إلى جار المسجد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد:
فللجار على جاره حقوق كثيرة يجب مراعاتها، وتأديتها إليه، حيث أنه لو فرط فيها؛ طولب بالأداء من قبل جيرانه.
لكن ما الحال عندما يكون الجار غير قادر على الكلام والشكوى، وفي نفس الوقت لا يوجد من يطالب بحقه، لا شك أن الحقوق عندئذ تضيع، فيا ترى من هذا الجار؟ ومن هم جيرانه؟ وما هي حقوقه التي ضيعت؟
إنه المسجد الذي له جيران قد تلتصق جدران بيوت بعضهم بجداره، وتقابل أبوابهم بابه؛ لكنهم ما وفوا له حقاً، وما رعوا له حرمةً، بل هجروا المسجد دون أي سبب، وتركوه دون أي ذنب، كأنهم إذ فعلوا ذلك ما سمعوا ما مدح الله – تعالى – رواد بيته فقال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ}1.
متى يصل هؤلاء الجيران جارهم، أما علموا أن الذهاب إليه لأداء صلاة الجماعة واجب، وقد أورد ابن القيم – رحمه الله تعالى – أدلة القائلين بالوجوب فخذها يا جار المسجد لتعلم حق جارك عليك، يقول: "قال الموجبون: قال الله -تعالى-: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ..}2، أحدها أمره – سبحانه – لهم بالصلاة في الجماعة، ثم أعاد هذا الأمر – سبحانه – مرة ثانية في حق الطائفة الثانية بقوله: {وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ}3، وفي هذا دليل على أن الجماعة فرض على الأعيان، إذ لم يسقطها – سبحانه – عن الطائفة الثانية بفعل الأولى، ولو كانت الجماعة سنة لكان أولى الأعذار بسقوطها عذر الخوف، ولو كانت فرض كفاية لسقطت بفعل الطائفة الأولى، ففي الآية دليل على وجوبها على الأعيان، فهذه على ثلاثة أوجه:
1- أمره بها أولاً.
2- ثم أمره بها ثانياً.
3- وأنه لم يرخص لهم في تركها حال الخوف.
الدليل الثاني: قوله – تعالى -: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ }4، ووجه الاستدلال بها أنه – سبحانه – عاقبهم يوم القيامة بأن حال بينهم وبين السجود؛ لما دعاهم إلى السجود في الدنيا فأبوا أن يجيبوا الداعي، إذا ثبت هذا فإجابة الداعي: هي إتيان المسجد بحضور الجماعة لا فعلها في بيته وحده، وهكذا فسر النبي – صلى الله عليه وسلم – الإجابة فروى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – رجلٌ أعمى فقال: يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يرخص له، فرخص له، فلما ولى دعاه فقال: ((هل تسمع النداء؟)) قال: نعم، قال: ((فأجب))5، فلم يجعله مجيباً له بصلاته في بيته إذا سمع النداء، فدل على أن الإجابة المأمور بها هي إتيان المسجد للجماعة،… إلى أن قال رحمه الله: وهذا هو الذي فهمه أعلم الأمة وأفقههم من الإجابة وهم الصحابة – رضي الله عنهم -.
الدليل الثالث: قوله – تعالى-: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ}6 ووجه الاستدلال بالآية: أنه – سبحانه – أمرهم بالركوع أي الصلاة، وعبر عنها بالركوع لأنه من أركانها، والصلاة يعبر عنها بأركانها وواجباتها، كما سماها الله سجوداً وقرآناً وتسبيحاً فلا بد لقوله: (مع الراكعين) من فائدة أخرى وليست إلا فعلها مع جماعة المصلين، والمعية تفيد ذلك، إذا ثبت هذا الأمر المقيد بصفة أو حال فلا يكون المأمور ممتثلاً إلا بالإتيان به على تلك الصفة والحال.
الدليل الرابع: ما ثبت في الصحيحين وهذا لفظ البخاري عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقاً سميناً، أو مرماتين حسنتين؛ لشهد العشاء))7، وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إن أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا..))8 انتهى"9.
فيا جار المسجد: هل من لفتة إلى جارك الذي له حق عليك، علك تعود جاراً صالحاً تعرف ما عليك تجاهه، فكفى تقصيراً، وكفى هجراً، والله الله في جارك.
والحمد لله رب العالمين.