الأحكام الفقهية الخاصة بالمسجد الأقصى (3)

الأحكام الفقهية الخاصة بالمسجد الأقصى (3)

الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ثم الصلاة على خير خلق الله أجمعين أما بعد:

فإليكم ما تبقى من جملة الأحكام الفقهية التي اختص بها المسجد الأقصى؛ حتى تتم الفائدة، ويحصل المقصود؛ لأن الكلام عن جزئية من الموضوع لا يفي بالغرض المطلوب.

أولاً: استحباب صلاة العيد في المسجد الأقصى المبارك:

ومن الأحكام الخاصة بالمسجد الأقصى المبارك استحباب صلاة العيد فيه، وأن ذلك أفضل من صلاتها في المصلى، وإلى هذا ذهب الشافعية في المعتمد عندهم1، والحجة لهذا:

  1. فعل السلف والخلف، حيث لم ينقل أن المسلمين منذ فتح بيت المقدس صلوا العيد خارج المسجد الأقصى.
  2. ولفضل الصلاة في المسجد الأقصى حيث أن الصلاة فيه تفضل ألف صلاة في غيره لقوله  لمن سأله عن بيت المقدس: أرض المحشر والمنشر، ائتوه وصلوا فيه، فإن الصلاة فيه كألف صلاة في غيره.
  3. ولسعته المفرطة، وسهولة الحضور إليه.

وذهب جمهور الفقهاء والنووي من الشافعية2: إلى أن صلاة العيد في المصلى أفضل من صلاتها في المسجد الأقصى؛ إلا في المسجد الحرام، والحجة لهذا:

1. فعل النبي  والخلفاء الراشدين من بعده ، حيث كانوا يتركون صلاة العيد في المسجد النبوي؛ ويصلون العيد في المصلى، ولن يترك النبي  الأفضل مع قربة، ويتكلف فعل الناقص مع بعده، ولا يشرع لأمته ترك الفضائل، ولأننا قد أمرنا باتباع النبي  والاقتداء به، ولا يجوز أن يكون المأمور به هو الناقص، والمنهي عنه هو الكامل، ولم ينقل عن النبي  أنه صلى العيد بمسجده إلاّ من عذر.

2. إجماع المسلمين على الصلاة في المصلى، فإن الناس في كل عصر ومصر يخرجون إلى المصلى فيصلون العيد فيه مع سعة المسجد وضيقه.

ثانياً: وجوب الوفاء بنذر الصلاة والاعتكاف في المسجد الأقصى:

ومن الأحكام الخاصة المتعلقة بالمسجد الأقصى المبارك أن من نذر الصلاة والاعتكاف فيه لزمه أن يوفيه فيه، ولا يجزيه أن يوفيه فيما دونه من المساجد لفضله على سائر المساجد؛ إلاّ المسجد الحرام، والمسجد النبوي، وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء، والإمام زفر من الحنفية3، والحجّة لهذا:

  1. قوله : لا تشد الرحال إلى مسجد إلاّ إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي، والمسجد الأقصى4.
  2. ولأن الأصل أن الإنسان لا يخرج عن موجب نذره إلاّ بالأداء في المكان الذي عينه، أو في مكان هو أفضل منه، وأفضل البقاع لأداء الصلاة فيها أو النذر المسجد الحرام، ثم مسجد رسول الله ، ثم مسجد بيت المقدس لقوله : صلاة في المسجد الحرام بمئة ألف صلاة، وفي المسجد النبوي بألف صلاة، وفي المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة5.
  3. ولما ورد أن رجلاً قال للنبي  يوم الفتح: يا رسول الله إني نذرت لله إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في مسجد بيت المقدس ركعتين، فقال: صل ها هنا، ثم أعاد عليه، فقال: صل ها هنا، ثم أعاد عليه، فقال: صل ها هنا ثم أعاد عليه، فقال: شأنك إذناً6، فهذا دليل على جواز أداء النذر في المكان الذي هو أفضل منه.

وذهب الإمام الشافعي في أحد قوليه وأبو حنيفة: بأنه لا يلزمه بالنذر في المسجد الأقصى7، والحجة لهذا:

  1. قوله : صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلاّ المسجد الحرام8، وهذا يدل على التسوية فيما عدا هذين المسجدين، لأن المسجد الأقصى لو فضلت الصلاة فيه على غيره للزم أحد أمرين: إما خروجه من عموم هذا الحديث، وإما كون فضيلته بألف مختصاً بالمسجد الأقصى.
  2. ولأنه لا يتعلق به نسك فأشبه بقية المساجد.

ويرد على هذا بأن المسجد الأقصى من المساجد التي تشد إليها الرحال، فتعين بالتعيين في النذر كمسجد النبي ، وما ذكروه لا يلزم إنه إذا فضل الفاضل بألف فقد فضل المفضول بها أيضاً، كمن نذر المشي إلى المسجد الأقصى هل يلزمه ذلك؟ ويجب عليه الوفاء بنذره، وقد اختلف في ذلك الفقهاء:

  1. فذهب الإمام مالك في أصح القولين، وأحمد، والأوزاعي، وأبو عبيد، وابن المنذر، والشافعي في قول إلى وجوب ذلك9، والحجة لهذا: قوله : لا تشد الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى10، ولأنه أحد المساجد الثلاثة، فيلزم المشي إليه بالنذر كالمسجد الحرام، ويلزمه بهذا النذر أن يصلي في الموضع الذي أتاه ركعتين، لأن القصد بالنذر القربة والطاعة، وإنما تحصيل ذلك بالصلاة، فتضمن ذلك نذره، كما يلزم ناذر المشي إلى بيت الله الحرام أحد النسكين، ونذر الصلاة في أحد المسجدين كنذر المشي إليه، كما أن نذر أحد النسكين في المسجد الحرام كنذر المشي إليه.
  2. وذهب أبو حنيفة، والشافعي في قوله11 إلى أنه لا يجب الوفاء بنذر المشي إلى المسجد الأقصى إنما يستحب ذلك، لأن البر بإتيان بيت الله الحرام فرض، والبر بإتيان المسجد الأقصى نفل، ويرد على ذلك بأن كل قربة تجب بالنذر لقوله : من نذر أن يطيع الله فليطعه12، وهذه قربة فتجب بالنذر.

ثالثاً: استحباب الإحرام للحج والعمرة من بيت المقدس، أو من ساحة المسجد الأقصى المبارك:

يستحب الإحرام للحج والعمرة من بيت المقدس، أو من ساحة المسجد الأقصى المبارك13، وقد وردت الأحاديث النبوية الشريفة باستحباب ذلك، والحض عليه: فعن أم سلمة زوج النبي  أنها سمعت رسول الله  يقول: من أهلَ بحج أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غُفِرَ له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر، أو وهبت له الجنة، ولهذا حرص عدد من الصحابة والتابعين على الإهلال من بيت المقدس منهم ابن عمر – رضي الله عنهما -، حيث صح أنه أحرم من بيت المقدس14، ومعاذ بن جبل، وكعب الخير، وعبد الله بن أبي عمار ، حيث أحرموا من بيت المقدس بعمرة15، ووكيع بن الجراح بن فليح بن عدي فقد روى أبو داود16 أنه أحرم من بيت المقدس إلى مكة المكرمة، ومن النساء أم حكيم ابنة أمية بن الأخنس؛ حيث ركبت إلى بيت المقدس حتى أهلت منه بعمرة، وقد روى ذلك الإمام أحمد في مسنده17، وهذه المسألة مبنية على مسألة أخرى هي تقديم الإحرام على الميقات، وقد أجمع الفقهاء على جواز تقديم الإحرام على الميقات، نقل هذا الإجماع عدد من العلماء منهم ابن المنذر … وغيره18، ولم يخالف في ذلك إلاّ الظاهرية19، وقولهم هذا مردود – كما قال الإمام النووي – بإجماع من قبلهم من العلماء20، إلاّ أن الذين أجازوا الإحرام قبل الميقات اختلفوا في أفضلية الإحرام هل هو أفضل من الميقات أم من قبله؟

فذهب أبو حنيفة، والشافعي في قول، والحنابلة في قول، والثوري21 إلى أن الإحرام من الميقات رخصة، وأن الإحرام قبله أفضل، واعتمدوا في ذلك على:

‌أ- قوله – تعالى -: وأتموا الحج والعمرة لله22، وإتمامها أن تحرم بهما من دويرة أهلك، ومن الأماكن النائية.

‌ب- الأحاديث الشريفة السابقة في الإهلال بالعمرة من بيت المقدس.

‌ج- ما ورد عن عدد من الصحابة  كما سبق ذكره من إهلالهم من بيت المقدس.

2. وذهب الإمام مالك، والأظهر عند الشافعية والحنابلة، وعطاء، والحسن23 إلى أن الإحرام من الميقات أفضل، والحجة لهذا:

‌أ- فعل الرسول  حيث لم يحرم إلاّ من الميقات24.

‌ب- ونهي عمر  عمران بن الحصين لما أحرم من البصرة حيث أغلظ له25.

‌ج- ولأن ترك الإحرام قبل الميقات مباح، وفعل المُحرم ما نُهي عنه من الطيب، وإتيان النساء؛ معصية، وهو إذ أحرم لم يأمن على نفسه مواقعة المعصية، فكان ترك ما هو مباح من الإحرام قبل الميقات لأجل ما هو معصية أولى، ومن الغرر أبعد.

رابعاً: استحباب ختم القرآن الكريم في المسجد الأقصى المبارك:

يستحب ختم القرآن الكريم في المسجد الأقصى المبارك26 لما روى سعيد بن منصور في سننه27 عن أبي مجلز قال: “كانوا يستحبون لمن أتى المساجد الثلاثة أن يختم بها القرآن الكريم قبل أن يغادرها راجعاً إلى بلاده وهي: المسجد الحرام، ومسجد النبي ، والمسجد الأقصى، ولما روى أبو المعالي: أن سفيان الثوري كان يختم القرآن الكريم في المسجد الأقصى المبارك، ويحرص على ذلك28.

خامساً: كراهة استقبال واستدبار بيت المقدس:

أما استقبال بيت المقدس وفيها المسجد الأقصى، أو استدبارها بالبول والغائط؛ فقد اختلف في ذلك الفقهاء فذهب بعض الشافعية والهادوية، والناصر بالله ومقاتل، وابن سيرين والنخعي، ورجح ذلك النووي29 إلى كراهة ذلك في الصحراء دون البنيان، والحجة لهذا: 

أ‌- ما ورد عن معقل بن أبي معقل الأسدي  قال: “نهى رسول الله  أن نستقبل القبلتين ببول أو غائط”30.

ب‌- عموم قوله : إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط، أو بول، ولا تستدبروها، والمسجد الأقصى يدخل في هذا لأنه كان قبلة.

وذهب جمهور الفقهاء31 إلى جواز استقبال واستدبار بيت المقدس ببول، أو غائط، والحجة لهذا:

حديث واسع بن حيان عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أنه قال: “إن أناساً يقولون: إذا قعدت على حاجتك فلا تستقبل القبلة، ولا بيت المقدس، لقد أرتقيت على ظهر بيت لنا فرأيت رسول الله  على لبنتين مستقبل بيت المقدس، “وهذا يدل على نسخ الحكم، وأن ذلك كان من خصائص بيت المقدس وهي قبلة، ثم نسخ ذلك بعد تحويل القبلة إلى المسجد الحرام.

ويبدو – والله أعلم – أن ما ذهب إليه جمهور الفقهاء أولى بالترجيح، لأن الحديث الذي اعتمد عليه أصحاب الرأي الأول ضعيف، وعلى فرض صحته فإنه إما منسوخ بحديث ابن عمر السابق الذي رواه الشيخان32، أو أن المراد بالنهي عن استقبال بيت المقدس هم أهل المدينة المنورة ومن على سمتها، لأن استقبالهم بيت المقدس يستلزم استدبارهم الكعبة، فالعلة استدبار الكعبة لا استقبال بيت المقدس33.

وبهذا نكون قد انتهينا مما يتعلق بالمسجد الأقصى من أحكام فقهية، وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.

والحمد لله رب العالمين.


1الماوردي (الحاوي، ج3، ص109) والنووي ( الروضة، ج2 ص74-75) والمجموع (ج5، ص5).

2ابن قدامة، المغني (ج2، ص230) والنووي ( المجموع، ج5 ص5) والشوكاني (نيل الأوطار ج4 /216).

3والمرداوي، الإنصاف (ج2، ص353-368) وابن حجر، فتح الباري (ج3، ص56) والسرخسي المبسوط (ج3، ص122) وابن قدامة، المغني (ج3، ص160-161) وابن تيمية، الفتاوى (ج27، ص6).

4– رواه البخاري برقم (1189،1197).

5الهيثمي، مجمع الزوائد (4 /7) وقال: رواه الطبراني في الكبير، ورجاله ثقات وفي بعضهم كلام وهو حديث حسن.

6رواه أبو داود برقم (3305)، وأحمد برقم (14919)، وقال الشيخ شعيب في تعليقه على هذا الحديث: إسناده قوي، رجاله رجال الصحيح.

7الشربيني، مغني المحتاج (ج1، ص451)، والسرخسي، المبسوط (ج3، ص122).

8– رواه مسلم برقم (1394).

9الحطاب، مواهب الجليل (ج2، ص286) والنووي، المجموع (ج8، ص477) وابن حجر، فتح الباري (ج3 /65).

10– رواه البخاري برقم (1189،1197).

11ابن قدامه ، المغني، (ج11، ص351) والشربيني، مغني المحتاج (ج1، ص451).

12– رواه البخاري برقم (6700).

13الزركشي (إعلام الساجد 2032) ومجير الدين (الأنس الجليل ج1، ص231).

14 – رواه أبو داود برقم (1741) وابن ماجة (2 /3) وأحمد، المسند بالفتح الرباني (6 /299).

15رواه أحمد المسند بالفتح الرباني (ج11، ص112) وابن حزم، المحلى (ج7، ص73).

16ابن حزم، المحلى (ج7، ص73).

17مسند أحمد برقم (1741).

18مسند أحمد (6 /299)، وقال العلامة البنا في تخريجه لمسند أحمد في الفتح الرباني (11 /12) إسناده عند أحمد لا بأس به والله أعلم.

19ابن المنذر، الإجماع (ص48) وابن قدامة، المغني (ج3، ص222) والمرداوي، الانصاف (ج3، ص430).

20ابن حزم، المحلى (ج7، ص62)، والنووي، المجموع (ج7، ص182).

21النووي، روضة الطالبين (ج3، ص42)، وابن نجيم، البحر الرائق (ج2، ص343) والكاساني، البدائع (ج2 /164).

22– سورة البقرة: 196.

23ابن قدامه، المغني (ج2 ص222).

24ابن حجر، فتح الباري (3 /387).

25 ابن قدامه، المغني (3 /223) وقال: رواه سعيد بن منصور والأثرم.

26الجراعي، تحفة الراكع (ص187)، والزركشي، إعلام الساجد (ص202).

27المرجعان السابقان.

28المرجعان السابقان.

29ابن مفلح، المبدع شرح المقنع (ج1، ص86)، وابن حجر، فتح الباري (ج1، ص246)، والشوكاني نيل الأوطار (ج1 /124،126)، وابن عبد البر، الاستذكار (15 /17-18).

30أبو داود برقم (10)، وابن ماجه برقم (319)، والحديث ضعيف، ابن جحر، التقريب (642).

31 البخاري حديث رقم (394) ومسلم برقم (264).

32المرجع السابق.

33ابن حجر، فتح الباري (1 /246) والصنعاني، العدة (ج1 /231).