فوائد قصة موسى والخضر

فوائد قصة موسى والخضر – عليهما السلام –

الحمد لله وحده، وأصلي وأسلم على من لا نبي بعده، أما بعد:

فإن أعظم الفوائد والدرر إنما تستقى من الآيات والسور، ففي كتاب الله من العلوم والفوائد الشيء المذهل

جميع العلم في القرآن لكن تقاصر عنه أفهام الرجال

ولنا أن نطلع على الفوائد العظيمة، والدرر الثمينة؛ المستفادة من قصة موسى والخضر – عليهما السلام -؛ بشتى أنواعها من أحكام وقواعد، وفوائد وفرائد، وتربويات، والتي منها:

فضيلة العلم، والرحلة في طلبه، وأنه الأمور المهمة: فإن موسى  رحل مسافة طويلة، ولقي النصب في طلبه، وترك القعود عند بني إسرائيل لتعليمهم وإرشادهم، واختار السفر لزيادة العلم على ذلك.

البدء بالأهم فالمهم، فإن زيادة العلم عند الإنسان أهم من ترك ذلك مع الاشتغال بالتعليم من دون تزود من العلم، والجمع بين الأمرين أكمل.

جواز أخذ الخادم في الحضر والسفر لكفاية المؤن، وطلب الراحة كما فعل موسى .

 أن المصلحة إذا اقتضت من المسافر لطلب علم أو جهاد أو نحوه؛ الإخبار بمطلبه، وأين يريده؛ فإنه أكمل من كتمه، فإن في إظهاره فوائد من الاستعداد له عدته، وإتيان الأمر على بصيرة، وإظهاراً لشرف هذه العبادة الجليلة كما قال موسى : لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا1، وكما أخبر النبي أصحابه حين غزا تبوك بوجهته مع أن عادته التورية، وذلك تبع للمصلحة.

 إضافة الشر وأسبابه إلى الشيطان على وجه التسويل والتزيين، وإن كان الكل بقضاء الله وقدره، لقول فتى موسى: وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ2.

 جواز إخبار الإنسان عما هو من مقتضى طبيعة النفس من نصب، أو جوع، أو عطش؛ إذا لم يكن على وجه التسخط وكان صدقاً لقول موسى : لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا3.

استحباب كون خادم الإنسان ذكياً فطناً كيِّساً ليتم له أمره الذي يريده.

استحباب إطعام الإنسان خادمه من مأكله، وأكلهما جميعاً؛ لأن ذلك هو ظاهر قوله – تعالى -: آتِنَا غَدَاءَنَا4 إضافة إلى الجميع أنه أكل هو وإياه جميعاً.

أن المعونة تنزل على العبد على حسب قيامه بالمأمور به، وأن الموافق لأمر الله – تعالى – يعان ما لا يعان غيره لقوله: لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً5، والإشارة إلى السفر المجاوز لمجمع البحرين، وأما الأول فلم يشتك منه التعب مع طوله؛ لأنه هو السفر على الحقيقة، وأما الأخير فالظاهر أنه بعض يوم؛ لأنهم فقدوا الحوت حين أووا إلى الصخرة، فالظاهر أنهم باتوا عندها، ثم ساروا من الغد؛ حتى إذا جاء وقت الغداء قال موسى  لفتاه: آتِنَا غَدَاءَنَا، فحينئذ تذكر أنه نسيه في الموضع الذي إليه منتهى قصده.

– بعض أهل العلم يقولون: بأن ذلك العبد الذي لقياه ليس نبياً بل عبداً صالحاً، لأنه وصفه بالعبودية، وذكر منَّة الله عليه بالرحمة والعلم، ولم يذكر رسالته ولا نبوته، ولو كان نبياً لذكر ذلك كما ذكره غيره، وأما قوله في آخر القصة: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي6 فإنه لا يدل على أنه نبي، وإنما يدل على الإلهام والتحديث كما يكون لغير الأنبياء كما قال – تعالى -: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ7، وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا8.

أن العلم الذي يُعلِّمه الله لعباده نوعان: علم مكتسب: يدركه العبد بجده واجتهاده، وعلم لدُنِّي: يهبه الله لمن يمنُّ عليه من عباده لقوله: وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا9.

التأدب مع المعلم، وخطاب المتعلم إياه ألطف خطاب لقول موسى : هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا10، فأخرج الكلام بصورة الملاطفة والمشاورة، وأنك هل تأذن لي في ذلك أم لا؟ وإقراره بأنه يتعلم منه، بخلاف ما عليه أهل الجفاء أو الكبر الذي لا يظهر للمعلم افتقارهم إلى علمه، بل يدعي أنه يتعاون هو وإياه، بل ربما ظن أنه يعلم معلمه وهو جاهل جداً، فالذل للمعلم، وإظهار الحاجة إلى تعليمه؛ من أنفع الأمور للمتعلم.

تواضع الفاضل للتعلم ممن دونه فإن موسى – بلا شك – أفضل من الخضر.

تعلم العالم الفاضل للعلم الذي لم يتمهر فيه ممن مَهَرَ فيه وإن كان دونه في العلم بدرجات كثيرة، فإن موسى  من أولي العزم من المرسلين، الذين منحهم الله وأعطاهم من العلم ما لم يعط سواهم، ولكن في هذا العلم الخاص كان عند الخضر ما ليس عند موسى  ، فلهذا حرص على التعلم منه، وعلى هذا فينبغي للفقيه المحدث إذا كان قاصراً في علم النحو، أو الصرف، أو نحوه من العلوم؛ أن يتعلمه ممن مَهَرَ فيه، وإن لم يكن محدثاً ولا فقيهاً.

إضافة العلم وغيره من الفضائل لله – تعالى -، والإقرار بذلك، وشكر الله عليها لقوله: تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ أي: مما علمك الله – تعالى -.

– أن العلم النافع هو العلم المرشد إلى الخير، فكل علم يكون فيه رشد وهداية لطرق الخير، وتحذير عن طريق الشر، أو وسيلة لذلك؛ فإنه من العلم النافع، وما سوى ذلك فإما أن يكون ضاراً، أو ليس فيه فائدة لقوله: أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا.

أن من ليس له قوة الصبر على صحبة العالم والعلم، وحسن الثبات على ذلك؛ يفوته بحسب عدم صبره كثير من العلم، فمن لا صبر له لا يدرك العلم، ومن استعمل الصبر ولازمه أدرك به كل أمر سعى فيه لقول الخضر  يعتذر من موسى  بذكر المانع لموسى  في الأخذ عنه: إنه لا يصبر معه.

أن السبب الكبير لحصول الصبر إحاطة الإنسان علماً وخبرة بذلك الأمر الذي أمر بالصبر عليه، وإلا فالذي لا يدريه، ولا يدري غايته، ولا نتيجته، ولا فائدته وثمرته؛ لن يكون عنده سبب للصبر لقوله: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا11، فجعل الموجب لعدم صبره هو عدم إحاطته خبراً بالأمر.

الأمر بالتأني والتثبت، وعدم المبادرة إلى الحكم على الشيء حتى يعرف ما يراد منه، وما هو المقصود.

تعليق الأمور المستقبلية التي من أفعال العباد بالمشيئة، وأن لا يقول الإنسان للشيء: إني فاعل ذلك في المستقبل إلا أن يقول: إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

أن العزم على فعل الشيء ليس بمنزلة فعله فإن موسى  قال: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا12، فوطَّن نفسه على الصبر ولم يفعل.

أن المعلم إذا رأى المصلحة في إيعازه للمتعلم أن يترك الابتداء في السؤال عن بعض الأشياء حتى يكون المعلم هو الذي يوقفه عليها؛ فإن المصلحة تتبع، كما إذا كان فهمه قاصراً، أو نهاه عن التدقيق في سؤال الأشياء التي غيرها أهم منها، أو لا يدركها ذهنه، أو يسأل سؤالاً لا يتعلق في موضع البحث.

جواز ركوب البحر في غير الحالة التي يخاف منها.

أن الناسي غير مؤاخذ بنسيانه لا في حق الله، ولا في حقوق العباد لقوله: لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ13.

أنه ينبغي للإنسان أن يأخذ من أخلاق الناس ومعاملاتهم العفو منها، وما سمحت به أنفسهم، ولا ينبغي له أن يكلفهم ما لا يطيقون، أو يشق عليهم ويرهقهم، فإن هذا مدعاة إلى النفور منه والسآمة، بل يأخذ المتيسر ليتيسر له الأمر.

أن الأمور تجري أحكامها على ظاهرها، وتعلق بها الأحكام الدنيوية في الأموال والدماء وغيرها، فإن موسى  أنكر على الخضر  خرقه السفينة، وقتل الغلام، وأن هذه الأمور ظاهرها أنها من المنكر، وموسى  لا يسعه السكوت عنها في غير هذه الحال التي صحب عليها الخضر، فاستعجل  ، وبادر إلى الحكم في حالتها العامة، ولم يلتفت إلى هذا العارض الذي يوجب عليه الصبر، وعدم المبادرة إلى الإنكار.

القاعدة الكبيرة الجليلة وهو أنه “يدفع الشر الكبير بارتكاب الشر الصغير”، ويراعي أكبر المصلحتين بتفويت أدناهما، فإن قتل الغلام شر، ولكن بقاءه حتى يفتن أبويه عن دينهما؛ أعظم شراً منه، وبقاء الغلام من دون قتل وعصمته؛ وإن كان يظنُّ أنه خير فالخير ببقاء دين أبويه، وإيمانهما خير من ذلك، فلذلك قتله الخضر ، وتحت هذه القاعدة من الفروع والفوائد ما لا يدخل تحت الحصر، فتزاحم المصالح والمفاسد كلها داخل في هذا.

القاعدة الكبيرة أيضاً وهي أن “عمل الإنسان في مال غيره إذا كان على وجه المصلحة وإزالة المفسدة؛ أنه يجوز، ولو بلا إذن حتى ولو ترتب على عمله إتلاف بعض مال الغير” كما خرق الخضر  السفينة لتعاب، فتسلم من غصب الملك الظالم، فعلى هذا لو وقع حرق، أو غرق أو نحوهما؛ في دار إنسان، أو ماله، وكان إتلاف بعض المال، أو هدم بعض الدار؛ فيه سلامة للباقي؛ جاز للإنسان بل شرع له ذلك حفظاً لمال الغير، وكذلك لو أراد ظالم أخذ مال الغير، ودفع إليه إنسان بعض المال افتداءً للباقي جاز، ولو من غير إذن.

أن العمل يجوز في البحر كما يجوز في البر لقوله – تعالى -: يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ14، ولم ينكر عليهم عملهم.

أن المسكين قد يكون له مال لا يبلغ كفايته، ولا يخرج بذلك عن اسم المسكنة، لأن الله أخبر أن هؤلاء المساكين لهم سفينة.

أن القتل من أكبر الذنوب لقول موسى  في قتل الغلام: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا15.

أن القتل قصاصاً غير منكر لقوله: بِغَيْرِ نَفْسٍ.

أن العبد الصالح يحفظه الله في نفسه، وفي ذريته.

أن خدمة الصالحين، أو من يتعلق بهم؛ أفضل من غيرها؛ لأنه علل استخراج كنزهما، وإقامة جدارهما؛ أن أباهما صالح.

– استعمال الأدب مع الله – تعالى – في الألفاظ، فإن الخضر  أضاف عيب السفينة إلى نفسه بقوله: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا16، وأما الخير فأضافه إلى الله – تعالى – لقوله: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ17، كما قال إبراهيم  : وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ18، وقالت الجن: وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا19، مع أن الكل بقضاء الله وقدره.

أنه ينبغي للصاحب أن لا يفارق صاحبه في حالة من الأحوال حتى يُعتبه، ويُعذَر منه كما فعل الخضر مع موسى .

أن موافقة الصاحب لصاحبه في غير الأمور المحذورة مدعاة وسبب لبقاء الصحبة وتأكدها، كما أن عدم الموافقة سبب لقطع المرافقة.

أن هذه القضايا التي أجراها الخضر  هي قدر محض أجراه الله  وجعلها على يد هذا العبد الصالح ليستدل العباد بذلك على ألطافه في أقضيته، وأنه يُقَدِّر على العبد أموراً يكرهها جداً وهي صلاح لدينه كما في قضية الغلام، أو هي صلاح دنياه كما في قضية السفينة، فأراهم نموذجاً من لطفه وكرمه ليعرفوا ويرضوا غاية الرضا بأقداره المكروهة.

وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.


1 الكهف (60).

2 الكهف (63).

3 الكهف (62).

4 الكهف (62).

5 الكهف (62).

6 الكهف (82).

7 القصص (7).

8 النحل (68).

9 الكهف (65).

10 الكهف (66).

11 الكهف (86).

12 الكهف (69).

13 الكهف (73).

14 الكهف (79).

15 الكهف (74).

16 الكهف (79).

17 الكهف (82).

18 الشعراء (80).

19 الجن (10).