قرآن يمشي

قرآن يمشي

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:

إن الشريعة الإسلامية السمحاء أتت لتنمي في النفس البشرية الأخلاق الحسنة، والقيم الفاضلة؛ عبر المنهج الرباني الفريد الذي جاء به القرآن الكريم، والسنة المطهرة، والناظر إلى سيرة المصطفى – صلى الله عليه وسلم – يجد أنها حوت جميع مكارم الأخلاق التي تواطأ عليها فضلاء ونجباء البشر ونبلاؤهم، كيف لا وهو – صلى الله عليه وآله وسلم – القائل: ((إنما بعثت لأتمم صالحي الأخلاق))1، وفي السلسلة الصحيحة ((إنما بعثت لأتمم مكارم (و في رواية صالح) الأخلاق))2.

والمتأمل في أخلاقه – صلى الله عليه وآله وسلم – يجد فيه دماثة الأخلاق، وطيب التعامل، ولهذا جاء في وصفه أنه كان خلقه القرآن فعن قتادة عن زرارة أن سعد بن هشام بن عامر وحكيم بن أفلح  دخلا على عائشة – رضي الله عنها – قال: فاستأذنا عليها فأذنت لنا، فدخلنا عليها، فقالت: أحكيم؟ فعرفته، فقال: نعم، فقالت: من معك؟ قال: سعد بن هشام، قالت: من هشام؟ قال: ابن عامر فترحمت عليه، وقالت خيراً، قال قتادة: وكان أصيب يوم أحد، فقلت: يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله – صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى قالت: فإن خلق نبي الله – صلى الله عليه وسلم – كان القرآن… الحديث.3

وهذا هو الخلق الذي تميز به النبي – صلى الله عليه وآله وسلم -، وكان سمة بارزة له؛ لأن هذه الشهادة صادرة من زوجته – صلى الله عليه وآله وسلم – التي عاشت معه، وخبرت جميع جوانب حياته، والمهم هو: كيف نستطيع أن نوجد من أنفسنا، وأولادنا، ومن نعولهم من هذه صفته؟ وأن نحقق هذه الصفة النبوية واقعاً ملموساً في حياتنا؟ وكيف نجعل من هذه الصفة المحمدية ظاهرة منتشرة في أوساط مجتمعاتنا؟.

وللجواب على هذه التساؤلات نسرد عدة نقاط:

1)  أن نعلم أن هذه الصفة هي نتيجة للتربية على المنهج الرباني السليم وفق ما يريده الشرع الحنيف، ولو رجعنا إلى الوراء قليلاً لوجدنا أن هذه الصفة تحققت في الرعيل الأول، فقد اهتم التابعون، وسلفنا الصالح بتربية النفس، ومحاولة زجرها، وردعها لما يشوه فطرتها السليمة التي فطرها الله عليها، والسعي لتحقيق القرآن واقعاً عملياً ملموساً، فقد "قال أبو عبد الرحمن السلمي – رحمه الله -: حدثنا من كانوا يقرئوننا قالوا: كنا نأخذ العشر آيات فلا نتجاوزها إلى غيرها حتى نعمل بما فيها، فتعلمنا العلم والعمل جميعاً"4.

2)  حفظ كتاب الله – عز وجل – حفظاً متقناً عن ظهر قلب، وهنا نأتي إلى بداية الطريق إلى الوصول إلى هذه الصفة النبوية، وعلى كل رب أسرة أن يسعى جاهداً إلى إيجاد الجيل الحافظ لكتاب الله – عز وجل – سواء من البنين أو من البنات، وتحبيب الحفظ لدى الناشئة، وتعليمهم الأحكام القرآنية التي تتضمنها الآيات الشريفة.

3)  على رب الأسرة إيجاد الجو القرآني داخل المنزل من خلال توفير الإعلام الملتزم، والمصاحف، والكتب التي تهتم بهذا المجال، والتربية على حب الله – عز وجل -، وحب رسوله – صلى الله عليه وآله وسلم -، وحب كتاب الله – تبارك وتعالى -، والسعي لأن يكون هذا الجو هو السائد في البيت، وعدم السماح لما يزيل أو يعكر هذا الجو الروحاني، فإزالة الشوائب التي تعترض هذه المسيرة من إعلام، وثقافات مناقضة لهذه المسيرة هو أمر مهم جداً.

4)    ربط الناشئة بالمسجد، وتنمية حب المساجد في النفوس لديهم.

هذا بعض ما ينبغي على رب الأسرة فعله تجاه من يعولهم إذا أردنا أن ننشئ جيلاً قرآنياً، وعلى الجهات المختصة والمسؤولة عن حلقات تحفيظ القرآن أن تختار المدرس ذو الكفاءة، والمهارة الكبيرة؛ حيث يبقى الجانب الآخر والذي تقع عليه المسؤولية الكبيرة في إخراج هذا الجيل، وتحقيق هذه الصفة في الواقع؛ ألا وهو المدرِّس في حلقات التحفيظ، وعلى المدرس أن يعلم أن دوره كبير وهام جداً، فلا يقتصر على التدريس فقط بل عليه:

1)  تربية الشباب على المنهج القرآني من خلال غرس المفاهيم، والأخلاق الإسلامية في نفوس الطلاب، وتنميتها لديهم لتكون من الأمور الجبلّية لديهم.

2)    أن يعلم أنه في مقام القدوة للطالب، ومن خلال هذا يستطيع أن يربيه بالقدوة.

3)  ترغيب الطلاب في حفظ القرآن الكريم، فيحث الطلاب على الحفظ، وتدعيم ذلك بالآيات والأحاديث التي فيها ذكر فضائل تلاوة القرآن وحفظه، وذكر الأجر المترتب عليه، وإيراد هدي السلف في الحفظ والتلاوة بأسلوب متميز رائع وجذاب؛ مما يشحذ الهمم، ويقوي العزائم.

4)  احتواء الطالب داخل الحلقة، وإشعاره بأهميته وقيمته فيها مما يؤدي إلى أن الطالب يغلِّب جانب الحلقة في حياته ومعيشته، ويجعله يقدم الحلقة على كثير من مشاغله، والصوارف التي تصرفه، فلا يستطيع رفقاء السوء التأثير عليه، أو انتزاعه من حضن الحلقة؛ لأنها حصن قوي يحمي كل من ينادي إليه.

5)  إقامة البرامج الثقافية: كالمسابقات القرآنية والثقافية، والبرامج الاجتماعية، وهي من أهم البرامج التي يمكن أن تقوم بها الحلقة من أجل نزع الروتين والملل من نفوس الطلاب، والترويح عنهم، وإدخال السرور على نفوسهم، وتوثيق أواصر الأخوة بين بعضهم البعض ومع معلمهم بالرحلات، والأنشطة الترفيهية المشجعة.

6)    إكساب الطالب القيم الإيجابية النابعة من تعاليم الدين الإسلامي، والعمل على تكوين شخصيته المسلمة المتكاملة، وغرس الآداب التي تزيد أخلاق المسلم، وتكوين الشعور بالمحبة للفضائل والقيم الأخلاقية الحميدة من خلال توعية وتبصير الطلاب، ووقايتهم من الوقوع في بعض المشكلات والأخطاء.

7)  الاهتمام بجميع الطلاب على حد سواء، مع مراعاة الفروق الفردية بينهم، وعدم التمييز بين الطالب المتميز والضعيف من ناحية التعامل، وفي نفس الوقت يعمل على تشجيع المتميزين، والسعي للتقدم بهم إلى الأمام، وإلى أفضل مستوى، وتشجيع الضعفاء، وتحفيزهم دون تأنيب أو تجريح، والسعي لتحسين المستوى لديهم.

8)  إكساب الطلاب بعض المهارات العملية، وتطويرهم فيها، كتطويرهم في العلوم الحديثة مثل الحاسوب ونحوه من مجالات العلوم الحديثة.

9)  السعي لمراجعة الدروس المدرسية للطالب، ومذاكرتها، وتقويتهم فيها، مما يساعد على زيادة الثقة في نفوس التلاميذ في المجال التعليمي، وترسيخ المعلومة في أذهان التلاميذ.

10)  غرس حب العلم الشرعي في النفس، وحب الانتماء إلى قافلة طلبة العلم الشرعي، مع مراعاة التطوير الذاتي للطالب في العلوم الحديثة، والسعي للحصول على أعلى الشهادات والمؤهلات.

11)   تفعيل التواصل المستمر مع الأسرة، وولي الأمر، وتعريفهم بالمستوى الذي وصل إليه الطالب، وإشراك الأسرة ممثلة في ولي الأمر في الأنشطة المقامة في الحلقة وخارجها؛ لإيجاد الداعم المعنوي للطالب، والهيبة في وقت واحد، وليزداد الطالب وولي أمره تفاعلاً ونشاطاً مما يكون كفيلاً لأن يستمر الطالب في الحلقة، وفي الحفظ، والتقدم إلى الأمام.

12)   التجديد في أساليب المدرس مع الطالب، وعدم السير بهم، وبالحلقة بوتيرة واحدة، مما يسبب الملل عند الطالب، ونفرة الطالب من الحلقة، ويجعله يذهب إلى أماكن أخرى.

13)   التركيز على قوة الأداء لدى الطالب بالنسبة للحفظ، والمراجعة، والتركيز على الكيف لا الكم، والتركيز على الأداء في التلاوة والأحكام، وتصحيح القراءة، وعدم التغافل عن الأخطاء التي يعتبرها البعض بسيطة، بل على العكس هي خطيرة.

هذه بعض الأفكار التي نستطيع من خلالها ضبط الطالب، وترغيبه في التحفيظ، وضبط الحلقة، وتقديم الأفضل للسعي لإيجاد جيل قرءاني فريد يتمثل القرءان في جميع جوانب حياته العلمية، والعملية، وبهذا نستطيع أن نوجد قرآنا يمشي على الأرض، وشخصاً متصفاً بصفة محمد – صلى الله عليه وآله وسلم – "كان قرآن يمشي على الأرض".

نسأل الله – عز وجل – أن يمكِّن لدينه في الأرض، وأن يرد المسلمين إلى دينهم رداً جميلاً، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.


 


1 الأدب المفرد (1/104).

2 سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 8).

3 رواه مسلم (1233).

4 شرح كتاب العلم من صحيح البخاري للحويني (1/166).