كتاب النبي إلى المقوقس

كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم-

كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المقوقس

الحمد لله القائل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(108) سورة يوسف، والقائل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}(107) سورة الأنبياء. والصلاة والسلام على النبي الكريم القائل: (وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً)1، وعلى آله وصحبه الدعاة الهداة، الساعين في فجاج الأرض لإعلاء كلمة الحق، وإنارة أرجائها بنور الإسلام. أما بعد:

فمن ضمن رسائل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى القادة والملوك، ومكاتباته إلى الزعماء في الأقطار ما بعثه عليه الصلاة والسلام إلى المقوقس ملك القبط واسمه جريج بن ميناء ملك الإسكندرية  يدعوه إلى الإسلام، وقد صرح فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- بأهم مقاصده في كتابه من الدعوة إلى الله وتوحيد وعدم الإشراك به واتخاذ الأرباب من دونه، وتثبيت ركائز التوحيد، كما جاء في كتابه إليه ما نصه:

بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام: أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم القبط {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}(64) سورة آل عمران.

وبعث به مع حاطب بن أبي بلتعة، قال حاطب -رضي الله عنه-: فأتيته فحييته بكتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأنزلني في منزله وأقمت عنده ثم بعث إليَّ وقد جمع بطارقته، وقال: إني سأكلمك بكلام وأحب أن يفهمه مني، قلت: هلمَّ قال: أخبرني عن صاحبك أليس هو نبياً؟ قال حاطب: بل هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ما باله لم يدعُ على قومه حيث أخرجوه من مكة؟ قال حاطب: فقلت له: أفتشهد أن عيسى ابن مريم رسول الله حيث أراد قومه قتله؟ لم يدعُ عليهم حتى رفعه الله تعالى إليه، فقال له: أحسنت، إنك حكيم جئت من عند حكيم2.

وقال له حاطب: إنه كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، فانتقم به ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك ولا يعتبر غيرك بك. فقال: إن لنا دينًا لن ندعه إلا لما هو خير منه، فقال حاطب ندعوك إلى دين الله، وهو الإسلام الكافي به الله فَقْدَ ما سواه، إن هذا النبي دعا الناس فكان أشدهم عليه قريش، وأعداهم له اليهود، وأقربهم منه النصارى، ولعمري ما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، وكل نبي أدرك قوماً فهم من أمته، فالحق عليهم أن يطيعوه، وأنت ممن أدركه هذا النبي، ولسنا ننهاك عن دين المسيح ولكنا نأمرك به. فقال المقوقس : إني قد نظرت في أمر هذا النبي فوجدته لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى عن مرغوب فيه، ولم أجده بالساحر الضالِّ، ولا الكاهن الكاذب، ووجدت معه آية النبوة بإخراج الخبء والإخبار بالنجوى، وسأنظر3.

ولما قرأ كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعطى لحاطب مائة دينار، وخمسة أثواب، وأكرمه في الضيافة، وأقام عنده خمسة أيام4، وقال له: القبط لا يطاوعوني في اتباعه، ولا أحب أن تعلم بمحاورتي إياك، وأنا أضمن بملكي أن أفارقه، وسيظهر على البلاد وينزل بساحتنا هذه أصحابه من بعده، حتى تظهر على من هاهنا، فارجع إلى صاحبك فقد أمرت له بهدايا وجاريتين أختين، وبغلة من مراكبي وألف مثقال ذهبًا وعشرين ثوباً وغير ذلك، فارحل من عندي ولا تسمع منك القبط حرفًا واحد5.

وأخَذَ كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فجعله في حُقٍّ من عاجٍ وختم عليه ودفعه إلى جارية له، ثم دعا كاتبًا له يكتب بالعربية، فكتب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: بسم الله الرحمن الرحيم لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط سلامٌ عليك، أما بعد: فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيًا بقي، وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم، وبكسوة، وأهديت إليك بغلة لتركبها، والسلام عليك. ولم يزد على هذا، ولم يُسْلم6.

وليس هذا هو المراد من إرسال الكتاب إليه وخطاب حاطب -رضي الله عنه- معه، وإذا كان الهدف من الإرسال أن يرسل بهدية، أو يهب جارية لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن لسان حال النبي محمد -عليه الصلاة والسلام- كما قال أخوه سليمان -عليه الصلاة والسلام-: {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ}(36) سورة النمل، ولم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- ليقبل هديته لولا أنه جازى ما صنع مع حاطب رضي الله عنه من إكرام وحسن قرى.

ويكفي من كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المقوقس أن بلغت الحجة إليه، وأقيمت عليه، وعليه إثم من وراءه من القبط؛ حيث لم يسلم ولم يرشد قومه إلى الخير إن ضن هو بهدايته على نفسه، {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ}(25) سورة النحل، وما حمله على ما صنع سوى حبه للملك، ورغبته في السيادة جهلاً منه بسيادة الإسلام، وقيادة سيد الأنام، ولو لم يكن إلا خوفه من ثورة الرعية عليه حائلاً دون الإسلام ومانعاً يصده عن سبيل الهدى لكان وصفه بالسفه وضعف العقل كافياً؛ إذ لم يعرف منافعه، ولم يدرك حقيقة ما سمعه.

والقصة بجملتها تحمل لنا جماً من الفوائد والعبر في المجال الدعوي، والهدي النبوي بما فيه من الأسوة الحسنة في سائر مجالات الحياة، ولنا معها جولة نعرِّج بها على نزر يسير من جوانب القصة من الفوائد التي ييسر الله استنباطها، ويسهل المرور عليها، ومن تلك:

o       استحباب ابتداء الكلام بـ بسم الله الرحمن الرحيم في الكتب والمراسلات وغيرها.

o       حسن الديباجة وبراعة التقديم في كلام النبي -صلى الله عليه وسلم-.

o   تسمية الملوك بأسمائهم وألقابهم التي عرفوا بها، وليس بها خلل شرعي، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إلى المقوقس عظيم القبط).

o       التحية على غير المسلمين بقول: سلام على من اتبع الهدى.

o   وضوح الدعوة وصدق العبارة وصراحة اللفظ، وترك الإجمال والإيهام، وترك المعنى تبعاً للمفهوم لأنه قد لا تقام الحجة التامة عليه، وقد جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- مراد كلامه واضحاً بمنطوقه ومفهومه.

o   من الحرص على الاستجابة أن تبرز الأجور والمثوبة ظاهرة للمدعو علَّها تكون عامل جذب ولين قلب لقبول الحق.

o   ومن الحرص أيضاً إبراز الوعيد وعواقب النكوص لمن استنكف واستكبر، على أن هذا حكم الله في كل من رد كلامه وصد نفسه عنه.

o       العلم بحال المدعو وما ينبغي أن يبدأ به في دعوته، وما يوافق حاله.

o       الحكمة في اختيار الرسول حيث كان اختيار النبي -صلى الله عليه وسلم- لحاطب منبعثاً من حكمة.

o   أهمية العلم والحكمة كما ظهر في لباقة حاطب -رضي الله عنه- وحسن خطابه مع المقوقس، ومعالجة أهم القضايا المتعلقة بالنصارى، وجودة الحوار والاستدلال.

o       جواز قبول الهدية من أهل الكتاب إذا لم يكن من قبولها مداهنة أو تنازلات عن قضايا الدين.

o   غالب أهل المناصب والحكم لا يتبعون الحق تخوفاً على مناصبهم ومراكزهم القيادية، إذ باتباعهم ما يخالف مألوف الناس يؤدي إلى غضب الناس عليهم. ولهذا قل أن تجد كافراً ترك منصبه وأسلم.

وإلى غير ذلك من الفوائد التي تظهر لكل من لمح بطرف التأمل جوانب القصة، فحياة النبي -صلى الله عليه وسلم- مليئة بالعبر والفوائد.


 


1 صحيح البخاري: (419).

2 سبل الهدى والرشاد للصاحبي الشامي: (11/348).

3 زاد المعاد لابن القيم: (3/600).

4 سبل الهدى والرشاد للصاحبي الشامي: (11/348).

5 عيون الأثر لابن سيد الناس: (2/332).

6 زاد المعاد لابن القيم: (3/600).