أذكار وفوائد في الأسفار الشيخ محمد صالح المنجد
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. عباد الله إن المؤمن يعبد الله في حله وترحاله، وتتغير بالناس الأحوال، فيضعنون ويقيمون، ويحلون ويرتحلون، ولذلك فإن المسلم مطالب بالتأدب بآداب الشريعة والتمسك بأحكامها في الحضر وفي السفر، ألا ترى أهل العلم ذكروا أنه ينبغي لمن أراد سفراً أن تكون له نية صالحة، بسفر إلى طاعة أو مباح على الأقل، أن يستخير ويستشير، أن يتوب ويقضي الدين، ويخرج من مظالم الخلق ويتحلل ممن أساء إليهم، وأن لا ينسى نفقة أهله، ويختار الرفقة الصالحة في السفر، وأن يحرص على السنة، ((لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي الْوَحْدَةِ مَا أَعْلَمُ مَا سَارَ رَاكِبٌ بِلَيْلٍ وَحْدَهُ)) رواه البخاري. وفد رجل من سفرٍ فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ((من صحبت))؟ ( يعني في هذا السفر) قال : ما صحبت أحداً، فقال له : ((الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب))؛ ومعنى الحديث كما ذكر الخطابي رحمه الله : أن التفرد والذهاب وحده في الأرض من فعل الشيطان، أو يحمل عليه الشيطان ويدعو إليه، ولذلك سمى فاعله شيطان . الإسلام يريد أن يكون المؤمنون جمعاً، وأن يعبدوا الله -سبحانه وتعالى- معاً، وأن تكون هنالك رفقةٌ، وحتى لا يختلفوا استحب لهم التأمير، ((إِذَا خَرَجَ ثَلاَثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ ))، فهذا الذي يحسم الأمور بينهما إذا اختلفا. ويودع أهله وجيرانه وأصدقائه، ولذلك كان يقول ابن عمر رضي الله عنهما كان يقول للرّجل إذا أراد سفراً: هلمّ أودّعك كما ودّعني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ((اسْتَوْدِعْ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وخواتيم عَمَلِكَ))، فيستودع الله تعالى الدين، لأن السفر قد يحمل الإنسان على التقصير فيه، أو التساهل في المعصية، وإذا ذهب إلى مكان فكان غريباً لا يستحي كما كان يستحي في البلد وحوله من يعرفه، وقوله وأمانتك: أي الأهل، والأولاد، والودائع التي تركها المسافر في بلده، وخواتيم عمله، يجعل آخر عمله قربه، فهذا دعاء إلى الله، والأعمال بالخواتيم، والله إذا استُودع شيئاً حفظه، كما أخبرنا -صلى الله عليه وسلم- ، جاء رجل إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللّه إنّي أريد سفراً فزوّدني، فقال: ((زوّدك اللّه التّقوى)). فقال: زدني، فقال: ((وغفر ذنبك)). قال زدني، قال: (( ويسّر لك الخير حيثما كنت)) .رواه الترمذي وهو حديث صحيح .فإذا ودع إخوانه كان في دعائهم له بركة . ويستحب السفر صباح الخميس إن تيسر، لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يحب أن يخرج يوم الخميس، وأن يبكر في الخروج، وقال : ((اللهم بارك لأمتي في بكورها))، والذكر مع المسافر صاحب، وقرين صالح، وفضله في أوقات الغفلة عظيم، والإكثار من الدعاء في السفر مظنة الإجابة، ويأتي إذا أشرف على قرية بالدعاء المعروف : ((اللهم إني أسألك خيرها، وخير أهلها، وخير ما فيها، وأعوذ بك من شرها، وشر أهلها، وشر ما فيها)) حديث صحيح . فإذا صعد أو أقلعت به الطائرة في طبقات الجو وارتفعت، ناسب أن يكبر الله تعالى ليذكر نفسه أن العلو من صفاته سبحانه، وهو أكبر من كل شيء، وحديث جابر: كنا إذا صعدنا كبّرنا، وإذا تصوبنا سبّحنا . ( أي إذا انحدرنا ونزلنا ) رواه البخاري . فهكذا يكون الشأن عند هبوط الطائرة، فهي تهبط وهو يسبح، وينّزه ربه عن كل عيبٍ، والاستعلاء والارتفاع محبوب للنفس، فيصيبها بالكبرياء، فيذكر نفسه أن الكبرياء لله، والمكان المنخفض محل ضيقٍ، فهو يسأل أسباب الفرج بمعنى التسبيح، وقد قال يونس في بطن الحوت : لا إله إلا أنت سبحانك ، فنجّي من الغم. دعاء نزول منزل للكبير والصغير، (( من نزل منزل ثم قال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيئاً حتى يرتحل من منزله ذلك)). ما هي كلمات الله ؟ كل كلام الله تعالى تامٌ ، سواء كان القرآن أو التوراة أو الإنجيل، أو صحف إبراهيم أو زبور داود، أو غير من ذلك من الكتب التي أنزلها الله، وكذلك أوامره سبحانه الصادرة إلى ملائكته، وكلامه سبحانه النازل إلى أنبيائه، كما هي السنة فإنها وحي، فكلمات الله تعالى صدقٌ وعدل تامة من كل وجه، هذه الكلمات التي لا يدخلها نقص ولا عيب، نافعةٌ شافية، من صفاته سبحانه، فإنه يتكلم، ومن صفاته الكلام، والاستعاذة بالصفة مشروع وارد، كقوله: أعوذ بعزة الله وقدرته، أعوذ بكلمات الله، قال القرطبي رحمه الله عن الحديث في النزول : هذا خبر صحيح علمنا صدقه دليلا وتجربة، منذ سمعته عملت به، فلم يضرني شيء إلى أن تركته فلدغتني عقرب ليلة فتفكرت فإذا بي قد نسيت أن أتعوذ بهذه الكلمات. ونزل جماعة منزلاً فقالوا هذا الذكر، فلما أقلعوا من مكانهم وطووا خيمتهم وجدوا تحتهم ثعبانا لكن لم يمسهم شيء بفضل الله عز وجل. والسرى في آخر الليل طيب، وهو سير المسافر، لقوله -عليه الصلاة والسلام- : ((عليكم بالدلجة فإن الأرض تطوى بالليل)). وخدمة الإنسان المسلم في حلهم وترحالهم من التواضع ومن أبواب الأجر، قال مجاهد رحمه الله : صحبت ابن عمر في السفر لأخدمه فكان يخدمني. وقال أنس رضي الله عنه: (خرجت مع جرير بن عبد الله في سفر فكان يخدمني وكان جرير أكبر من أنس). رواه البخاري ومسلم . وجرير أسلم وهاجر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ، وهو متواضعٌ لخادم رسول الله -عليه الصلاة والسلام- ، وخادم له . صحب أحد السلف تاجرا موسرا فلما رجعا قال التاجر: والله ما ظننت أنّ في الناس مثله، كان – والله – يتفضّل عليّ في النفقة وهو معسر وأنا موسر ويتفضل عليّ في الخدمة وهو شيخ ضعيف وأنا شاب، ويطبخ لي وهو صائم وأنا مفطر. إذا أنت صاحبت الرجال فكن فتى ** كأنك مملوك لكل رفيق وكن مثل طعم الماء عذباً وبارداً ** على الكبد الحرى لكل صديق وقد جاء في السنة ماذا يقال في الرجوع، فقد أخبرنا -عليه الصلاة والسلام- بعدم الإطالة بالسفر، بقوله : ((السَّفَرُ قِطْعَةٌ من الْعَذَابِ يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ نَوْمَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ فإذا قَضَى أحدكم نَهْمَتَهُ فَلْيُعَجِّلْ إلى أَهْلِهِ)). ولا شك أن في الأسفار من أنواع التعب والنصب والمشقة ومقاساة الحر والبرد والخوف والإرهاق وتغير الأجواء المؤثر في الصحة والشعور بالوحشة والغربة ومفارقة الأهل والأصحاب، والخشونة ما فيه، قال ابن حجر معلقاً :" وفي الحديث كراهة التغرب عن الأهل لغير حاجة، واستحباب استعجال الرجوع ولا سيما مَن يخشى عليهم الضيعة بالغيبة، ولما في الإقامة في الأهل من الراحة المعينة على صلاح الدين والدنيا ولما في الإقامة من تحصيل الجماعات والقوة على العبادة . ومن انقضت حاجته لزمه الاستعجال كما قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله إلى أهله الذين يقوتهم، مخافة ما يحدثه الله فيهم من بعده، وينبغي ألا يقدم عليهم فجأة ولكن يخبرهم ليتهيئوا لاستقباله، وأن يبدأ في المسجد فيصلي ركعتين، كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ، فيبدأ ببيت الله قبل أن يدخل بيته، ويحمد ربه على الرجوع سالماً بهاتين الركعتين، كان الفقيه الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله إذا دخل البلد ولو في غير وقت الصلاة ، يدور فيها حتى يجد مسجداً مفتوحاً ليصلي فيه ركعتين، أخذ بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- . ويستقبله أهله وأولاده، كما جاء عن أنس رضي الله عنه قال : كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا تلاقوا تصافحوا، وإذا قدموا من سفرٍ تعانقوا، وكانوا إذا رجعوا يُستقبلون كما جاء في عدد من الآثار بأولادهم . ولما صارت الأسفار في هذه الزمان قصيرة سريعة بفعل الطائرات، فات كثيرٌ مما جاء في الآثار بسبب سرعة العودة وكذلك قصر المدة ، بخلاف السفر في الأزمان الماضية ، فقد كان البعير يسير وعليه راكبه المحمل، يقطع 40 كيلاً، ولا يمكن الزيادة على ذلك في الغالب، في اليوم والليلة، فيسّر الله من الوسائل ما يسّر، فينبغي للعبد أن يحمد ربه، وأن يعبده سبحانه وتعالى، وأن يذّكر نفسه، فإذا رأى بلدته قال : آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون. يكررها حتى يدخل بنيان البلد، وجاء في رواية أن -عليه الصلاة والسلام- كان يقول ((توباً توباً لربنا أوبا )). وقد جاءت الشريعة بما يخفف الأحكام في الأسفار، وهذا من فضل الله -عز وجل-، ومما لا يهتم به كثير من الناس مسألة القبلة في السفر، فتراه يجتهد وفي المكان من يُسأل من أهل المكان، فلا يجوز الاجتهاد وفي المكان من المسلمين المقيمين من يعرف القبلة قطعاً، لأن الاجتهاد قد يخطئ، وإنما محل الاجتهاد ما إذا لم يكن هنالك مجال لأن يدله أحد من المسلمين على جهة القبلة، ممن هو موجود أو مقيم في ذلك المكان، واستعمال الآلات في معرفة القبلة طيبٌ لأنه وسيلة إلى تحقيق العبادة وتوفير شروطها، ومن شروط الصلاة معرفة القبلة، وبعض الناس يستأجر مكاناً في البلد ويقيم فيه ويصلي إلى غير القبلة أشهراً، لأنه لم يضبط ولم يسأل كما ينبغي عن جهة القبلة . وينبغي على المسافر أن يحرص على سنة الأذان، وكذلك القصر والجمع في السفر، فأما القصر فإنه لا يكون إلا بالسفر، فلا قصر في الحضر، وأما الجمع فقد يكون بغير قصر، كالجمع في المطر في الحضر، فإذا سار المسافر جمع وقصر، فإذا نزل في مكانٍ أربعة أيام فأقل، له أن يقصر، ويستحب أن لا يجمع، فإن جمع جاز، فإذا نزل في مكان أكثر من أربعة أيام فهو مقيم عند الجمهور، يصلي كأهل البلد، صلاة كاملة منذ أن يصل بلا قصرٍ ولا جمعٍ، ولو أدرك ركعتين من الرباعية خلف الإمام، فإنه يكملها أربعا، وإذا صلى وراء إمام مقيم، فإنه يأتي بها أربعا، وإن من النصائح للمسافرين عدم إرهاق النفس بالاستدانة، وبعض الناس ربما يستدين لأمورٍ لا يحتاج إليها، فينبغي أن يتخفف الإنسان من الديون لأن إشغال الذمة خطير، وإذا لقي الله بحقوق العباد فإن هذا يؤثر عليه حتى في قبره . وانعتاق بعض الناس من التكاليف الشرعية في الأسفار، وظن أن السفر خروج من الطاعة شيء في غاية السوء، وأن ما يسمى بأسفار السياحة، قد جعلت بعض الناس يعصي ربه حتى في حرم الله، ولذلك ترى فيهم من الخفق في الأسواق، وتبرج النساء، والانشغال بالمعصية، وأنواع النظر وتعمده إلى الأجنبية، حتى في حرم الله تعالى، فيه ما يقسّي القلب ويكسب الإثم ، ومعلوم أن المعصية تُضاعف في الأزمة الفاضلة، والأمكنة الفاضلة، وغضّ البصر واجب، {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ}(النور: من الآية30). وأين النظر في السماوات والأرض في الأسفار والنزهات البريّة والبحرية ونحوها، للتفكر والتدبر فيما أمر الله -عز وجل- ، {قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } (101) سورة يونس، {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}(آل عمران:191) (آل عمران:190) . ولما سافر النبي -صلى الله عليه وسلم- جهة تبوك، ومروا بمدائن صالح وقوم ثمود وديارهم، لما مرّوا بالحجر كما هو الاسم المعروف في السيرة، قال -عليه الصلاة والسلام- : ((لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ)) ثُمَّ تَقَنَّعَ بِرِدَائِهِ وَهُوَ عَلَى الرَّحْلِ . رواه البخاري ومسلم . فهذه ديار المعذبين، والواجب عند دخولها لمن مر بها مجتازاً، أن يبكي أو يتباكى، أن يحضر البكاء إلى نفسه متفكراً في الصيحة التي أخذ الله بها أولئك القوم، فقطعت نياط قلوبهم في أجسادهم، وجعلتهم صرعى في ديارهم،{فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا } (58) سورة القصص ، وهو سبحانه أنزل تلك اللعنة في ذلك الموضع، ولذلك رفض النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يعجن العجين ويؤكل من ماء البئر الذي كانت تأتيه الناقة، وأمر بأن يُعطى للدواب . ومن المصائب إحياء الآثار من البقاع والمغارات بالتقرب إلى الله بالسفر إليها، كما يفعله بعضهم في غار ثور مثلاً، وغار حراء، والنبي -عليه الصلاة والسلام- كان يأتي الغار قبل الإسلام، فأي معنى لجعله مزاراً يُتعبد فيه ويُصعد إليه للصلاة ونحو ذلك، وإذا قدّست الأماكن وجعلت مزارات ومتبركاً تلتمس عنده البركات، فأي أبواب من الشرك تلك التي ستفتح بهذه الطريقة، وبعض الذين يقتبسون من أديان المشركين، والمنحرفين في الأرض، يريدون أن يحيوا هذه المزارات، وأن يجعلوها أماكن للعبادة، ويريد بعضهم أن يستغل هذه السياحة التي لها معنى ديني عند هؤلاء المنحرفين، لكي تكون تجارة مالية، وتقام هنالك من أنواع البيوعات والاستئجارات ما يقام، لأجل زيادة المال، فلا بارك الله في مال يُقام على البدع وتكون الوسيلة لتحصيله، وقد قال -عليه الصلاة والسلام- : ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد : المسجد الحرام ومسجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسجد الأقصى)) متفق عليه . فأما مسجد الحرم والمسجد النبوي فلهما حرم، يعني مكان حولهما لا يصاد فيه، وله مكانة عند الله وحرمة، والمعصية فيه أشد، وأما المسجد الأقصى فليس له مثل ما للحرمين من حرم، فلمكة حرم، وللمدينة حرم، أي مكان محرّم فيه الصيد وأشياء أخرى ورد بها الشرع، أما المسجد الأقصى فمع فضل الصلاة فيه، وأنه مسرى نبينا -صلى الله عليه وسلم- أمّ فيه الأنبياء، فأنه لا يوجد فيه حرم ( أي مكان حوله يحرم فيه الصيد ونحوه)، ولذلك من الأخطاء أن يقال ثالث الحرمين لأن كلمة ثالث الحرمين تعني أنه حرم ثالث، وهذا ليس بصحيح، وما يفعله بعض الناس من غشيان متاحف الآثار التي فيها صور ذوات الأرواح، المجسمة، المرسومة، المنحوتة، المصنوعة، ونحو ذلك من المصورات لذوات الأرواح، فهذا لا يجوز، ومن تربية الأولاد على أنواع الوثنية، وآثار الشرك فإن هذه المضاهاة لخلق الله بصناعة هذه المصورات لذوات الأرواح نوع من الشرك بلا ريب . عباد الله أن التفريج عن الأهل والأولاد بإدخال السرور إليهم عبادة لله، ونحن نشهد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان خير الناس في أهله، ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)). فكان يصحب زوجاته بالسفر، وكان يسابق عائشة رضي الله عنها، ويسامر الواحدة من زوجاته على بعيرها وهو على بعيره يسير بجانبها في الليل، ويتحفهن ويلاطفهن، أشهد أنه رسول الله حقا، والداعي إلى سبيله صدقا، فصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وذريته وخلفائه وأزواجه، اللهم صلي وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الخطبة الثانية الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده: عباد الله إن في ضغوط الحياة والأعمال التي يتعاطاها الناس، ما يحتاج إلى شيء من تغيير الجو، وخروج عن هذه الرتابة المملة أحياناً، وفي غمرة هذه المدنية التي جاءت بأنواع من الترف والآلات أخرجت الناس عن فطرتهم الأصلية، يحتاج الأهل والأولاد إلى إعادة لهذه الفطرة، هذه القضية الفطرية، الحياة الفطرية التي فقدناها بالمدينة اليوم، قد أفسدت كثيراً من الصحة، بل العقل أيضاً، وجعلت الناس أسرى للآلات، والتقنيات التي لها ضريبة صحية نفسية عقلية، بالإضافة لما فيها من أنواع العدوان لبعض الأحكام الشرعية. وعيش الإنسان في الضوضاء وصخب المدن وما فيها من أنواع الإزعاج والتلوث، وجعل الليل نهاراً والنهار ليلاً، يحتاج معه الإنسان أن يتذكر الحياة الفطرية، بذهابه مع أهله أحياناً إلى مكان خارج هذه المدن، يستطيع فيه أن ينظر إلى السماء، فإنك في البلد لا ترى النجوم، لا تكاد ترى اشتباكها، لا تتمكن في كثير من الأحيان من النظر إلى الشمس عند شروقها وغروبها، فهذه المباني تحجبها، فإذا خرجت إلى أرض الله الواسعة، رأيت في أفلاك هذه السماء وزينتها، والنجوم التي خلقها الله تعالى، وجعلها أيضاً دلالة للمسافرين، ورجوماً للشياطين،{وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} (16) سورة النحل ، فتعلم أولادك كيفية الاستدلال على جهة الشمال بهذه النجوم، وكيفية معرفة أوقات الصلوات، هذه فرصة كبيرة لمن أراد أن يذهب إلى البر مثلاً، وإن التأمل وتنقل الفكر في ملكوت الله وما خلق يزيد الإيمان، وكذلك في الهواء الطيّب صحة للبدن، بعيد عن هذه الملوثات الجسدية، وهم إذا ناموا مبكرين بعد العشاء واستيقظوا مبكرين لأجل الفجر، فيه تذكير بطبيعة الحياة التي خلق الله الناس عليها، وجعل الليل سباتاً والنهار معاشا سبحانه وتعالى، وكذلك فإن في أنواع هذه الأسفار ما يكون فيه صلة للرحم ومجال للجلوس مع الأولاد لغرس المفاهيم الإسلامية وتعويض النقص الذي كان من الأبوين في الجلوس معهم أوقات العمل والدراسة، فيؤتى بآيات الله بأساليب شيقة في شرحها، وتقص القصص والوصايا كوصية لقمان لابنه، ووصية يعقوب لأولاده، وقصة أصحاب الأخدود، وكذلك ما يكون في أنواع هذه المواعظ التي ذكرها الله وأمرنا برعاية أولادنا بناءاً عليها {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}(التحريم: من الآية6). وحتى عند إيقاد الحطب فرصة، كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستثمر ذلك، فضرب لأصحابه في صغائر الذنوب مثلاً فقال : (( كمثل قوم نزلوا أرضا في سفر فحضر صنيع طعامهم فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود والرجل يجيء بالعود حتى جمعوا شيئا عظيما فأججوا نارا وأنضجوا طعامهم، وقال حينئذ:(إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ)) رواه أحمد وهو حديث صحيح . وحتى في هذه النار التي تورى في البر ذكرى كما قال -سبحانه وتعالى- {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ* أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ* نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ* فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (الواقعة:72) (الواقعة:73) (الواقعة:74) (الواقعة:71). جعلها الله متاعاً لأنه تدفئ في البرد، وتذكرة بنار جهنم التي أعدها الله للعاصين، وجعلها سوطاً يسوق به عباده إلى طريق الحق خائفين، ومتاعاً للمقوين : أي المسافرين، خص الله المسافرين لأن انتفاعهم بها أعظم من غيرهم، فهذه النار جعلها الله متاع للمسافرين في هذه الدار وتذكرة لهم بدار القرار، وما أعد فيها لأهل معصيته. وأيضاً فإنه يتذكر العبد بارتحاله أن الدنيا مولية، وذاهبة، كان صلة بن أشيم يمر في طريقه إلى المسجد بشباب يلهون ويلعبون فيقف ويقول لهم: (أخبروني عن قوم أرادوا سفرا فنزلوا إلى جانب الطريق في النهار وناموا بالليل ( لا ساروا بالليل ولا ساروا بالنهار) فمتى يبلغون قصدهم ؟) ثم يمضي. فلما تكرر ذلك فطن أحد الشباب لمقصده فقال لأصحابه يا قوم : إنه لا يعني بهذا غيرنا، فنحن نلهو بالنهار وننام بالليل غافلون عن السفر إلى الله ودار الآخرة فتاب إلى الله . وينبغي أن يبتعد من يريد الارتحال عن اصطحاب آلات المعاصي معه، فإن كثير من الناس يصحبون معهم ما يفسد الفطرة، مع أنه كان حرياً بهم أن يستثمروا هذه الرحلات في إحياء الفطرة . نسأل الله -عز وجل- أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، ونسأله -عز وجل- أن يرزقنا حبه وحب ما يحب وحب من يحب، نسأله سبحانه أن يجعلنا عند البأساء من الصالحين ، وعند السراء من الشاكرين، وأن يدخلنا برحمته في عباده الصالحين، وأن يغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، ونسأله -عز وجل- أن يكبت أعداء الدين، وأن يقمع المنافقين، وأن يرغم أنفوهم، وأن يذلهم وأن يفشل خططهم، اللهم إنا نسألك أن تنصر دينك وعبادك الموحدين، وأن توفق الدعاة العاملين، اللهم إنا نسألك أن تنصر هذه الشريعة، وأن تعلي كلمة الدين، اللهم إنا نسألك فتحاً قريباً للإسلام والمسلمين، اللهم عجل نصر أهل الإسلام يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك أن توفق من أراد نصرة الدين، وأن تخذل من أراد الشر بالإسلام والمسلمين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل المسلمين، اللهم وفّق من أراد العمل لدينك لما تحب وترضى، وخذ بناصيته إلى البر والتقوى، اللهم إنا نسألك أن تصلح نياتنا وذرياتنا، وأن تجعلنا في بلادنا آمنين مطمئنين، آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور، سبحانك ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله .