دروس مستفادة من الهجرة

دروس مستفادة من الهجرة

 

الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة أما بعد:

فإن المستنبط للدروس المستفادة من الهجرة الشريفة سيستنبط منها دروساً عظيمة، ويستخلص منها فوائد جمة، ويلحظ فيها حكماً باهرة يستفيد منها الأفراد والأمة بعامة في شتى مجالات الحياة، ومن تلك الدروس والفوائد والحكم ما يلي:

أولاً: ضرورة الجمع بين التوكل على الله والأخذ بالأسباب: فالتوكل في لسان الشرع يراد به توجه القلب إلى الله حال العمل، واستمداد المعونة منه، والاعتماد عليه وحده؛ فذلك سر التوكل وحقيقته، والذي يحقق التوكل هو القيام بالأسباب المأمور بها؛ فمن عطلها لم يصحَّ توكله؛ فلم يكن التوكل داعية إلى البطالة، أو الإقلال من العمل، بل لقد كان له الأثر العظيم في إقدام عظماء الرجال على جلائل الأعمال التي يسبق إلى ظنونهم أن استطاعتهم وما لديهم من الأعمال الحاضرة يَقْصُران عن إدراكها؛ ذلك أن التوكل من أقوى الأسباب في حصول المراد، ودفع المكروه، بل هو أقواها؛ واعتماد القلب على الله – عز وجل – يستأصل جراثيم اليأس، ويجتث منابت الكسل، ويشد ظهر الأمل الذي يلج به الساعي أغوار البحار العميقة، ويقارع به السباع الضارية في فلواتها.

ولقد كان لرسول الله – عليه الصلاة والسلام – القِدْحُ المُعلَّى، والنصيب الأوفى من هذا المعنى؛ فلا يُعْرَفُ بَشَرٌ أحق بنصر الله، وأجدر بتأييده؛ من هذا الرسول الذي لاقى في جنب الله ما لاقى، ومع ذلك فإن استحقاق التأييد الأعلى لا يعني التفريط قيد أنملة في استجماع أسبابه، وتوفير وسائله.

ومن ثم فإن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أحكم خطة هجرته، وأعد لكل فرض عُدَّتَه، ولم يدع في حسبانه مكاناً للحظوظ العمياء، ثم توكل بعد ذلك على من بيده ملكوت كل شيء، وكثيراً ما يرتب الإنسان مقدمات النصر ترتيباً حسناً؛ ثم يجيء عَوْنٌ أعلى يجعل هذا النصر مضاعف الثمار، وهكذا جرت هجرة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من مكة إلى المدينة على هذا الغرار؛ فقد استبقى معه أبا بكر وعلياً – رضي الله عنهما -، وأذن لسائر المؤمنين بتقدمه إلى المدينة، فأما أبو بكر فإن الرسول – صلى الله عليه وسلم – قال له حين استأذنه؛ ليهاجر: ((لا تعجل؛ لعل الله أن يجعل لك صاحباً)).

وأحس أبو بكر بأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – يعني نفسه بهذا الرّد، فابتاع راحلتين، فحبسهما في داره بعلفهما إعداداً لذلك الأمر، وأما عليٌ فقد هيّأهُ الرسول – صلى الله عليه وسلم – لدور خاص يؤديه في هذه المغامرة المحفوفة بالأخطار ألا وهي مبيت في مكان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا أراد الخروج إلى المدينة.

ويُلاحَظ أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كتم أسرار مسيره؛ فلم يطلع عليها إلا من لهم صلة ماسة، ولم يتوسع في إطْلاعهم إلا بقدر العمل المنوط بهم، ثم إنه استأجر خبيراً هو عبد الله بن أُريقط الليثي بطريق الصحراء ليستعين بخبرته على مغالبة المُطَالِبين، وكان هادياً ماهراً بالطريق، وكان على دين قومه قريش، فَأَمَّناه على ذلك، وسلَّما إليه راحلتيهما، وواعداه في غار ثور بعد ثلاث، ومع كل هذه الأسباب المبذولة فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يتكل عليها؛ بل كان قلبه متعلقاً بالله – عزّ وجل -، فجاءه التوفيق والمدد والعون من الله، ويشهد لذلك أنه لما أبقى علياً – رضي الله عنه – ليبيت في مضجعه، وهمَّ بالخروج من منزله الذي يحيط به المشركون، وتقطعت أسباب النصر الظاهرة، ولم يبق من سبب إلا سنةُ تأييد الله الخفية؛ أخذ حصيات ورمى بها وجوه المشركين؛ فأدبروا، وكذلك الحال لما كان في الغار، ففي الصحيحين أن أبا بكر – رضي الله عنه – قال: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال: ((يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن؛ فإن الله معنا))1.

ومن هذه الناحية فإن الدرس المستفاد هو أن الأمة التي تريد أن تخرج من تيهها، وتنهض من كبوتها؛ لا بُدّ أن تأخذ بأسباب النجاة، وعُدَد النهوض، ثم تنطوي قلوبها على سراج من التوكل على الله، وأعظم التوكل على الله التوكل عليه – عز وجل – في طلب الهداية، وتجريد التوحيد، ومتابعة الرسول – صلى الله عليه وسلم -، وجهاد أهل الباطل، وحصول ما يحبه الله ويرضاه من الإيمان، واليقين، والعلم، والدعوة؛ فهذا توكل الرسل وخاصة أتباعهم، وما اقترن العزم الصحيح بالتوكل على من بيده ملكوت كل شيء إلا كانت العاقبة رشداً وفلاحاً {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}2، وما جمع قوم بين الأخذ بالأسباب وقوة التوكل على الله؛ إلا أحرزوا الكفاية لأن يعيشوا أعزة سعداء.

ثانياً: ضرورة الإخلاص، والسلامة من الأغراض الشخصية: فالإخلاص روح العظمة، وقطب مدارها، والإخلاص يرفع شأن الأعمال حتى تكون مراقي للفلاح، وهو يجعل في عزم الرجل متانة فيسير حتى يبلغ الغاية.

ولولا الإخلاص يضعه الله في قلوب زاكيات لحُرم الناس من مشروعات عظيمة تقف دونها عقبات كبرى، ومن مواطن العبرة في قصة الهجرة أن الداعي إلى الإصلاح متى أوتي حكمة بالغة، وإخلاصاً نقيَّاً، وعزماً صارماً؛ هَيَّأَ الله لدعوته بيئة طيّبة فتقبلها، وزيَّنها في قلوب قوم لم يلبثوا أن يسيروا بها، ويطرقوا بها الآذان، فَتُسِيغها الفِطَرُ السليمةُ، والعقول التي تقدّر الحُجج الرائعة حق قدرها، وهكذا كان – صلى الله عليه وسلم -، حيث لم يرد بدعوته إلا الإخلاص لله، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور؛ فكان متجرداً من حظوظ النفس ورغائبها؛ ولم يك يطلب بدعوته هذه نباهة شأن ووجاهة؛ فإن في شرف أسرته، وبلاغة منطقه، وكرم خلقه؛ ما يكفيه لأن يحرز في قومه الزعامة لو شاء، وما كان حريصاً على بسطة العيش فيبغي بهذه الدعوة ثراءً؛ فإن عيشه يوم كان الذهب يُصَبُّ في مسجده رُكاماً لا يختلف عن عيشه يوم كان يلاقي في سبيل الدعوة أذىً كثيراً، ثم إن الهجرة كانت دليلاً على الإخلاص والتفاني في سبيل العقيدة؛ فقد فارق المهاجرون وطنهم، ومالهم، وأهليهم، ومعارفهم؛ إجابة لنداء الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم -، وهذا درس عظيم يستفيد منه المسلمون فائدة عظمى أن الإخلاص هو السبب الأعظم لنيل المآرب التي تعود على الأفراد والأمة بالخير.

ثالثاً: الاعتدال حال السراء والضراء: فيوم خرج – عليه الصلاة والسلام – من مكة مكرهاً لم يخنع، ولم يذل، ولم يفقد ثقته بربِّه، ولما فتح الله عليه ما فتح، وأقرَّ عينه بعزِّ الإسلام، وظهور المسلمين؛ لم يَطِشْ زهواً، ولم يتعاظم تيهاً؛ فعيشته يوم كان في مكة يلاقي الأذى، ويوم أخرج منها كارهاً؛ كعيشته يوم دخل مكة ظافراً، وكعيشته يوم أظلت رايته البلاد العربية، وأطلَّت على ممالك قيصر ناحية تبوك، وتواضعه وزهده بعد فتح مكة وغيرها كحاله يوم كان يدعو وحيداً، وسفهاء الأحلام في مكة يضحكون منه ويسخرون

كُلاً بلوتُ فلا النعماء تُبطرني                ولا تَخَشَّعتُ من لأوائها جزعاً

والدرس المستفاد من هذا المعنى واضح جلي؛ إذ الأمة تمرُّ بأحوال ضعف، وأحوال قوة، وأحوال فقر، وأحوال غنى؛ فعليها لزوم الاعتدال في شتى الأحوال؛ فلا تبطرها النعماء، ولا تُقَنِّطها البأساء، وكذلك الحال بالنسبة للأفراد.

رابعاً: اليقين بأن العاقبة للتقوى وللمتقين: فالذي ينظر في الهجرة بادئ الرأي يظن أن الدعوة إلى زوال واضمحلال، ولكن الهجرة في حقيقتها تعطي درساً واضحاً أن العاقبة للتقوى وللمتقين، والنبي – صلى الله عليه وسلم – يعلِّم بسيرته المجاهدَ في سبيل الحق أن يثبت في وجه أشياع الباطل، ولا يَهَنَ في دفاعهم، وتقويم عِوَجِهم، ولا يَهُولُه أن تُقبِلَ الأيام عليهم، فيشتدَّ بأسهم، ويُجْلِبوا بخيلهم ورجالهم؛ فقد يكون للباطل جولة، ولأشياعه صولة، أما العاقبة فإنما هي للذين صبروا، والذين هم مصلحون، ولقد هاجر – عليه الصلاة والسلام – من مكة في سواد الليل مختفياً، وأهلها يحملون له العداوة والبغضاء، ويسعون سعيهم للوصول إلى قتله، والخلاص من دعوته، ثم دخل المدينة في بياض النهار مُتَجلِّياً قد استقبله المهاجرون والأنصار بقلوب مُلِئَت سروراً بمقدمه، وابتهاجاً بلقائه، وصاروا يتنافسون في الاحتفاء به، والقرب من مجلسه، وقد هيئوا أنفسهم لفدائه بكل ما يَعزُّ عليهم، وأصبح – عليه الصلاة والسلام – كما قال أبو قيس صرمة الأنصاري:

ثوى بقريش بضع عشرة حجـــة                يذكر لو يلقى حبيبـاً مـواتيا

ويعرض في أهل المواسم نفســـه                 فلم ير من يؤوي ولم ير داعيا

فلما أتانا واستقـر به النـــوى                   وأصبح مسروراً بطيبة راضـياً

وأصبح لا يخشى ظلامة ظـــالم                   بعيد ولا يخشى من الناس باغياً

بذلنا له الأموال من حلِّ مـــالنا                  وأنفسـنا عند الوغى والتآسيا

نعادي الذي عادى من الناس كلهم                   جميعاً ولو كان الحبيب المصافيا

ونعلم أن الله لا رب غيــــره                   وأن كتاب الله أصبـح هاديـاً

خامساً: ثبات أهل الإيمان في المواقف الحرجة: ويبدو ذلك في جواب النبي – صلى الله عليه وسلم – لأبي بكر – رضي الله عنه – تطميناً له على قلقه: ((يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما)) وهذا مثال من أمثلة الصدق والثبات، والثقة بالله، والاتكال عليه عند الشدائد، وهو دليل واضح على صدق الرسول، ودعوى النبوة؛ فهو في أشد المآزق حرجاً، ومع ذلك تبدو عليه أمارات الاطمئنان، وأن الله لن يتخلى عنه في تلك الساعات الحرجة، فيا ترى هل يصدر مثل هذا الاطمئنان عن مُدَّعٍ للنبوة؟

في مثل هذه الحالات يبدو الفرق واضحاً بين أهل الصدق وأهل الكذب، فالأولون تفيض قلوبهم دائماً وأبداً بالرضا عن الله، والثقة بنصره، وهؤلاء الآخِرُون يتهاوون عند المخاوف، وينهارون عند الشدائد، ثم لا تجد لهم من الله ولياً ولا نصيراً.

سادساً: أن من حفظ الله في سره وعلانيته حفظه الله: ويؤخذ هذا المعنى من حال زعماء قريش عندما ائتمروا بالنبي – صلى الله عليه وسلم – ليعتقلوه، أو يقتلوه، أو يخرجوه قال – تعالى -: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}3، فأجمعوا بعد تداول الرأي على أن يطلقوا سيوفهم تخوض في دمه الطاهر، فأوحى الله – تعالى – إلى رسوله – صلى الله عليه وسلم – ما أوحى، فحثا في وجوههم التراب، وبارح مكة من حيث لا تراه أعينهم، وهذا درس عظيم، وسُنَّةٌ ماضية؛ في أنَّ مَنْ حفظ الله حفظه الله، والحفظُ من الله شامل، وأعظم ما في ذلك أن يُحْفَظَ الإنسان في دينه ودعوته، وهذا الحفظ – أيضاً – يشمل حفظ البدن، وليس بالضرورة أن يُعصَمَ؛ فلا يُخلَصَ إليه البتة؛ فقد يصاب؛ لتُرفع درجاته، وتُقال عثراته، ولكن الشأن كل الشأن في حفظ الدين والدعوة.

سابعاً: أن النصر مع الصبر: فقد قضى – عليه الصلاة والسلام – في سبيل دعوته في مكة ثلاثة عشر حولاً وهو يلاقي نفوساً طاغيةً، وألسنة ساخرة، وربما لقي أيادي باطشة؛ وكان هَيِّناً على الله أن يصرف عنه الأذى جملة، ولكنها سنة الابتلاء يؤخذ بها الرسول الأكرم؛ ليستبين صبره، ويعظم عند الله أجرُه، وليتعلم دعاة الإصلاح كيف يقتحمون الشدائد، ويصبرون على ما يلاقون من الأذى صغيراً كان أم كبيراً.

ثامناً: ظهور المواقف البطولية: فالنبي – صلى الله عليه وسلم – تنتهي إليه الشجاعة بأسرها، ومن مواقفه البطولية ما كان من أمر الهجرة وذلك لما اجتمعت عليه قريش ورمته عن قوس واحدة، وأجمعت على قتله، والقضاء على دعوته، فما كان منه إلا أن قابل تلك الخطوب بجأشٍ رابط، وجبين طَلْقٍ، وعزم لا يلتوي.

ولاحت نجومٌ للثريا كأنها           جبين رسول الله إذ شاهد الزحفا

ولقد كان ذلك دَأْبَهُ – عليه الصلاة والسلام -، فلم تكن تأخذه رهبة من أشياع الباطل وإن كَثُرَ عددهم، بل كان يلاقيهم بالفئات القليلة، ويفوز عليهم فوزاً عظيماً، ويقابل الأعداء بوجهه لا يوليهم ظهره وإن تزلزل جنده، وانصرفوا جميعاً من حوله، وكان يتقدم في الحرب حتى يكون موقفه أقرب موقف من العدو، وإذا اتقدت جمرة الحرب، واشتدّ لهبها؛ أوى إليه الناس، واحتموا بظله الشريف؛ فلم يكن يتوارى من الموت، أو يُقَطِّب عند لقائه؛ كيف وهو يتيقن أن موتَه هو انتقال من حياة مخلوطة بالمتاعب والمكاره إلى حياة أصفى لذة، وأهنأ راحةً، وأبقى نعيماً؟

ولقد كان لهذه المواقف البطولية الرائعة موضع قدوة لأصحابه ومن جاء بعدهم؛ فحقيق على الأمة التي تريد العزة، والرفعة، والسعادة؛ أن تكون على درجة من الشجاعة؛ حتى تقرَّ بها أعينُ حلفائها، ويكون لها مكانة مهيبة في صدور أعدائها.

وحقيق على علماء الإسلام وزعمائه أن يقتدوا برسول الله – صلى الله عليه وسلم – في أدب الشجاعة التي هي الإقدام في حكمة؛ فقد جرت سنَّة الله على أن الحق لا يمحق الباطل، والإصلاح لا يدرأ الفساد؛ إلا أن يقيض الله لهما رجالاً يؤثرون الموت في جهاد؛ على الحياة في غير جهاد.

تاسعاً: الحاجة إلى الحلم، ومقابلة الإساءة بالإحسان: فلما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – في مكة قبل الهجرة كان يلقى من الطُّغاة والطَّغام أذىً كثيراً، فيضرب عنه صفحاً أو عفواً؛ فما عاقب أحداً مسَّه بأذى، ولا أغلظ له في القول، بل كان يقابل الإساءة بالإحسان، والغلظة بالرفق، ومما يجلِّي هذا المعنى ما كان منه – عليه الصلاة والسلام – لما عاد إلى مكة ظافراً فاتحاً، حين تمكن ممن كانوا يؤذونه بصنوف الأذى فقال لهم: ((ما تظنون أني فاعل بكم؟))، قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)).

هذا دأبه وديدنه، يعفو ويصفح، ويدفع السيئة بالحسنة إلا أن يتعدى الشر فيلقي في وجه الدعوة حجراً، أو يحدث في نظام الأمة خللاً؛ فَلِرَسول الله – صلى الله عليه وسلم – يومئذ شأنه الذي يقول فيه: ((لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها))4؛ فالانتصار – إذاً – ليس للنفس، ولا للحرص على الحياة؛ وإنما هو انتصار للحق، وغضب لحرمات الله – عز وجل -.

وما الحسام الذي يأمر بانتضائه للجهاد في سبيل الله إلا كمبضع طبيب ناصح يشرط جسم العليل؛ لينزِف دمه الفاسد، أو ليستأصل منه أذى متمكناً؛ حرصاً على سلامته.

فهذه السيرة ترشد رئيس القوم والداعية والعالم أن يوسع صدره لمن يناقشه، ويجادله ولو صاغ أقواله في غِلَظٍ وجفاء؛ فسيرة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هي التي علمت معاوية – رضي الله عنه – أن يقول: "والله لا أحمل سيفي على من لا سيف له، فإن لم يكن من أحدكم سوى كلمة يقولها؛ ليشتفي بها فإني أجعل له ذلك دبر أذني، وتحت قدمي"، ويقول: "لا أحمل سيفي ما كفاني سوطي، ولا أحمل سوطي ما كفاني مقولي".

عاشراً: استبانة أثر الإيمان: فلما تنفس الإسلام في بطاح مكة اعتنقه فريق من ذوي العقول السليمة، وما لبث عُبَّاد الأوثان يؤذونهم في أنفسهم، ويأبون أن يقيموا شعائر دينهم، ولما كان أولئك المسلمون على إيمان أجلى من القمر يتلألأ في سماء صاحية تَحَمَّلُوا الأذى في صبر وأناة، وكانت مظاهر أولئك الطغاة حقيرة في أعينهم؛ منبوذة وراء ظهورهم؛ حتى أذن الله لهم بالهجرة.

وكذلك الإيمان تخالط بشاشتهُ القلوبَ؛ فيخلق من الضعف عزماً، ومن الخمول نهوضاً، ومن الذلة عِزّّاً، ومن البَطالة نشاطاً، ومن الشحِّ كرماً وبذلاً، وهذا الأثر يعطي درساً عظيماً وهو أن الإيمان يصنع المعجزات، ويأتي بأطيب الثمرات، وهذا بدوره يدفع أولي الأمر وأهل العلم أن يبذلوا قصارى جُهْدِهم في سبيل تعليمِ الأمةِ أمرَ دينها وقيادتها – ولو بالسلاسل – إلى دعوة الإيمان والهدى؛ كي تعود لها عزتها السالفة، وأمجادها الغابرة.

الحادي عشر: انتشار الإسلام وقوته: وهذا من فوائد الهجرة؛ فلقد كان الحق بمكة مغموراً بشغب الباطل، وكان أهل الحق في بلاء من أهل الباطل شديد، والهجرة كانت من أعظم الأسباب التي رفعت صوت الحق على صخب الباطل، وخلَّصت أهل الحق من ذلك البلاء الجائر، وأورثتهم حياة عزيزة، ومُقاماً كريماً.

وإذا كانت البعثة مبدأ الدعوة إلى الحق؛ فإن الهجرة مبدأ ظهوره والعمل به في حالتي السر والعلانية، ولا يبلغ قول الحق غايته، ويأتي بفائدته كاملة؛ إلا أن يصبح عملاً قائماً، وسيرة متَّبعة؛ فالهجرة راشت جناح الإسلام، فذهب يحلِّق في الآفاق؛ ليمحو آية الضلالة، ويجعل آية الهداية مبصرة قال – تعالى -: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا}5؛ فإنك تجد الآية الكريمة تَذْكُر شيئاً من أمر الهجرة النبوية، وتعدُّ من جملة النعم الجليلة المترتبة عليها جَعْل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله هي العليا.

علت كلمة الله حقاً، وإنما علَت على كاهل تلك الدولة التي قامت بين لابتي المدينة، وبسطت سلطاناً لا تستطيع يد المخالفين أن تمسه من قريب ولا من بعيد.

الثاني عشر: أن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه: فإن المهاجرين لما تركوا ديارهم، وأهليهم، وأموالهم التي هي أحب شيء إليهم؛ أعاضهم الله بأن فتح عليهم الدنيا، وملَّكهم مشارقها ومغاربها.

وفي هذا درس عظيم هو أن الله – عز وجل – شكور كريم، لا يضيع أجر من أحسن عملاً؛ فمن ترك شيئاً لأجله عوضه خيراً منه، والعِوَض من الله أنواع، وأجلّ ما يُعوِّض به الإنسان أن يُرْزَقَ محبة الله – عز وجل -، وطمأنينة القلب بذكره، وقوة الإقبال عليه؛ فحري بأهل الإسلام أن يُضحُّوا في سبيل الله، وأن يقدموا محبوبات الله على محبوبات نفوسهم؛ ليفوزوا بخيري الدنيا والآخرة.

الثالث عشر: قيام الحكومة الإسلامية: فإن من منافع الهجرة النبوية تلك الأحكام المدنية، والنظم القضائية، والأصول السياسية؛ فإنها كانت تنزل بالمدينة حيث أصبح المسلمون في كثرة، وصاروا في مَنَعة بحيث يأخذونها بقوة، ويقومون على إجرائها يوم تنزل والناس يشهدون، ولو كان آخر عهد الوحي يشبه أوَّله لم يزد الإسلام على أن يكون دعوة إلى عقائد وأخلاق وشيء من العبادات؛ لكن الهجرة هيأت للإسلام أن تكون له حكومة ذات سلطان غالب، وكلمة فوق كل كلمة، ومكنت الحكومة الإسلامية أن تقضي بشرع الله الحكيم، وبالسلطان الغالب يُقْهَر الأعداء، وبالشرع الحكيم يعيش الناس بأمن وسعادة، وكذلك كان شأن النبي – صلى الله عليه وسلم – بعد الهجرة، فقد كان من القوة والمَنَعة وتأييد الله له أن أصبحت الجزيرة العربية في بضع سنين طوعَ يمينه، وموضعَ نفاذِ أمره، وأصبحت الأمة – بما شرعه الله من أحكام المعاملات والجنايات، وبما أنار به النفوس من الحكم السامية – تتمتع بسياسة عادلة، وحياة زاهرة.

والدرس المستفاد من هذا أن الأمة لا يمكن أن يكون لها سيادة ومنعة إلا إذا حكمت بشرع الله، ونبذت كل ما يخالفه ظهرياً، فإذا ما التمست العزة والسيادة من زبالات أهل الأرض، واستبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير؛ فلن تدرك عِزَّاً ولا فلاحاً، والواقع خير شاهد على ما ذُكر.

الرابع عشر: قيام المجتمع المسلم: فالمسلمون لا يعدون أنفسهم يعيشون في بلد إسلامي إلا إذا ساد نظام الإسلام بلدهم، وقامت به أحكامه وآدابه كما تقوم به شعائره، وتسود عقائده، وإذا تعذر على المسلمين إقامة أحكام دينهم، وتأييد أنظمته الاجتماعية، وآدابه الخلقية؛ وجب عليهم الانتقال إلى البلد الذي يُعمل فيه بأحكام الإسلام وآدابه تكثيراً لسواد المسلمين، وإعزازاً لأمر الدين، واستعداداً لنصره وتأييده في العالمين، وإذا لم يكن للمسلمين بلد تتوافر فيه هذه الشروط؛ وجب عليهم أن يجتمعوا في بقعة صالحة يقيمون فيها نظام الإسلام حسب استطاعتهم، فهذه من أعظم حكم الهجرة والبواعث عليها؛ فإذا نشأت النفوس تحت جناح نظام يقيم أحكام الإسلام، ويحمي دعوته، ويحمل على آدابه؛ كانت قوة للإسلام تعمل على رفعته، وتوسيع دائرته، أما إذا نشأت تحت جناح يخالف الإسلام، ولا يُربِّي الأمة على آدابه؛ فإن قوتها تكون معطلة عن تأييد الإسلام، وتعميم هدايته.

الخامس عشر: اجتماع كلمة العرب، وارتفاع شأنهم: فالهجرة – كما مكَّنت للدعوة، وإقامة المجتمع والدولة – مكنت لجمع الكلمة؛ فكلمة التوحيد أساس توحيد الكلمة؛ وأمة العرب كانت متفرقة متشاكسة، فأصبحت متحدة متآلفة، وكانت مَهيضَةَ الجناح تنظر إليها الأمم بعين الازدراء؛ فأصبحت مكرمة مهيبة الجناب، تفتح البلاد، وتضرب على هذه الأمم بسلطانها الكريم، كما كانت في ظلمات الجهل فأصبحت في نور من العلم دون أن يُجْلَب إليها من بلاد أجنبية، وإنما كان ذلك من مِشكاة النبوة؛ إذ كان – عليه الصلاة والسلام – يلقي عليها الحكمةَ بنفسه، ويزكيها بما يتحلى به، أو يدعو إليه من صفات الشرف والحمد، ويستفاد من هذا أن أمة الإسلام ذات منهج رباني كفيل بجمع الكلمة، وإحراز السعادة في الدنيا والآخرة، بل لا يوجد منهج يكفل ذلك غيره.

السادس عشر:التنبيه على فضل المهاجرين والأنصار: فمن بركات الهجرة على المهاجرين أنهم كانوا يلاقون في مكة أذىً كثيراً؛ فأصبحوا بعد الهجرة في أمن وسلامة، ثم إن الهجرة ألبستهم ثوب عزة بعد أن كانوا مستضعفين، ورفعت منازلهم عند الله درجات، وجعلت لهم لسان صدق في الآخرين، وقد سمى الله – تعالى – الصحابة الذين فروا بدينهم إلى المدينة بـ"المهاجرين"، وصار هذا اللقب أشرف لقب يُدْعَون به بعد الإيمان، كما درَّت بركات الهجرة على أهل المدينة من آووا ونصروا أنْ علا شأنهم، وبرزت مكانتهم، واستحقوا لقب الأنصار الذي استوجبوا به الثناء من رب العالمين.

السابع عشر: ظهور مزية المدينة: فالمدينة لم تكن معروفة قبل الإسلام بشيء من الفضل على غيرها من البلاد، وإنما أحرزت فضلها بهجرة النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه المسلمين بحق، وبهجرة الوحي معهم إلى ربوعها حتى أكمل الله لهم الدين، وأتمَّ عليهم النعمة؛ وبهذا ظهرت مزايا المدينة ظهوراً بيِّناً، فَأُفْرِدت المصنفات بذكر فضائلها ومزاياها.

الثامن عشر: سلامة التربية النبوية: فقد دلت الهجرة على سلامة التربية النبوية للصحابة، فصاروا – رضي الله عنهم – مؤهلين للاستخلاف في الأرض، وتحكيم شرع الله، والقيام بأمره، والجهاد في سبيله، ولقد كان من أثر الهجرة أن الصحابة – لاستقامتهم، وكمال آدابهم، وصدق لهجاتهم -؛ يعرضون الإسلام في أقوم مثال، وأمثل صورة، ولقد شهد الأعداءُ بذلك الفضلِ يقول الإمام مالك – رحمه الله -: "بلغني أن نصارى الشام لما رأوا أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قالوا: والله لهؤلاء خير من حواريِّيْ عيسى – عليه السلام -"، وفي هذا درس عظيم هو أن التربية الحقة القائمة على العقيدة الصحيحة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

التاسع عشر: التنبيه على عظم دور المسجد في الأمة: فأول عمل قام به النبي – صلى الله عليه وسلم – فور وصوله إلى المدينة هو بناؤه المسجد؛ لتظهر فيه شعائر الإسلام التي طالما حوربت، ولتقام فيه الصلوات التي تربط المسلم برب العالمين، وتنقي قلبه من أدران الأرض، ولقد تمَّ بناء المسجد في حدود البساطة؛ ففراشه الرمال والحصباء، وسقفه الجريد، وأعمدته الجذوع، وربما أمطرت السماء فأوحلت أرضه، وقد تَفلُتُ الكلاب إليه فتغدو وتروح فيه، هذا البناء المتواضع هو الذي تَرَبَّى فيه ملائكة البشر، ومؤدبو الجبابرة، وفاتحو البلاد والقلوب، وفي هذا المسجد أذِنَ الرحمنُ للنبي – صلى الله عليه وسلم – أن يؤم بالقرآن خِيْرَةَ أمته، فيتعهدهم بأدب السماء من غَبِش الفجر إلى غسق الليل.

إن مكانة المسجد في المجتمع المسلم تجعله مصدر التوجيه الروحي والمادي، فهو ساحة العبادة، وميدان العلم، ومنطلق الجهاد؛ فحري بالأمة أن تعلم دور المسجد، وأن تَقْدُره حق قدره.

العشرون: عظم دور المرأة في البناء والدعوة: ويتجلى ذلك من خلال الدور الذي قامت به عائشة وأختها أسماء – رضي الله عنهما – حيث كانتا نعم المعين والناصر في أمر الهجرة؛ فلم يُخَذِّلا أباهما مع علمهما بخطر المغامرة التي سيقوم بها، بل لقد كان دورهما أعظم من ذلك؛ حيث حفظتا سر الرّحلة، وجهزتا ما تحتاجه الرحلة تجهيزاً كاملاً، ولقد قطعت أسماء قطعة من نطاقها فأوكت به الجراب، وقطعت الأخرى وصيَّرتها عصاماً لَفَمِ القِرْبة، فلذلك سميت "ذات النطاقين"، وفي هذا الموقف ما يثبت حاجة الدعوة إلى النساء فهن أرقُّ عاطفة، وأسمح نفساً، وأطيب قلباً، ثم إن المرأة إذا صلحت أصلحت زوجها، وبيتها، وأبناءها، وإخوتها، فينشأ جيل مُؤْثِرٌ للعفة والخلق والطهارة، وفي هذا – أيضاً – درس للمرأة المسلمة بأن تبذل وسعها في سبيل نشر الخير، ونصرة الحق، وأن تكون معينة لزوجها ووالدها وإخوانها وأبناءها على الدعوة إلى الله ولو أدى ذلك إلى حرمانها من بعض حقوقها؛ فمصلحة الأمة أهم، وما عند الله خير وأبقى.

الحادي والعشرون: عظم دور الشباب في نصرة الحق: ويتجلى ذلك فيما قام به علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – عندما نام في مضجع النبي – صلى الله عليه وسلم – عندما همَّ بالهجرة؛ فضرب أروع الأمثلة في الشجاعة والبطولة، ومثله ما قام به عبد الله بن أبي بكر؛ فقد أمره والده أن يتسمع ما تقوله قريش في الرسول – صلى الله عليه وسلم – وأبي بكر، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك من أخبار، وأمر أبو بكر عامر بن فهيرة – مولاه – أن يرعى غنمه نهاره، ثم يُرِيْحَها إذا أمسى في الغار، فكان عبد الله بن أبي بكر في قريش يسمع ما يأتمرون به، وما يقولون في شأن الرسول وأبي بكر، ثم يأتيهما إذا أمسى، ويقص عليهما ما علم، وكان عامر في رعيان أهل مكة، فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبي بكر، فاحتلبا وذبحا، فإذا غدا عبد الله من عندهما إلى مكة أتبع عامر أثره بالغنم يُعَفِّي عليه، وتلك هي الحيطة البالغة، ففي موقف عبد الله بن أبي بكر ما يثبت أثر الشباب في نجاح الدعوة، ونصرة الإسلام، وإذا تأملت السيرة رأيت أن أكثر الصحابة – رضي الله عنهم – كانوا من الشباب الذين حملوا لواء الدعوة، واستعذبوا من أجلها الموت والعذاب، وهذا درس عظيم يبين لنا أن الشباب هم عماد الأمة، وإذا وجهوا وجهة صحيحة على نهج الكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة، ثم علت هِمَمَهُم، وترفعوا عن سفاسف الأمور؛ كانوا مشاعل هدى، ومصابيح دجى.

الثاني والعشرون: حصول الأُخوَّة وذوبان العصبيات: فمن أعظم حسنات الهجرة ما قام به الرسول – عليه الصلاة والسلام – من المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ومعنى هذا ذوبان عصبيات الجاهلية؛ فلا حمِيَّة إلا للإسلام، ولا ولاء إلا له، فتسقط بذلك فوارق النسب، واللون، والجنس، والتراب؛ لا يتأخر أحد، ولا يتقدم؛ إلا بتقواه ومروءته.

وقد جعل الرسول – صلى الله عليه وسلم – هذه الأخوة عَقْداً نافذاً لا لفظاً فارغاً، وعملاً يرتبط بالدماء والأموال لا تحيةً تثرثر بها الألسنة، ولا يقوم بها أثر، وكانت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة تمتزج في هذه الأخوة، وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثال، وقد حرص الأنصار على الحفاوة بإخوانهم المهاجرين؛ فما نزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعة، كما قدَّر المهاجرون هذا البذل الخالص؛ فما استغلوه، ولا نالوا منه إلا بقدر ما يتوجهون به إلى العمل الحر الشريف، ولا يخفى ما لهذا الإخاء من دورٍ في البناء والرقي والتعاون.

ويستفاد من هذا الدرس أن الأمة الإسلامية لا بُدَّ أن تجتمع على أخوة الإسلام، وعلى كتاب الله، وسنة رسوله، ونهج الأسلاف الكرام، وإلا أصبحت مفككة متناثرة لا يُهاب جنابها، ولا تُسمع كلمتُها.

الثالث والعشرون: إصلاح العقائد الباطلة والسلوك المنحرف، والتربية على العقيدة الصحيحة والأخلاق الحميدة: فلقد كان العالم يتخبط في ظلمات بعضها فوق بعض ظلمة من الجهل، وظلمة من دناسة الأخلاق، وظلمة من منكر الأعمال، فبعث الله المصطفى – صلى الله عليه وسلم – ليخرج الناس من هذه الظلمات إلى نور يسعى بين أيديهم في الحياة الأولى، ويهديهم إلى السعادة في الحياة الأخرى؛ فلقد أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – بكتاب عظيم مُصلحٍ للعقائد والأخلاق والأعمال، ومنظم لجميع شؤون الحياة، فَتَدَبَّرَتْهُ فئة قليلة، واتخذته قائدَها المطاعَ، فكانت خير أمة جاهدت في الله وانتصرت، وغلبت فرحمت، وحكمت فعدلت، وساست فأطلقت الحرية من عقالها، وفجرت ينابيع المعارف بعد نضوبها، واسألوا التاريخ؛ فإن هذه الأمة قد استودعته من مآثرها الغُرِّ ما بَصُرَ بضوئه الأعمى، وازدهر في الأرض ازدهار الكواكب في كبد السماء، ولقد جاهد المصطفى – صلى الله عليه وسلم – الجَهْلَ، وشرُّ الجهل عدمُ معرفة مبدع الكائنات، وتركُ التوجه إليه بشتى القربات، وجاهد الأخلاق الرذيلة؛ فكرَّه للنفوس الجزع، والجبن، والبخل، والصَّغار، والكبر، والقسوة، والأثرة، وعلَّمها الصبر فهان عليها كل عسير، وعلَّمها الشجاعة؛ فحقُرَ أمامها كلُّ خطير، وعلَّمها الكرم؛ فجادت في سبيل الخير بكل نفيس، وعلَّمها العزة؛ فسمت إلى كل مقام مجيد، وعلمها التواضع فتألَّفت كلَّ ذي قلب سليم، وعلمها الرّحمةَ، والرّحمةُ رباط التآزر والتعاون على تكاليف الحياة، وعلمها الإيثَار، والإيثارُ من أقصى ما يبلغه الإنسان من مراتب الجود، فأحدث بهذا الدين تحولاً عاماً في حياة الفرد والجماعة بحيث تغير سلوك الأفراد اليومي، وعاداتهم المتأصلة، كما تغيرت نظرتهم إلى الكون والحياة والحكم على الأشياء، وهذه المعاني إنما تجلت أعظم التجلي بعد الهجرة النبوية الشريفة المباركة.

ونحن اليوم محتاجون – من معاني الهجرة وأهدافها وحكمها – إلى ما نصلح به ما فسد من عقائد المسلمين، وإلى أن ننخلع في بيوتنا عن الآداب التي تخالف الإسلام، وأن نُعيد إلى هذه البيوت الصدق، والصراحة، والنبل، والاستقامة، والاعتدال، والتواضع، والعزة، والكرم، والتعاون على الخير، إلى غير ذلك من المعاني السامية؛ فالبيت الإسلامي وطن بل هو دولة إسلامية، وقبل أن نبدأ في علاج الأمة يجب أن نبدأ بالأقرب فالأقرب؛ فنبدأ في بيوتنا، فنهاجر نحن ومن فيها إلى ما يحبه الله، وننخلع عن كل ما لا يرضيه – عز وجل -، ثم نتحرى في مجتمعاتنا أنظمة الإسلام وآدابه، ونهجر كل ما خالفها مما اقتبسناه من غيرنا، وخَذَلْنا به مقاصد الإسلام، فضيَّعنا أغراضه الجوهرية.

وإذا أخذنا بهذه التربية، وتأصَّلت في أذواقنا وميولنا، وتَعَوَّدْنَا العمل بها في شتى الميادين؛ لم تلبث أوطان المسلمين أن تتحول من أوطان عاصية لله إلى أوطان مطيعة لله، فيكون لهذا الأسلوب من أساليب الهجرة مِثْلُ الآثار التي كانت لهجرة النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه الأولين.

وأخيراً فإن دروس الهجرة وفوائدها يقصر دونها العد؛ فمن أراد التفصيل والزيادة فليراجع حديث الهجرة في كتب السيرة النبوية، وليراجع الكتب التي تناولت الهجرة بشيء من البسط والاستجلاء6، وفي الختام نسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى؛ أن يرزقنا حسن الاقتداء والاهتداء بنبينا محمد – عليه أفضل الصلاة والسلام -، والحمد لله رب العالمين.


 


1 رواه البخاري برقم (3380).

2 آل عمران (159).

3 الأنفال (30).

4 رواه البخاري برقم (3216).

5 التوبة (40).

6 مثل كتاب "محمد رسول الله وخاتم النبيين" للشيخ محمد الخضر حسين، و"السيرة النبوية دروس وعبر" للدكتور مصطفى السباعي، و"مع الرعيل الأول" للشيخ محب الدين الخطيب وغيرها من الكتب.