الجزاء من جنس العمل

الجزاء من جنس العمل

الحمد لله الذي من حكمته جعل الجزاء من جنس الأعمال، وأرى العباد من ذلك نموذجاً ليحدوهم به إلى أكمل الخصال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الكرم والجلال، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي فاق الخلق في كل كمال، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه خير صحب وأشرف آل، أما بعد:

أيها الناس:

اتقوا الله، واعلموا أن الله بحكمته قضى أن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر؛ ليعرف العباد أنه حليم عليم، رؤوف رحيم، وليرغبوا في الخير ويحذروا من أسباب العذاب الأليم، فقد قال – صلى الله عليه وسلم -: ((الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ))1.

إن الله طيب لا يقبل من الأعمال والأقوال والنفقات إلا طيباً، وإن الله طيب، جواد يحب الجود، كريم يحب الكرم، وما نقصت صدقة من مال بل تزيده، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد إلا رفعه الله، ومن أحسن إلى الخلق أحسن الله إليه، ومن عفا عنهم عفا الله عنه، ومن غفر لهم غفر الله له، ومن تكبر عليهم وضعه الله، ومن يسر عن معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، والله في حاجة العبد ما كان العبد في حاجة أخيه، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، ومن أنفق لله أخلف الله عليه، ومن أمسك عما عليه أتلفه الله، وما ظهر الغلول وأكل المال بغير حق في قوم إلا أوقع في قلوبهم الرعب، وابتلاهم الله بالذل، وما نقص قوم المكيال والميزان إلا قطع عنهم الرزق، وما نكث قوم العهد إلا سلط عليهم الأعداء، وما فشا في قوم الزنا إلا كثر فيهم الوباء والموت، وما حكم قوم بغير ما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم، ومن وصل رحمه وصله الله، ومن قطعها قطعه الله، ومن أوى إلى الله آواه الله، ومن استحيا من الله استحيا الله منه، ومن أعرض عن الله أعرض الله عنه، ومن تقرب إلى الله تقرب الله منه أكثر من ذلك، ومن أشبع مسلماً من جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، ومن سقاه على ظمأ سقاه من حلل الجنة، ومن نصر أخاه المسلم نصره الله، ومن خذل مسلماً خذله الله، ومن تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته وأظهر عيوبه، ومن سترهم وأغضى عن عيوبهم ستره الله، ومن يستعفف يعفه، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، ومن أقال مسلماً بيعته أقال الله عثرته يوم القيامة، ومن أخذ أموال الناس يريد أداءها أداها الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله، ومن فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته، ومن جمع متحابين جمع الله بينه وبين أحبته، والله يقول: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ* وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (8) سورة الزلزلة2.

عباد الله:

إن الله – عز وجل – قد أودع هذا الكون سنناً ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، يُنسج على منوالها نظام هذه الحياة، فالعاقل اللبيب من يساير سنن الله ولا يصادمها، ومن هذه القواعد والسنن العظيمة أن الجزاء من جنس العمل، فجزاء العامل من جنس عمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر: {جَزَاء وِفَاقًا} (26) سورة النبأ.

ولو وضعنا هذه القاعدة نصب أعيننا لزجرتنا عن كثير من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا؛ ذلك أن العلم بهذه القاعدة هو في المقام الأول دافع للأعمال الصالحة، ناه عن الظلم، زاجر للظالمين، ومواس للمظلومين، ولو استحضر الظالم الباغي عاقبة ظلمه وأن الله – عز وجل – سيسقيه من نفس الكأس عاجلاً أو آجلاً لكف عن ظلمه، وتاب إلى الله وأناب، ولعل هذا المعنى هو ما أشار إليه سعيد بن جبير – رحمه الله – حين قال له الحجاج: "اختر لنفسك أي قتلة تريد أن أقتلك، فقال: بل اختر أنت لنفسك يا حجاج؛ فوالله لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها يوم القيامة"3.

ولو أن هذا الذي يهدم بنيان الله ويهدر الدم الحرام بغير حق تدبر الحكمة القائلة: "بشر القاتل بالقتل" لأحجم عن فعلة عاقبتها الهلكة، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.

ولو أن هذا الفاجر المستهتر الذي يعبث بحرمات الناس، وينتهك أعراضهم؛ علم أن عدل الله قد يقضي أن يسلط على عرض أمه أو أخته، أو زوجته أو ابنته من لا يتق الله فيه، فينال منه كما نال هو من عرض أخيه لانتهى وانزجر، وصدق القائل:

يـا هاتكاً حرم الرجال وقاطعاً      سبل المودة عشت غير مكرم لو كنت حراً من سلالة مـاجد     ما كنت هتاكاً لحـرمـة مـسلم من يَزن يُزن به ولو بجداره          إن كنت يا هـذا لـبيـبـاً فافهم من يزن في بيت بألفي درهم         في بيـته يزنى بغـير الـدرهم  

ولو أن الوصي على مال اليتيم سول له الشيطان أكله بالباطل فاستحضر قول الله – تعالى-: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا* إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} (9-10) سورة النساء، لو استحضرها لاتقى الله في مال اليتامى، ولحافظ عليهم وعلى أموالهم؛ حتى يحفظ الله ذريته من بعده، وينجيه من النار عياذاً بالله.

إن اليقين بهذه القاعدة من قواعد نظام الكون ليمنح وقوداً إيمانياً عجيباً لمن سلك سبيل الله – تعالى- فوجد عقبات أو منغصات، أو اضطهادات أو ظلماً واستضعافاً فيؤزه هذا اليقين بتلكم القاعدة على الصبر والثبات وثوقاً بموعود الله الذي يمهل ولا يهمل، ويملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.

وقد وردت الأدلة الشرعية الكثيرة التي ترشد إلى هذه القاعدة وتؤكد عليها في مثل قوله – تعالى-:{لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا* وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} (123-124) سورة النساء، وقوله – تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} (36) سورة الأنفال، وقوله – تعالى-: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (54) سورة آل عمران، وقوله: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} (50) سورة النمل، والآيات التي تدل على أن الجزاء من جنس العمل كثيرة.

ومن الأدلة عليها من سنة النبي – صلى الله عليه وسلم – بالإضافة إلى ما سبق قوله – صلى الله عليه وسلم -: (احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ)4، وقال النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: (أتاني جبريل فقال: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به…)5.

ومن أمثلة واقع الحياة: قصة الخليل إبراهيم – عليه السلام – إذ هي من الأمثلة العملية التي تدل على تحقق هذه القاعدة، إنه ذلك الرجل الذي قام بدين الله – عز وجل – خير قيام فقدم بدنه للنيران، وطعامه للضيفان، وولده للقربان، فلما صبر على البلاء في ذات الله – عز وجل – وألقاه قومه في النار كان جزاؤه من جنس عمله: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} (69) سورة الأنبياء، ولما سلم قلبه من الشرك والغل والأحقاد كان جزاؤه من جنس عمله: {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} (109) سورة الصافات، ولما هاجر وترك أهله وقرابته ووطنه أسكنه الله الأرض المباركة، ووهب له من الولد ما تقر به عينه: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ* وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ} (71-72) سورة الأنبياء، ولما بنى لله بيتاً في الأرض يحجه الناس رآه النبي – صلى الله عليه وسلم – مسنداً ظهره إلى البيت المعمور قبلة أهل السماء الذي يطوف به كل يوم سبعون ألف ملك.

ولما صبر الخليل – عليه السلام – على تجريده من ثيابه على يد الكفار كان جزاؤه من جنس عمله؛ ذلك أن أول من يكسى من الخلائق يوم القيامة إبراهيم كما أخبر النبي – صلى الله عليه وسلم6 7.

نسأل الله أن يوفقنا لطاعته، وأن يرزقنا الفوز بجنته، وأن ينجينا من عذابه، إنه على كل شيء قدير، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه غفور رحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي المتقين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى أثره واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:

عباد الله:

من أمثلة الواقع التي تبين وتدل على قاعدة أن الجزاء من جنس العمل قصة أم المؤمنين خديجة – رضي الله عنها – زوج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – التي أحسنت صحبته، وواسته بنفسها ومالها، وكانت من السابقين إلى الإسلام، فقد جاء جبريل إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول له: "بشر خديجة ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب"8، والقصب هو اللؤلؤ، فبيتها في الجنة من قصب؛ نظراً لما كان لها من قصب السبق إلى الإسلام، ثم هو بيت لا صخب فيه ولا نصب؛ ذلك أنها لم تتلكأ في إجابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، كما لم تحوجه إلى كلام كثير، أو رفع صوت، فكان جزاؤها من جنس عملها – رضي الله عنها وأرضاها -.

ومن الأمثلة على أن الجزاء من جنس العمل قصة  النمرود بن كنعان، فعلى الجانب الآخر نرى تحقق نفس القاعدة في أعداء الله الكافرين والمنافقين، فهذا النمرود بن كنعان الذي قال: أنا أُحي وأُميت، وظل مئات السنين يقول للناس: أنا ربكم الأعلى، ويتكبر عليهم، ماذا كان جزاؤه؟ لقد سلط الله عليه بعوضة دخلت في أنفه – والأنف رمز العزة والشموخ -، ثم تسللت إلى دماغه، فسببت له وجعاً كان لا يشعر براحة إلا إذا ضربه من حوله بالنعال والمطارق على رأسه: {جَزَاء وِفَاقًا}، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} (46) سورة فصلت.

وهذا عقبة بن أبي معيط ذلك الكافر الذي اشتد إيذاؤه لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -أتدرون ماذا فعل؟ لقد وضع سلا الجزور على رأس النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو ساجد، بل هو الذي وضع رجله على عنق النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو ساجد حتى ظن النبي أن عينيه ستندران، وقد مكن الله منه في بدر، ووقع أسيراً، فأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – بقتله، فقال: علام أقتل من بين مَن هنا؟ فقيل له: على عداوتك لله ورسوله.

وهذه زنيرة – رضي الله عنها – كانت أمة لدى واحدة من نساء قريش، شرح الله صدرها للإسلام، فآمنت وشهدت شهادة الحق، فكانت سيدتها تعذبها، وتأمر الجواري أن يضربن زنيرة على رأسها، ففعلن حتى ذهب بصرها، وكانت إذا عطشت وطلبت الماء قلن لها متهكمات: الماء أمامك فابحثي عنه، فكانت تتعثر، ولما طال عليها العذاب قالت لها سيدتها: إن كان ما تؤمنين به حقاً فادعيه يرد عليك بصرك، فدعت ربها فرد عليها بصرها، أما سيدتها التي كانت تعذبها فقد لاقت شيئاً من جزائها في الدنيا، فإنها أصيبت بوجع شديد في الرأس وكان لا يهدأ إلا إذا ضربت على رأسها، فظل الجواري يضربنها على رأسها كي يهدأ الوجع، حتى ذهب بصرها، والجزاء من جنس العمل.

نسأل الله الكريم أن يجعل عملنا كله صالحاً، ولوجهه خالصاً، وأن يحسن جزاءنا، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين9، والحمد لله رب العالمين.


 


1 رواه أبو داود (4941) والترمذي (1924) وأحمد (6494) وصححه الألباني في صحيح الجامع (3522).

2 الفواكه الشهية في الخطب المنبرية للسعدي (ج 1 / ص 163).

3 حلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهاني (4/294) وتهذيب الكمال لأبي الحجاج المزي (10/372).

4 رواه الترمذي (2516) وقال حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7957).

5 رواه الحاكم (7921) والطبراني في الأوسط (4429) وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: "إسناده حسن".

6 رواه البخاري (4349) ومسلم (2860).

7 موقع الشبكة الإسلامية.

8 رواه الطبراني في الكبير (12) وغيره، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4350)، وأصل الحديث في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبشرها بذلك.

9  موقع الشبكة الإسلامية