً قال ابن حجر: "وفهم كثير ممن لقيناه من الحنابلة أن مراد ابن القيم نفي الدعاء بعد الصلاة مطلقاً، وليس كذلك، فإن حاصل كلامه أنه نفاه بقيد استمرار استقبال القبلة، وإيراده بعد السلام، أما إذا انفتل بوجهه، وقدم الأذكار المشروعة؛ فلا يمتنع عنده"26.

وبعد هذا العرض لمذهب شيخ الإسلام وتلميذه نقول: أما ما ذهب إليه ابن تيمية – رحمه الله – من منع الدعاء الجماعي من الإمام والمأمومين فحق لا ريب فيه، ولا مناقشة في هذا، لأنه كما قال شيخ الإسلام: لم يؤثر عن النبي – صلى الله عليه وسلم – شيء من هذا، ولو كان هناك شيء منه لنقل.

وأما قوله وقول ابن القيم – رحمهما الله تعالى -: أن المشروع بعد الصلاة الذكر المشروع من الاستغفار والتسبيح، والتحميد والتهليل، والتكبير؛ فهذا أيضاً حق واضح، وشرع بيِّن، وسنة متواترة، ولكنه لا يمنع من الدعاء بعد الصلاة.

والمناقشة إنما هي في قول شيخ الإسلام وقول ابن القيم: أن الدعاء بعد السلام ليس بمشروع، بناء على أن ذلك لم يرد عن النبي – صلى الله عليه وسلم -، وأن ما ورد عنه من الدعاء دبر الصلاة معناه قبل السلام منها، وأن اللائق بحال المصلي أن يدعو في الصلاة لا خارجها.

فأما قولهما: إن ذلك لم يرد عن النبي – صلى الله عليه وسلم -؛ فيرده ما أورده ابن القيم من بعض الأحاديث منها: قوله27: وقد ذكر أبو حاتم في صحيحه أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يقول عند انصرافه من صلاته: ((اللهم أصلح لي ديني الذي جعلته عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي جعلت فيها معاشي، اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من نقمتك، وأعوذ بك منك، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد))28، وعن أبي أيوب أنه قال: ما صليت وراء نبيكم – صلى الله عليه وسلم – إلا سمعته حين ينصرف من صلاته يقول: ((اللهم اغفر لي خطاياي وذنوبي كلها، اللهم أنعمني وأحيني، وارزقني واهدني لصالح الأعمال والأخلاق إنه لا يهدي لصالحها إلا أنت، ولا يصرف عن سيئها إلا أنت))29، وعن الحارث بن مسلم التميمي قال: قال لي النبي – صلى الله عليه وسلم – ((إذا صليت الصبح فقل قبل أن تتكلم: اللهم أجرني من النار سبع مرات، فإنك إن مت من يومك كتب الله لك جواراً من النار، وإذا صليت المغرب فقل قبل أن تتكلم: اللهم أجرني من النار سبع مرات فإنك إن مت من ليلتك كتب الله لك جواراً من النار))30.

وأما قول شيخ الإسلام: إن "دبر الصلاة" يراد به آخر جزء منها قبل السلام، فيرده ما جاء من الحديث من تفسير لدبر الصلاة بما بعد السلام منها، وما ورد من الحديث أيضاً بقراءة المعوذات دبر الصلاة بما بعد السلام منها، وما ورد من الحديث أيضاً بقراءة المعوذات دبر الصلاة، وأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – بعض صحابته بذلك، ومعلوم أن جلوس التشهد ليس محلاً للقراءة، وإنما هو للدعاء والصلاة والسلام على رسول الله بالمأثور من ذلك، فوجب أن يحمل ذلك على ما بعد السلام أن "دبر الصلاة" يراد به ما قبلها وما بعدها، وهذا ما رجحه ابن القيم، ونقلنا قوله في ذلك، قال الحافظ ابن حجر: "فإن قيل المراد بـ"دبر الصلاة" قرب آخرها وهو التشهد؛ قلنا: ورد الأمر بالذكر دبر الصلاة، والمراد به بعد السلام إجماعاً، فكذا هذا حتى يثبت ما يخالفه31، واحتج الحافظ أيضاً بحديث: ((ذهب أهل الدثور))32، وأن فيه: ((تسبحون دبر كل صلاة)) وهو بعد السلام جزماً، فكذلك ما شابهه.

على أنه قد جاءت أحاديث صريحة في دعائه – عليه الصلاة والسلام – بعد الصلاة بلفظ: كان إذا سلم من الصلاة أو إذا فرغ من صلاته أو نحو ذلك، فتكون هذه الأحاديث مفسرة للفظ المجمل المختلف حوله.

وأما الدليل العقلي الذي استدل به أو استأنس به شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو: أن المصلي قريب من ربه في صلاته، والمناسب الدعاء حال قربة، وإقباله على ربه؛ فالجواب: هذا صحيح، والصلاة كلها محل للدعاء، بل هي كلها دعاء إذا نظرنا إلى الاشتقاق اللغوي، لكن لم لا ينظر إلى الصلاة على أنها قربة ووسيلة إلى الله – سبحانه وتعالى -، فإذا قضاها العبد وأداها توسل بها إلى مولاه، وتقرب بها إليه – سبحانه -، وطلب حاجته من الله بعدها، ولم يمنع أحد من الدعاء قبل السلام، ومن المواضع الأخرى في الصلاة كالركوع، والسجود، والقيام وغيرها، حتى يقال: إن المناسب الدعاء في الصلاة لا خارجها: بل إنا نقول: يدعو في الصلاة، ويدعو خارجها بعد الفراغ منها بناء على دلالة الأحاديث، ثم إن مما يستدل به على مشروعية الدعاء بعد الصلاة – فريضة أو نافلة – أنه ليس هناك وقت محدد من الشارع للدعاء يجوز فيه، ووقت لا يجوز فيه كالصلاة، بل الدعاء عبادة مشروعة في كل وقت، ومن منع منه في حال أو زمان أو مكان يحتاج إلى إثبات ذلك بالدليل الصحيح الصريح، فمن يدعو بعد الصلاة أقل أحواله أن يكون متمسكاً هذا الأصل وهو مشروعية الدعاء في كل وقت، فكيف إذا جاءت بالأمر به، والحث عليه؛ أحاديث، ولو كانت مجملة الدلالة على فرض ذلك، والواقع أن هذه الأحاديث لا إجمال فيها، بل بينتها أحاديث أخرى كما سبق بيانه.

والقول بمشروعية الدعاء أدبار الصلوات لا يعني به الذكر أو الدعاء الجماعي من الإمام والمأمومين،، فإن هذا ليس له أصل من عمل النبي – صلى الله عليه وسلم – وهديه.

والله أعلم.


 


1– سنن الترمذي (5/526) رقم (3499)؛ وسنن النسائي الكبرى (6/32) رقم (9936)، وقال الشيخ الألباني: حسن. صحيح الترمذي ( 3/167).

2– تحفة الأحوذي (9/331).

3– فتح الباري لابن حجر (11/134).

4– المصدر نفسه.

5– المجموع (3/488).

6 مادة د ب ر (3/197).

7 مادة د ب ر (1/242).

8 (2/324).

9 مادة د ب ر (3/197).

10 مادة دب ر (3/198).

11– سورة يوسف الآية 25.

12– سورة الأنفال الآية 16.

13– صحيح البخاري الأذان (808), وصحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (593), وسنن النسائي السهو (1341), وسنن أبي داود الصلاة (1505), ومسند أحمد بن حنبل (4/245), وسنن الدارمي الصلاة (1349).

14– مسلم في المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة (1/ 418)، وأخرجه أحمد (2/371) كذلك.

15– مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية (22/519)

16– صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (591), وسنن الترمذي الصلاة (300), وسنن أبي داود الصلاة (1512), وسنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (928), ومسند أحمد بن حنبل (5/280), وسنن الدارمي الصلاة (1348).

17– سنن النسائي السهو (1303), وسنن أبي داود الصلاة (1522), ومسند أحمد بن حنبل (5/247).

18– سورة ق.

19– مجموع الفتاوى (22/492).

20– المصدرنفسه (22/499).

21– سنن الترمذي الدعوات (3477).

22– زاد المعاد (1/78).

23– سنن أبي داود الصلاة (1509).

24– زاد المعاد (1/76).

25– المصدر نفسه.

26– فتح الباري (13/382).

27– زاد المعاد (1/302).

28– أخرجه الإمام مسلم (13/249)؛ والنسائي (ج5/ص 158).

29– المعجم الكبير (8/227).

30– مسند أحمد بن حنبل (4/234).

31– فتح الباري (13/382).

32– صحيح البخاري الأذان (807), وصحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (595), وسنن أبي داود الصلاة (1504), وسنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (927), ومسند أحمد بن حنبل (2/238), وموطأ مالك النداء للصلاة (488), وسنن الدارمي الصلاة (1353).