ماذا بعد حفظ كتاب الله؟

ماذا بعد حفظ كتاب الله؟

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

لم تظفر الدنيا كلها بكتاب أجمع للخير كله، وأهدى للتي هي أقوم، وأوفى بما يُسْعد الإنسانية؛ من هذا القرآن المجيد الذي فتح الله به أعيناً عمياً، وآذاناً صمّاً، وقلوباً غلفاً، وضمن للإنسانية الأمن والسعادة في دنياهم وأخراهم؛ إذا هم آمنوا به، وتلوه حقَّ تلاوته، وتفهموا سوره وآياته، وتفقهوا جمله وكلماته، ووقفوا عند حدوده، وَأْتمروا بأوامره، وانتهوا بنواهيه، وتخلقوا بأخلاقه، وطبقوا مبادئه، ومُثُله، وقيمه على أنفسهم، وأهليهم، ومجتمعاتهم. وقد ورد في فضل حفظ القرآن الكريم كثيراً من النصوص الشرعية التي تحث على تعلم القرآن فعن عثمان بن عفان – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله : ((خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ))1، وعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: قال رسول الله : ((مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَمَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ، وَهُوَ يَتَعَاهَدُهُ، وَهُوَ عَلَيْهِ شَدِيدٌ؛ فَلَهُ أَجْرَانِ))2، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – عن النبي  قال: ((ٍيُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ اقْرَأْ، وَارْتَقِ، وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُ بِهَا))3.

ولما كان هذا فضل حفظ وتلاوة القرآن العظيم فإني أحببت أن أضع بين يدي إخواني الحفاظ لكتاب الله – تعالى – جملة يسيرة من الوصايا، فأقول مستعيناً بالله:

أولاً: كثرة المراجعة: فلا يدفعك الفرح بختمك أو بحفظك عن أن تتمكن، وتراجع، وتديم هذه المراجعة في أول الأمر خاصة؛ لأن القرآن سريع التفلّت، ففي البداية، وعند أول الختم؛ راجع ما استطعت أن تراجع، ولو أن تختم في ثلاث، وهذا هو الحد الأقصى لختم المصحف، ولا يفقه من قرأ في أقل من ثلاث، ولو استطعت أن تختم في كل ثلاث فإن ذلك مطلوب منك.

ثانياً: دوام التلاوة: كما في حديث النبي – عليه الصلاة والسلام – الذي رواه أبو موسى – رضي الله عنه -: ((تَعَاهَدُوا الْقُرْآنَ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّياً مِنْ الْإِبِلِ فِي عُقُلِهَا))4، وفي حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – أن النبي  قَالَ: ((إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ؛ إِنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ))5، ولذلك لا بد من المداومة على التلاوة بالليل والنهار، والحل والترحال، في الصلاة، وفي خارج الصلاة، وقد كان النبي  يذكر الله في كل أحيانه فعَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها – قَالَتْ: ((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ  يَذْكُرُ اللَّهَ – عَزَّ وَجَلَّ – عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ))6، وعن علي – رضي الله عنه -: ((كان النبي  لا يحجبه عن قراءة القرآن شيء ما خلا الجنابة))7، وعن مَيْمُونَة – رضي الله عنها َ- قَالَتْ: ((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ  يَضَعُ رَأْسَهُ فِي حِجْرِ إِحْدَانَا فَيَتْلُو الْقُرْآنَ وَهِيَ حَائِضٌ، وَتَقُومُ إِحْدَانَا بِخُمْرَتِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ فَتَبْسُطُهَا وَهِيَ حَائِضٌ))8.

قال الإمام النووي – رحمه الله -: “ينبغي أن يحافظ على تلاوته، ويكثر منها، وكان السلف – رضي الله عنهم – لهم عادات مختلفة في قدر ما يختمون فيه، فروى ابن أبي داود عن بعض السلف – رضي الله عنهم – أنهم كانوا يختمون في كل شهرين ختمة واحدة، وعن بعضهم في كل شهر ختمة، وعن بعضهم في كل عشر ليال ختمة، وعن بعضهم في كل ثمان ليال، وعن الأكثرين في كل سبع ليال، وعن بعضهم في كل ست، وعن بعضهم في كل خمس، وعن بعضهم في كل أربع، وعن كثيرين في كل ثلاث، وعن بعضهم في كل ليلتين، وختم بعضهم في كل يوم وليلة ختمة، ومنهم من كان يختم في كل يوم وليلة ختمتين، ومنهم من كان يختم ثلاثاً، وختم بعضهم ثمان ختمات أربعاً بالليل، وأربعاً بالنهار، فمن الذين كانوا يختمون ختمة في الليل واليوم عثمان بن عفان – رضي الله عنه -، وتميم الداري، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والشافعي وآخرون”9.

ثالثاً: إتقان التجويد: فلئن طُلب ذلك من الطالب فإنه من الحافظ آكد وألزم، فإن الحافظ يُعدّ في رتبة من يكون مدرساً ومحفظاً، فلابد أن يعنى بالتجويد، وبعض الناس يظن أن التجويد لا أهمية له!! وهو – كما نعلم – فرض كفاية، لكن كل أحد في اختصاصه مطلوب منه دواعي ومؤهلات ذلك الاختصاص، فالحافظ لا شك أنه يلزمه تعلم التجويد وإتقانه بصورة أكبر من غيره، ولذلك ينبغي له أن يتقن التجويد إتقاناً جيداً، وأن يحفظ في ذلك متناً كالجزرية أو غيرها، وأن يقرأ ويضبط شرح هذا المتن لكي يلمّ بالتجويد، وأن يختم ختمة كاملة على شيخ متقن مُجاز حتى يجاز، ويمكنه أن يجيز غيره في هذه الرواية، فالقرآن إنما هو بالتلقي، والقراءة التي يقرأ بها بعضنا جيدة، لكن الحافظ ينبغي له أن يقرأ على الشيخ حتى يتصل سنده، ويكمل – بإذن الله عز وجل – المطلوب منه في هذا الشأن.

رابعاً: تعليم القرآن بعد تعلمه وإتقانه: فإن هذا من أعظم أسباب العون على دوام التلاوة، والتمكن من إتقان القرآن وتجويده.

خامساً: الاستزادة من القرآن: فإذا حفظ ينبغي له أن يجوّد، وإذا جوّد طلب الإجازة في روايته، فإذا وجد في نفسه مكنة انتقل ليجمع القراءات السبع أو العشر، أو يجمعها من طرقها المتعددة إذا استطاع؛ لأن هذا – كما قلت – يرتبط بالقرآن، وما مضى من القدر، والمنزلة، والشرف، إضافة إلى القيام بوصية رسول الله ، وأن تكون سبباً من أسباب حفظ القرآن بكل قراءاته وحروفه التي نزل بها، والتي بلغها صحابة رسول الله .

سادساً: أن يفرح بنعمة الله – عز وجل – فرحاً مشروعاً، فلئن فرح الناس إذا تخرجوا من الجامعات، أو إذا أخذوا الدكتوراه؛ فإن التخرج من حفظ القرآن أعظم وأشرف {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ }10، جاء في بعض التفاسير أن ذلك الفرح إنما هو الفرح بكتاب الله – عز وجل -.

نسأل الله العلي القدير أن يجعل القرآن العظيم شافعاً لنا، وحجة لنا لا حجة علينا، والحمد لله رب العالمين.


1 أخرجه الإمام البخاري (5027).

2 أخرجه الإمام البخاري (4937)، ومسلم (798) واللفظ للبخاري.

3 أخرجه الإمام الترمذي (2914)، وانظر السلسلة الصحيحة (5/281) برقم (2240).

4 أخرجه الإمام البخاري (5033).

5 أخرجه الإمام البخاري (5031)، ومسلم (789).

6 أخرجه الإمام أحمد (23889)، وصححه الألباني في الجامع الصغير وزيادته (1/908) برقم (9074).

7 موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان (1/74).

8 سنن النسائي بشرح السيوطي (1/210) برقم (383)، وحسنه الألباني أنظر صحيح سنن النسائي  (1/417) برقم (273).

9 التبيان في آداب حملة القرآن (1/59).

10 سورة يونس (58).