المسجد والدور الاجتماعي

المسجد والدور الاجتماعي

المسجد والدور الاجتماعي

 

للمسجد منزلة عظيمة في الإسلام، فهو محراب للعبادة، ومدرسة للعلم، وندوة للأدب، وهو مصحة للأرواح، كما هو مشفى للأبدان، وقد جعل اللـه للمساجد قدراً ومكانة، وكفاها فخراً أن الله أضافها إليه إضافة تشريف يقول – جل وعلا – ميناً منزلتها عنده: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}1، فجعلها محلاً لعبادته وحده، والاعتراف بألوهيته وربوبيته، فلا يجوز الالتجاء والتوجه والدعاء إلا له – سبحانه وتعالى – فيها.

ومعلوم أن دور المسجد منذ أول وهلة عرف فيه النور لم يكن محصوراً على أداء العبادات فحسب، بل كان له – كما هو معروف تاريخياً – دور سياسي، وثقافي، واجتماعي، وتنظيمي، وقضائي،… إلخ.

وكان للمسجد عبر التاريخ الإسلامي أدوار عظيمة الشأن، بالغة التأثير في المجتمع الإسلامي، فكان البيتَ الجامعَ الذي يختلف إليه المسلمون للعبادة، ولتسيير شؤونهم العامة، ولتدبير أمور دنياهم، وهو في الوقت نفسه مؤسسةٌ تعليميةٌ وتثقيفيةٌ يفد إليها المسلمون لتعلّم القراءة والكتابة، والنهل من ميادين العلم والمعرفة، وإلى جانب الرسالة الروحية والتربوية والتعليمية للمسجد فقد قام بأدوار اجتماعية مهمة، وثقت الصلة بين المسجد وبين محيطه، يوم أن أحيا دوره في حلّ مشكلات المجتمع، وأعاد الاهتمام بالأدوار المختلفة التي كان يقوم بها مثل: إقامة المشاريع التي تسهم في تنمية المجتمع من تعليم الكبار، ومحو الأمية، وتبنّي مصحة للمتضررين، ومحل لعقد الزواج، وبناء دور للمشردين، وإنشاء صناديق للزكاة.

وهذا هو الأصل في المساجد أن تربي في أبناء الأمة الإسلامية روح الجماعة والاتحاد، وتدفع الجماعة المسلمة لتشكل للأمة مؤتمراً مصغراً لطرح مشاكلها، وإيجاد الحلول لها، وغير ذلك من الأدوار الفعالة، يقول محمد الغزالي – رحمه الله – في بيان قوله – تعالى -: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}2 فأتصور أن الرفع هنا ليس للدعائم والجدران، إنما هو للساحات الطَّهور التي تخصصت للركَّع السجود، فبعد أن كانت أرضًا عادية يغشاها أي إنسان؛ أضحت أرضًا لا يدخلها إلا متوضئ، وبعد أن كانت لأي غرض عادي أضحت همزة وصل بين الناس ورب الناس، ومهادًا للمعراج الروحي الذي ينقُل البشر من مآربهم القريبة إلى مناجاة الله وتسبيحه وتمجيده! أليس هذا ارتقاءً معنويًّا للأرض نفسها؟.

ولنا أن نستعرض من خلال هذه السطور الدور الاجتماعي الرائد الذي تبناه المسجد في عصوره الأولى من أول وهلة أسس فيه على التقوى فقد كان المسجد:

* دار إغاثة ورعاية اجتماعية:

فلقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – تأتيه الأموال وهو في المسجد فيقسمها على ذوي الحاجات، فإن لم تكن هناك أموال، وكان في الناس حاجة؛ دعا الأغنياء إلى البذل والإنفاق لإخوانهم المحتاجين، وقام بتوزيعها على الفقراء والمعوزين في المسجد3 فعن المنذر بن جرير عن أبيه قال: كنا عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في صدر النهار، قال: فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله – صلى الله عليه وسلم -؛ لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج فأمر بلال فأذن وأقام، فصلى ثم خطب فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} إلى آخر الآية {إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}4، والآية التي في الحشر {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}5 ((تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة)) قال: فجاء رجل من الأنصار بصرَّة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام، ورأيت وجه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يتهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شي))6.

بل كان المسجد يتبنى دور الاستقبال لهذه الأموال في عهده – صلى الله عليه وسلم -؛ لإيصالها إلى مستحقيها تحقيقاً لرسالة المسجد السامية التي لم تغفل حق أولئك المعدمين، فقد ورد عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: أُتِيَ النبي بِمَالٍ من الْبَحْرَيْنِ فقال: ((انْثُرُوهُ في الْمَسْجِدِ))، وكان أَكْثَرَ مَالٍ أُتِيَ بِهِ رسول اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -، فَخَرَجَ رسول اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – إلى الصَّلَاةِ ولم يَلْتَفِتْ إليه، فلما قَضَى الصَّلَاةَ جاء فَجَلَسَ إليه فما كان يَرَى أَحَدًا إلا أَعْطَاهُ… الحديث"7.

* المسجد دار الغريب:

فقد خصص النبي – صلى الله عليه وسلم – في مسجده مكاناً لإيواء الفقراء الذين ليس لهم مأوى ولا محلة يسكنون فيها عرفوا بأهل الصفة وهو: مكان مقتطع من المسجد، ومظلل عليه، كان يأوي إليه الغرباء والفقراء من الصحابة – رضي الله عنهم -، ويبيتون فيه، وكانوا يقلون ويكثرون، ويسمون أصحاب الصفة، وبلغ عددهم سبعين فرداً على رأسهم أبو هريرة – رضي الله عنه -، فجعل النبي – صلى الله عليه وسلم – يعطيهم من مال الصدقة، ويخصهم بعطايا أهل الفضل، يقول أبو هريرة – رضي الله عنه -: "مر بي أبو القاسم – صلى الله عليه وسلم – فتبسم حين رآني، وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال: ((يا أبا هر))، قلت: لبيك يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال:((الحق))، ومضى فاتبعته، فدخل فأستأذن فأذن لي، فدخل فوجد لبنا في قدح فقال: ((من أين هذا اللبن))؟ قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة قال: ((أبا هر)) قلت: لبيك يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – !!قال: ((الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي)) قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون على أهل، ولا مال، ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئاً، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها، وأشركهم فيها"8

ولقد كان يبنى للغريب مأوى بجوار المسجد سموه المضيفة، وأحدثوا كذلك دار الرباط لكل منقطع عن أهله، فيأوي إليها وتكون سكنه وداره.

* المسجد دار علاج وتطبيب:

اتخذ النبي – صلى الله عليه وسلم – من المسجد مكاناً لعلاج المرضى، ففي غزوة الخندق لما أصيب سعد بن معاذ – رضي الله عنه – ضرب النبي – صلى الله عليه وسلم – له خيمة في المسجد يعالج فيها ليعوده من قريب، وقامت على تطبيبه رفيدة الأسلمية.

ويتبين من هذا الأمر أيضاً مشاركة المرأة لجوانب العمل الاجتماعي دون خدش لحيائها، أو تفريط في دينها.9

* المسجد مكان لعقد الزواج:

فلقد سن المصطفى – صلى الله عليه وسلم – أن يعلن النكاح في المسجد، فعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: "أعلنوا النكاح، واجعلوه في المساجد، واضربوا عليه بالدفوف"10، ولعل الحكمة من استحباب جعله في المسجد ليشهد المسلمون هذه الفرحة، وتعيش هذه المساجد مع دورها الاجتماعي الرائد.11

قال أحمد: يستحب أن يظهر النكاح، ويضرب فيه بالدف، حتى يشتهر ويعرف.12

وهناك أدوار أخرى حققها المسجد في عصوره الأولى، فقد كان:

       دار قضاء وفض نزاع بين المتخاصمين.

       وتجده كذلك محلاً لاستقبال السفراء والوفود وهكذا.

تجد أن المسجد في صدر الإسلام وفي القرون التي تلته تولى خدمات عديدة، بالإضافة إلى تأدية الشعائر التعبدية، فكان يؤدي دور أرقى الجامعات من ناحية تخريج القادة المحنكين، والعلماء الأفذاذ، وأصحاب المهن والكفاءات، وكان يقوم بدور المشافي في معالجة المرضى والمعاقين، ويقوم بدور الجمعيات الخيرية لجمع التبرعات والصدقات للفقراء والمساكين، ويسعى لتكوين الأسرة المسلمة، وتربية الأطفال والنشء، كما يقوم برعاية الشؤون الاجتماعية من جميع النواحي، وكان بمثابة ملجأ وملاذ لمن لا مكان له ولا دار، فيجد فيه المسلم المطعم والمشرب، وهكذا أدى المسجد في القرن الأول والذي تلاه دوراً اجتماعياً مميزاً، لا تستطيع أن تقوم به في وقتنا الحاضر إلا جهات متخصصة، ومؤسسات عدة، لذلك فلا عجب أن يبدأ الرسول – صلى الله عليه وسلم – أولاً عند وصوله إلى (بني عمرو بن عوف) عند هجرته إلى المدينة ببناء مسجد قباء، وهو المسجد الذي أشار الله إليه – جلَّت قدرته، وتباركت أسماؤه – في قوله: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فيه فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}13.

فماذا بعد:

ماذا بعد أن عرفنا أن المسجد يعتبر قلب المجتمع المسلم، وشريان حياته الاجتماعية؛ إلا أن نتفطن لدوره المنشود، ونسعى جاهدين بكل ما أوتينا من قوة أن نعيد للمسجد رسالته السامية، ومكانته التي كان عليها في صدر الإسلام، ليعيش المسجد في عصورنا الدور الذي عاشه في عصور الرعيل الأول، فأهمية المسجد لا تقتصر على كونه مكاناً لأداء الصلوات، بل هو أهم مكان للمجتمع الإسلامي.

والله أسأل أن يوفقنا لأن نكون أهلاً لحملة دينه، ومشاعلاً لتبليغ رسالته.


1 سورة الجن (18).

2 سورة النور (36).

3 الدور التربوي والاجتماعي للمسجد ( 18).

4 سورة النساء (1).

5 سورة الحشر (18).

6 رواه مسلم برقم ( 1017).

7 رواه البخاري برقم (411).

8 رواه البخاري برقم (6087).

9 الدور التربوي والاجتماعي للمسجد (19).

10 رواه الترمذي (1009).

11 دور المسجد في إصلاح المجتمع (16).

12 المغني (7/ 63).

13 التوبة: (108).