الأحكام الفقهية الخاصة بالمسجد الأقصى (2)

الأحكام الفقهية الخاصة بالمسجد الأقصى (2)

الأحكام الفقهية الخاصة بالمسجد الأقصى (2)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله ثم أما بعد:

فإن المتبقي من جملة الأحكام الفقهية الخاصة بالمسجد الأقصى ما يلي:

أولاً: فضل الصلاة في المساجد الثلاثة لا يجزي عن الصلوات الفائتة:

ومما لا خلاف فيه بين الفقهاء أن فضل الصلاة في هذه المساجد إنما يرجع إلى ثوابها، ولا يتعدى ذلك إلى الإجزاء عن الفوائت من الصلوات، حتى لو كان على المسلم صلاتان فصلى في أحد هذه المساجد الثلاثة صلاة فإنها لا تجزئه عنهما.

ثانياً: فضل الصلاة المفروضة والنافلة اختلف الفقهاء في ذلك:

1. فذهب الشافعية والحنابلة وأبو المطرف من المالكية إلى أن ذلك يشمل الفرض والنفل1، والحجة لهذا: عموم قوله – صلى الله عليه وسلم – في فضل الصلاة في الأحاديث السابقة: ((والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة))، ولم يوجد ما يخصص عموم ذلك بالفرائض دون النوافل.

2. وذهب الحنفية والمالكية في المشهور عندهم إلى أن الفضل في الصلاة مختص بالفرائض فقط ولا يشمل النوافل لقوله – صلى الله عليه وسلم – ((أفضل صلاتكم في بيوتكم إلاّ المكتوبة))2، ويمكن أن يردّ على ذلك بأنه لا مانع من إبقاء الحديث على عمومه، فتكون صلاة النافلة في بيت بالمدينة المنورة، أو مكة المكرمة، أو بيت المقدس؛ تضاعف على صلاتها في البيت بغيرها، وكذا في المساجد الثلاثة، وإن كانت في البيوت أفضل مطلقاً.

ثالثاً: إعادة الجماعة في المسجد الأقصى المبارك:

أما إعادة الجماعة في المسجد الأقصى المبارك فقد اختلف فيها الفقهاء:

1. فذهب الحنابلة في قول3: إلى كراهة إعادة الجماعة في المسجد الأقصى المبارك لئلا يتوانى الناس عن حضور الجماعة مع الإمام الراتب فيها إذا أمكنتهم الصلاة في الجماعة مع غيره.

2. وذهب الحنابلة في قول آخر4: إلى جواز ذلك، والحجة لهذا ما روى أبو سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال: جاء رجل وقال قد صلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال – عليه السلام -: ((أيكم يتجر على هذا؟)) فقام رجل فصلى معه5، ويدل بعمومه على ذلك، ولم يرد ما يخصصه.

رابعاً: المكان الذي تضاعف فيه الصلاة:

فضيلة الصلاة تختص بجميع المساحة المسوّرة التي يقع في طرفها الجنوبي المسجد الأقصى المبارك، أي ما يطلق عليه اليوم "الحرم الشريف بالقدس" الذي يقع في داخل السور، وقد أشار إلى ذلك الإمام مقاتل6، ويؤيد ذلك أن النبي – صلى الله عليه وسلم – عند إسرائه وصلاته بالمسجد الأقصى لم يكن المسجد الأقصى المعروف الآن والواقع في الجهة الجنوبية من الحرم الشريف موجوداً، كما أن مسجد الصخرة المشرفة لم يكن موجوداً أيضاً، إنما الموجود المكان الذي أحيط به السور بما فيه من ساحات واسعة، والصخرة المشرفة التي أزال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – الزبالة عنها عندما فتح بيت المقدس، وهذا هو المراد بالمسجد الأقصى في قوله – تعالى -: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى …}؛ لأن المسجد شرعاً يطلق على كل موضوع من الأرض لقوله – صلى الله عليه وسلم – ((جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً…))7، ففي هذا المكان بني مكان للعبادة منذ عهد آدم – عليه الصلاة والسلام –8، وبذلك يتبين أن إطلاق المسجد الأقصى على المسجد المعروف الآن هو اصطلاح حادث بعد العهد الإسلامي الأول، وأن جميع المؤرخين والعلماء إنما أطلقوا المسجد الأقصى على ما دار عليه السور، وفيه الأبواب، وهو الذي كان معروفاً عند الإسراء والمعراج9.

خامساً: استحباب المجاورة ببيت المقدس:

ولهذه الفضيلة للعبادة في المسجد الأقصى المبارك استحب الفقهاء المجاورة بالمسجد الأقصى المبارك، والسكنى في بيت المقدس10، وكان المسلمون وما زالوا يتسابقون إلى الصلاة فيه من جميع بقاع الأرض طمعاً في رضا الله – تعالى- ومثوبته دون أن يضع الواحد منهم نصب عينيه رقماً معيناً لمقدار فضيلة الصلاة فيه، لأن الله – تعالى- يضاعف الحسنة الواحدة أضعافاً مضاعفة، ولا يقف بالأجر والثواب عند رقم معين، ولأن العدد لا مفهوم له كما هو مقرّر في أصول الفقه، وإنما المقصود أن الأجر فيها عظيم والثواب فيه كبير والله أعلم.

ولهذا فإننا نجد أنه منذ الفتح العُمري لبيت المقدس قد توافد عليه عدد كبير من الصحابة11 للمجاورة به، وقد عرفت القدس تسعة وثلاثين من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لهم علاقة بها، منهم سبعة دفنوا في أرضها، وهم: عبادة بن الصامت12، وشداد بن أوس الخزرجى13، وذو الأصابع التميمي ويقال: الخزاعي14، وواثلة بن الأسقع بن كعب بن عامر15، وسلامة بن قيس الحضرمي16، وأبو عبدالله عمرو بن أم حرام الأنصاري الخزرجى17، وشمعون بن زيد بن خناقة، أبو ريحانة الأزدي18.

كما عرفت القدس أسماء اثنين وستين تابعياً جليلاً، ومن جاء بعدهم من العلماء والفقهاء، والمحدثين والمفسرين، وقد أورد صاحب الأنس الجليل19 أسماء 440 عالماً وقاضياً ومؤلفاً عاشوا في ظلال المسجد الأقصى المبارك، وذلك في فترة الفتح الصلاحي.

سادساً: مضاعفة الحسنات والسيئات في المسجد الأقصى:

1- ذهب جماعة من السلف إلى أن الحسنات والسيئات تتضاعف في المسجد الأقصى المبارك كما تتضاعف في المسجد الحرام والمسجد النبوي20، روي ذلك عن ابن عمر – رضي الله عنهما – وكعب الأحبار، ومجاهد وعبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهم – 21، والحجة لهذا:

أ- ما روى أبو بكر الو اسطي عن نافع قال: قال لي ابن عمر – رضي الله عنهما -: "أخرج بنا من هذا المسجد فإن السيئات تضاعف فيه كما تضاعف الحسنات"22.

وعلى هذا يقتضي من المسلم أن يكون على حذر في هذه البقعة المباركة فلا يعمل السيئات لأنها تضاعف فيه أي تزداد فحشاً وقبحاً فتصبح السيئة مضاعفة، لأن العاصي في زمان أو مكان شريف أشد جرأة وأقل خوفاً من الله – تعالى -.

‌ب- وما ورد عن كعب الأحبار أنه كان يأتي من حمص للصلاة في المسجد الأقصى، فإذا صار منه قدر ميل اشتغل بالذكر والدعاء، والتلاوة والعبادة، حتى يخرج عنه بقدر ميل أيضاً، ويقول: "السيئات تضاعف فيه"23.

2- وذهب جمهور الفقهاء إلى أن السيئات لا تضاعف، وأنها بمكّة، أو بالأقصى، أو بالمسجد النبوي كغيره24، لعموم قوله – تعالى -: {ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلاّ مثلها وهم لا يظلمون}25.

وبذلك يكون معنى مضاعفة السيئات؛ أن عقوبة من اقترف ذنباً في أحد المساجد الثلاثة أعظم عقوبة ممن اقترفه في غيرها؛ لشرف هذه المساجد الثلاثة وفضلها، والذنب الواحد في أحد هذه المساجد الثلاثة أعظم من ذنوب كثيرة في غيرها من المواضع، وهذا لا يعني أن الإنسان إذا عمل ذنباً واحداً تكتب عليه عشرة ذنوب26 والله – تعالى- يقول: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلاّ مثلها وهم لا يظلمون}.

اللهم فقهنا في الدين، وعلمنا التأويل، ويسرلنا، وارزقنا.

والحمد لله رب العالمين.

 


 


1 النووي (الإيضاح، ص 395-396) وابن عابدين( الحاشية، ج2، ص 525).

2 رواه الترمذي برقم ( 450) وقال: حديث حسن.

3 ابن قدامه (المغني، ج2، ص 14).

4 المرجع السابق (ج2، ص 15).

5 رواه الترمذي برقم (220) وقال: حديث حسن، وأبو داود برقم (574) .

6 النابلسي، الحضرة الإنسية (ج1، ص 326 و ص 376).

7 رواه البخاري برقم (335).

8 النابلسي، الحضرة الإنسية (ج1، ص 89).

9 السائح (مكانة القدس، ص 31، شراب، بيت المقدس وما حوله: ص 89).

10 محمود إبراهيم (فضائل بيت المقدس ص 523)، وابن الجوزي (فضائل القدس، ص 93-95).

11 مجير الدين الأنس الجليل (ج1، ص 260).

12 الزركشي (إعلام الساجد، 202) وابن حجر (تهذيب التهذيب، 5/98).

13 مجير الدين (الأنس، 1/261) والمقدسي (مثير الغرام ، ص 25).

14 أسد الغابة (2/138)، وابن الجوزي (فضائل بيت المقدس ص 130).

15 المزي (تهذيب الكمال، 30/359).

16 ابن حجر (تهذيب التهذيب 12/5).

17 السيوطي (إتحاف الإحصا، القسم الثاني ص 201).

18 المزي (تهذيب الكمال 12/562).

19 ابن تميم المقدسي (مثير الغرام، ص 30).

20 الزركشي (إعلام الساجد، 204)، الجراعي (تحفة الراكع، ص 188).

21 – تفسير القرطبي (12/25).

22 ابن الجوزي (فضائل القدس، 91)، والمقدسي (مثير الغرام ص 205).

23 الزركشي (إعلام الساجد ص 204)، وابن الجوزي (فضائل القدس : 92).

24 ابن الجوزي (فضائل القدس ص 92).

25 – (الأنعام:160).

26 المقدسي (مثير الغرام، ص 206).