العلماء والصدع بكلمة الحق

العلماء والصدع بكلمة الحق

الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، وأصلي وأسلم على خير البرية، وأزكى البشرية، سيد ولد آدم، الشافع المشفع، أما بعد:

حين يَدْلَهِمّ الخطب، ويجلُّ الأمر، ويظهر الفساد، ويشيع الظلم في كثير من البلدان التي نَحَّت الحكم بما أنزل الله، حينئذ يخشى الناس على أنفسهم وأولادهم وذويهم، فيضطرون إلى الانزواء بعيداً عن معترك الأحداث، بل ويخضعون لهذا الواقع المظلم، ويستسلمون له بعد أن ألجمت ألسنتهم تلك الأوضاع، فتجدهم قد رضوا تجرع مرارة الصبر، وربما شربوا كؤوس الذل والمهانة، وينسى الظالم عند بغيه وجبروته تدبير الخالق العزيز الجبار، وأنه له بالمرصاد، فيتمادى في بغيه، ويزيد في طغيانه، ويأبى الله إلا أن ينصر دينه، ويتم نوره، ويدحض الباطل، ويعلي الحق، فيقيض لتلك الشعوب الذليلة المنكسرة من يخرجها من خنوعها وذلتها، ويبعث فيها روح العزة والكرامة، وذلك حين يضحي العلماء والدعاة بأنفسهم، وحينما يقعون تحت سياط الجلادين، وسيوف الجبارين، وأعواد المشانق؛ لا يخافون في الله لومة لائم، ليقولوا للناس: إن الموت في سبيل الله خير من الموت جبناً وذلاً، ويقيض الله كذلك لأولئك الظلمة الطغاة من يرهب قلوبهم، ويزلزل كراسيهم بالصدع بكلمة الحق ابتغاء مرضاة الله، بعد أن يتخذوا كل الوسائل المتاحة والمشروعة لذلك، وبعد أن يصر الظالم على ظلمه، ويقف من شرع الله موقف المعارض، ومن الدعاة إلى الله موقف المعادي والمحارب.

ولو استرجعنا التاريخ لوجدنا الأمر لا يكاد يختلف، بل يسجل التاريخ تلك الحقيقة الجلية ألا وهي الصراع بين حزب الرحمن وحزب الشيطان، ولن تموت أمثال هذه الكلمات الصادقة: "ولأموتن في حديدي هذا حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم"، فإلى أولئك الذين يسقطون ظلماً وعدواناً في الدفاع عن الإسلام ودعوته، ليعلموا أنه قد سبقهم أقوام على الطريق نفسه.

الموقف الأول:

الإمام البويطي هو العلامة سيد الفقهاء يوسف أبو يعقوب بن يحيى المصري البويطي، صاحَبَ الشافعي ولازمه مدة، وفاق الأقران، وكان إماماً في العلم، قدوة في العمل، زاهداً ربانياً متهجداً، دائم الذكر، سعى به أصحاب ابن أبي دُؤاد حتى كتب فيه ابن أبي دُؤاد إلى والي مصر فامتحنه أي في محنة خلق القرآن فلم يجب، وكان الوالي حسن الرأي فيه، فقال له: قل فيما بيني وبينك، قال: إنه يقتدى بي مئة ألف، ولا يدرون المعنى!! فأمر به أن يحمل إلى بغداد، قال الربيع بن سليمان: رأيته على بغل في عنقه غلٌ، وفي رجليه قيدٌ، وبينه وبين الغل سلسلة فيها لَبِنَةٌ طوبة وزنها أربعون رطلاً، وهو يقول: "إنما خلق الله الخلق "بكن"، فإذا كانت مخلوقة فكأن مخلوقاً خُلق بمخلوق، ولئن دخلت عليه لأصْدُقَنّه – يعني الواثق -، ولأموتن في حديدي هذا حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم"، وتوفي – رحمه الله – في قيده مسجوناً بالعراق في سنة إحدى وثلاثين ومئتين من الهجرة.

الموقف الثاني:

الإمام نعيم بن حماد: العلامة صاحب التصانيف، كان شديداً في الرد على الجهمية، حُمل إلى العراق في إبان تلك الغيمة مع البويطي مقيدين، وكان يقول: "من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ورسوله تشبيه"، قال ابن يونس: حُمل على القول بتلك الفرية فامتنع أن يجيب، فسجن ومات في سجنه سنة تسع وعشرين ومئتين، وجرَّ بأقياده فألقي في حفرة، ولم يكفن ولم يصلى عليه، وأوصى نُعيم بن حماد أن يدفن في قيوده، وقال: "إني مخاصم".

الموقف الثالث:

فقيه المدينة ابن أبي ذئب – رحمه الله – وهو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب، يقول أبو العيناء: لما حجَّ المهدي دخل مسجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلم يبق أحد إلا قام إلا ابن أبي ذئب، فقال له المسيب بن زهير: قم هذا أمير المؤمنين، فقال: إنما يقوم الناس لرب العالمين، فقال المهدي: دعه، فلقد قامت كل شعرة في رأسي، وقال أبو نعيم: حججت عام حج أبو جعفر، ومعه ابن أبي ذئب، ومالك بن أنس، فدعا ابن أبي ذئب فأقعده معه على دار الندوة، فقال له: ما تقول في الحسن بن زيد بن حسن – يعني أمير المدينة -؟ فقال: إنه ليتحرى العدل، فقال له: وما تقول فيّ – مرتين -؟ فقال: ورب هذه البنية إنَّكَ لجائر، قال: فأخذ الربيع الحاجب بلحيته، فقال له أبو جعفر: كف يا ابن اللخناء، ثم أمر لابن أبي ذئب بثلاث مئة دينار.

المواقف الرابع:

وقف الحجاج مع سعيد بن جبير فقال له: ما اسمك؟ يعرف أنه سعيد بن جبير عالم المسلمين، قال: أنا سعيد بن جبير، قال: بل أنت شقي بن كسير، قال: أمي أعلم إذ سمتني، قال: شقيت أنت وشقيت أمك، والله لأبدلنك في الدنيا ناراً تلظى، فقال سعيد: لو أعلم أن ذلك إليك لاتخذتك إلهاً.

قال الحجاج: عليَّ بالمال، فأتوا بأكياس الذهب والفضة فنثروها بين يدي سعيد بن جبير ليفتنه، قال سعيد بن جبير: يا حجاج! إن كنت اتخذت هذا المال ليمنعك من عذاب الله فنعم ما فعلت، وإن كنت اتخذته رياءً وسمعة وصداً عن سبيل الله فوالله لا يغنيك من الله شيئاً، قال: خذوه، يعني: خذوا سعيد بن جبير، وولوه إلى غير القبلة، وقال: والله لأقتلنك قتلة ما قُتل بها أحد من الناس، قال سعيد: يا حجاج بل اختر لنفسك أي قتلة تريدها، والله لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله بمثلها فاختر لنفسك، قال: ولوه إلى غير القبلة، قال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}1، قال: أنزلوه أرضاً، قال: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}2، قال: اقتلوه، قال سعيد: "لا إله إلا الله محمد رسول الله، خذها يا حجاج حتى تلقاني بها غداً عند الله، اللهم لا تسلطه على أحد بعدي، يا قاصم الجبابرة اقصم الحجاج"، وبعدها في المجلس ثارت بثرة في يد الحجاج، وبقي شهراً يخور كما يخور الثور لا ينام، ولا يستطيع الأكل والشرب والراحة، يقول: "ما مرَّت بي ليلة إلا رأيت كأني أسبح في الدم، وما مرت بي ليلة إلا رأيت كأن القيامة قامت، ورأيت أن الله يحاسبني ويقتلني عن كل من قتلته قتلة، إلا سعيد بن جبير قتلني به سبعين مرة"، وقصمه الله بعدها.

فهذه بعض مواقف العلماء الصادقين الذين لا يخافون في الله لومة لائم، سطروا التاريخ بدمائهم، وضربوا لنا أروع الأمثلة في التضحية والفداء، والثبات والصدع بكلمة الحق، ومجابهة الطغاة الذي ننتظر فيهم وعيد الجبار: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}3.

وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليماً، والحمد لله رب العالمين.


 


1 البقرة (115).

2 طه (55).

3 سورة الشعراء (227).