الضوابط الشرعية في نقل الأخبار

الضوابط الشرعية في نقل الأخبار

الضوابط الشرعية في نقل الأخبار  الشيخ محمد صالح المنجد

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد :-

فإن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان، وأنعم عليه نعماً، {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}(الإسراء: من الآية36) . وجعله محاسباً بهذا على حواسه التي أتاه إياها ، وفي العالم اليوم يتعامل الناس بحواسهم مع ما حولهم من الأحداث والأخبار، وقد صار لهذه الأخبار وقعٌ كبير في النفوس، لما حصل من تطور هذه الوسائل التي تنقلها ، وصار الخبر ينتشر مشافهةً ، وكتابةً ، وبوسائل عظيمة من هاتف وجريدة ومجلة وإذاعة وتلفاز وشريط مسجل، وشبكة نسيج، تمتد خطوطها في أنحاء العالم ، ومواقع خاصة بهذا ، وقنوات له كذلك ، فصار للأخبار من السحر والأثر والمكانة بين الناس ما صار، وصار يُنفق في إعدادها، والتخصص بها، والتقارير من أجلها، والشاشات ثلاثية الأبعاد التي تجعل المشاهد كأنه يعيش وسط الحدث، واحتف بهذا من المزينات والمؤثرات، وسحر الإعلام ما يجعل المشاهد يأخذ كل ما يسمع، {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ}(المنافقون: من الآية4). وقد خشي النبي – صلى الله عليه وسلم –  على هذه الأمة من تأثير عليم اللسان، والنفس تحب معرفة ما غاب عنها، وتكون متلهفة لعامل الإثارة الموجود في الأخبار ، من التتابع والتنوع والجلب من جميع أنحاء العالم، وقد أدرك أعداؤنا جيداً هذه الصنعة، وعملوا بها واحترفوها، واستعملوا في حرب المسلمين من أنواع المؤثرات ما استعملوا، ومن ذلك الكذب في هذه الأخبار، حتى صارت لعبة لهم، وحرب دعائية يشنونها، وقد قال عليه الصلاة والسلام  ((إياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار)) ، وقال عليه الصلاة والسلام  في حديث البرزخ ((فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفَاهُ وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِكَلُّوبٍ مِنْ حَدِيدٍ، وَإِذَا هُوَ يَأْتِي أَحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ فَيَشُقُّ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَمَنْخِرَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْجَانِبِ الْأَوَّلِ، فَمَا يَفْرُغُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ حَتَّى يَصِحَّ ذَلِكَ الْجَانِبُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمَرَّةَ الْأُولَى. قَالَ: قُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ ، مَا هَذَانِ؟ قَالا: هذا الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ فَيَكْذِبُ الْكَذْبَةَ تَبْلُغُ الْآفَاقَ فَيُصْنَعُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)) رواه البخاري . فهذا الذي يكذب الكذبة تبلغ الآفاق، والآخر الملك الذي يتولى تعذيبه في البرزخ حتى يبعث الله الناس يوم القيامة ليكون الجزاء الأشمل والأعم والأدوم.

وكثيرٌ من المراسلين وصانعي الأخبار ينطبق عليهم ما ورد في هذا الحديث، وبعضهم ينطبق عليه حديث الكاهن، الذي يتلقف الخبر من الشيطان، فيكذب معه مائة كذبة، ومن أنواع المنكرات فيها تزييف الحقائق وقلبها، هذا الذي يأتي بخبر الميت حياً،  والحي ميتاً، وكم من خبر شاع بين الناس ولاكته أنفسهم ومصدره أفاك أثيم، يُزخرف الخبر، أو يجعل فيه إضافات من المكر، وقد قال الله : {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ}(ابراهيم: من الآية46) . تأثير وشراء ذمم، وهكذا إخطبوط رهيبٌ في العالم، يجري بشراء ما يلزم، وكذلك تسريبات وتضليلٌ وتخطيطٌ وتضليلٌ مضاد، وهكذا يُجتزئ خبر هنا، ويبتر هناك ، وينتقى هنا، وتترك تفصيلات أخرى مهمة، ذكر بعض الحقائق وإخفاء أخرى، إبراز لبعض الجوانب وكتم لأخرى، تركيز وتسليط الضوء على شيء وإهمال الآخر، واستخدام الصورة صار اليوم واضحاً جداً في الخبر وتأثيره، وكذلك تغيير التوجهات والقناعات، والصورة قد تكون ناقصة لهوى معين عند صانعي الأخبار، على مذهب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ }(النساء: من الآية43). ثم يسكتون عن ذلك، ولذلك يوجد لدى القوم غُرف لغسيل الخبر، والتزوير والتلفيق، وأيضاً فإن كثرة الأوهام والأخطاء في نقل بعض الأخبار عند بعض الناس، هذا يثبت وهذا ينفي وهذا يؤكد وهذا يشكك، ويحصل التضارب وتتزاحم الأكاذيب، ويحدث التحوير والتغيير والزيادة والنقصان، حتى يصبح الخبر ككرة ثلج تتدحرج، وهذا ما يشيع بين الناس أموراً لا حقائق لها، أو أصلها صحيح لكنها مبتورة أو مغيرة، قال الحسن البصري – رحمه الله – : خرج عندنا رجل بالبصرة، فقال: لأكذبن كذبه يتحدث بها الوليد !!، قال الرجل: فما رجعت إلى منزلي ( أي هذا الكذاب ) حتّى ظننت أنها حق لكثرة ما رأيت الناس يتحدثون بها. 

ثم هناك انحياز في تحليل الخبر، وتحليل مبطّن، وتعليقات على الحدث، قال ابن القيم – رحمه الله – : وكل أهل نحلة ومقالة يكسون نحلتهم ومقالتهم أحسن ما يقدرون عليه من الألفاظ، ومقالة مخالفيهم أقبح ما يقدرون عليه من الألفاظ، ومن رزقه الله بصيرة فهو يكشف به حقيقة ما تحت تلك الألفاظ من الحق والباطل.

وقد عبّر بعضهم عن العسل بالتعبير الذي يجذب أو ينفر

تقول هذا جناءُ النحل تمدحه … وإن تشأ قلت: ذا قيء الزنابير

مدحا وذما وما جاوزت وصفهما … والحق قد يعتريه سوء تعبير

فهذا عبّر عن العسل بجنى النحل، وآخر عبّر عن العسل بقيء الزنابير، وهذه كلمة الزنابير وما يعني جرسها في النفس والقيء، وما تعني هذه الكلمة في النفس تفيد تنفيراً ، وجنى والنحل من الكلمات المحبوبة في النفس.

نظروا بعين عداوة لو أنها           عين الرضا لاستحسنوا ما استقبحوا

وقال الآخر :

وعين الرضا عن كل عيب كليلة       كما أن عين السخط تبدي المساويا

قال ابن القيم – رحمه الله – : والكلمة الواحدة يقولها اثنان يريد بها أحدهما أعظم الباطل، ويريد بها الآخر محض الحق، والاعتبار بطريقة القائل (أي ما هو المؤثر والمفرّق) وسيرته ومذهبه وما يدعو إليه ويناظر عليه.

وقديماً قالوا : وما آفة الأخبار إلا رواتها، فهم يفسرونها على ما يهوونه، قال السبكي – رحمه الله – :" كثيرا ما رأيت من يسمع لفظة فيفهمها على غير وجهها.

واليهود أعداؤنا يسيطرون اليوم على كثير من الوكالات والقنوات ومصانع الأخبار والإعلام، من عندهم يبدأ الخبر، فهم مصدره، وهم مصنعه، وهم مروجوه، لما أدركوا أثره عمدوا إلى هذه المصانع والمعامل، وإلى وسائل النشر، وإلى هذه الأمور الحديثة التي تؤثر في النفس جداً، وبعضهم يريد أن تروى الأخبار بغير انحياز مطلقاً، وبكل حيادية لدرجة المساواة بين أهل الحق وأهل الباطل، فلو وصفت معركة أحد فقلت فيها حمزة – رضي الله عنه – ، وأبو جهل – لعنه الله- لقال لك هذا انحياز، ولا يجوز عنده أن تقول جيش المسلمين وجيش الكفار، بل ينبغي أن تقول : الفريق الأول والفريق الثاني، فأين إذاً أثر الدين الذي أنزله الله، أين أثره في النفوس وفي الواقع؟، وهل يقاس صاحب الحق على صاحب الباطل، وإذا طالبنا أهل الباطل بعدم التلاعب بالأخبار، والحيادية فيها وعدم الانحياز، فهل يعني ذلك أن يعامل الحق كما يعامل الباطل؟.

 ومن الأمور التي تسبب انتشار هذا الباطل في الأخبار، السعي والتلهف لما يسمى بالسبق الصحفي، لنشر الخبر، وليكون هو أول من أذاعه، وهذا ينافي التأني والتثبت، وقد قال عليه الصلاة والسلام  : ((التأني من الله، والعجلة من الشيطان)) .

قد يدرك المتأني بعض حاجته         وقد يكون مع المستعجل الزلل

عباد الله، إنه لابد شرعاً النظر في حال ناقلي الأخبار من حيث العدالة والفسق، خصوصاً عندما لا يكون للخبر إلا مصدر واحد، إما الخبر المتواتر، المستفيض والمشهور، والذي تناقله الجماعات والفئام من الناس، بحيث يستحيل تواطئهم على الكذب، وليس مصدرهم واحداً، وإنما كل واحد منهم مصدر، فهذا يعلم أنه حدث بلا ريب، وأما ما كانت المصادر فيه محدودة فلا بد من معرفة عدالة ناقليه، وكل من كذب على رسول الله – صلى الله عليه وسلم –  فهو وليّ للشيطان، ولذلك طبّق العلماء قواعد الجرح والتعديل في هذه الأخبار التي تنقل عن النبي – صلى الله عليه وسلم – ، وكان لهم في الرواة شروط، من الفطنة والتيقظ والحفظ والتثبت والصدق والأمانة، فلا يكون خبر الراوي عند أهل العلم مقبولاً إلا إذا كان عند الراوي درجة من الصدق والأمانة أولاً، والحفظ والتثبت ثانياً، والفطنة والتيقظ ثالثاً، بحيث لا يغر ولا يخدع، ولذلك عرفوا الخبر الصحيح والحسن من جهة، وكذلك الضعيف والواهي والمكذوب من جهة، وليس عندهم كل صالح في نفسه صالحاً لأخذ الخبر عنه .

قال مالك – رحمه الله – : ( إن من شيوخي من أطلب منه الدعاء، ولا أقبل روايته). لماذا ؟ لأنه ليس من أهل هذه الصناعة – صناعة الحديث – ، وليس عنده من التيقظ والتفطن ما يجعله أهلاً لنقل الحديث.

 وهنالك أخبار يقصد من نشرها التشويش والتحريش، وإثارة النزاعات، وكثيراً ما تؤدي إلى أزمات واقتتالات، ومسابات ومشاتمات، وبعض الأخبار صحيحة ولكن نشرها يؤدي إلى إشاعة الفاحشة، وتطبيع الفاحشة لدى الناس، فلو استمر الناقلون للأخبار في الحديث عمن زنا بفلانة وزنت مع فلان، وعما حدث في هذه الفاحشة، ونحو ذلك من الموضوعات، فماذا سينطبع في عقول وأذهان ونفوس السامعين ؟  أن الجو كله ملوث، وأن الناس أغلبهم هكذا، وبالتالي تخف هيبة هذا الحرام، ويصبح أمراً عادياً، ولذلك نعى الله وذم المنافقين وعابهم بأنهم إذا جاءهم أي أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به، فليس كل ما يعرف يقال، وليس كل ما يحدث يصح نشره، فنشر بعض الأخبار إشاعة للفاحشة في الذين آمنوا.

ومثل هذه ما يسمى بصحافة الفضائح، وفيها مجلات وجرائد وقنوات متخصصة، تكثر نشر الفضائح، لماذا؟ لتعميم الحالة، وتطبيع القضية عند الناس، وهذا من أخطر ما يحدث اليوم في عالم نشر الأخبار، قضية التركيز على فضائح المشاهير، فيجعلونهم قدوات أولاً، ثم ينقلون فضائحهم ثانياً ، ويعممونها حتى تكون القضية عادية عند الناس.

وأحياناً تكون الإشاعة خطيرة من الجهة الاقتصادية، فكم هوت من أسواق في عالم الأسهم، وحصل التلاعب في المتنافسين والتأثير غير الشريف فيهم، ونشر أخبار من الخسائر وأسرار الأطراف الأخرى التي تؤثر في أسعار أسهمهم وبضائعهم، ومعلوم أن التأثيرات النفسية في الأسواق اليوم مضاعفة الآثار جداً، ولا يتعامل معها بحجمها الحقيقي، ولذلك فإن نشر بعض الأخبار هو إضرار باقتصاديات المسلمين، كما هو واضح الأثر فيهم، وأحيانا تتناقل الأخبار كحرب نفسية يراد منها الإرجاف والتخويف والتهويل وإثارة البلبلة، وإضعاف الروح المعنوية، تمهيداً للانهيار والإجبار على الاستسلام، وإملاء شروط الخصم، والهزيمة والانكسار والخسارة الكبيرة.

 أن كل هذه المحاذير توجب علينا أن نتلمس القواعد الشرعية في تلقي الأخبار وروايتها، ونسمع في كثير من الأحيان أخباراً متناقضة، ومتضاربة،  ولا يعرف الواحد كيف يميز الصحيح من السقيم، والكاذب من الصحيح، فإذا أضيف إلى ذلك ما يعانيه المسلمون من وجود سّماعين لمن يذيع الأخبار شرقاً وغرباً، ويتلقف خبر كل ناعق، لينشره في موقع على الشبكة أو رسالة جوال، فكيف ستكون النتيجة إذاً ؟ إن مما جاء به الشرع الكريم المطهر، قوله عليه الصلاة والسلام  ((من حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه)) ومعنى ما لا يعنيه : مالا ينفعه في الدنيا ولا في الآخرة، وقال عليه الصلاة والسلام  ((احرص على ما ينفعك)) ، فجمع الخير في هذه الجملة، وجمع الورع في حديث ((من حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه))، سواء كان كلاماً أو نظراً استماعاً أو مشياً فكراً ونحو ذلك، والإنسان لا يقدر أن يشتغل باللازم فكيف يتعداه إلى الفاضل، ومن تكلف مالا يعنيه ضيع ما يعنيه، فميّز يا عبد الله ما الذي يعنيك ويهمك ؟ مما لا يعنيك ولا يهمك.

وأيضاً فإن الأخبار تزخر اليوم بأمور عن أحداث في أقاصي الأرض ليس لنا فيها منفعة، لا تهمنا، تحدث أحياناً في آخر الأطراف في الأرض، وأشياء عن مسابقات وأعاجيب ونحو ذلك، مما يطرفون به الأخبار ويضيفون عليها النكهات، ولكن في الحقيقة القارئ للجريدة والمستمع للنشرة يزحم عقله بكثيرً مما لا يعنيه، وهذا خلاف حديث النبي – صلى الله عليه وسلم –  الذي أمرنا بالإقبال على ما يعنينا، على ما يهمنا وعلى ما ينفعنا في أمور ديننا ودنيانا .

وكذلك ينبغي التأني والتروي، وقد كان من خلق نبي الله سليمان، ما جعله عند مجيء الهدهد إليه بخبر، {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ}(النمل: من الآية22) ، أنه قال له، { سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (النمل:27) ، فلا بد من تطبيق هذه القاعدة، ولا مانع أن يكتب الإنسان الخبر وأن يتروى ولا ينشره حتى يتحقق منه، ولكن شهوة النشر قبل الآخرين تدفع إلى التهور والتسرع فتكون النتيجة آثار خطيرة مضاعفة.

 نسأل الله عز وجل أن يهدينا للرشد، وأن يدلنا على الخير، وأن يرزقنا التقوى، وأن يجنبنا الإثم ما ظهر منه وما بطن ، أنه سميع مجيب، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم،  فاستغفروه انه هو الغفور الرحيم .

الخطبة الثانية :

الحمد لله ، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، سبحانه وتعالى ربنا وخالقنا وإلهنا وسيدنا ومولانا، عز وجل، هو القدوس السلام المؤمن المهيمن، العزيز الجبار المتكبر، خلقنا ليبتلينا أينا أحسن عملا، فهنيئاً لمن طال عمره وحسن عمله، وأشهد أن محمد رسول الله ، سيد الأبرار، وإمام الأخيار، والشافع المشفّع يوم يقوم الناس لرب العالمين، أشهد أنه رسول الله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ما ترك خيراً إلا دلنا عليه، ولا شراً إلا حذرنا منه، فصلوات ربي وسلامه عليه إلى يوم الدين، اللهم صلي وسلم وبارك على نبيك محمد، وعلى آله وصحبه وأزواجه، وخلفائه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

عباد الله، لا يجوز نشر الأخبار دون تثبت وتأكد من صحة الخبر، وكفى بالمرء إثماً أن يحدّث بكل ما سمع، وما أكثر الناس الذين يروون أخباراً فإذا سألتهم من أين لكم هذه وعمّن رويتموها، أسقط في أيديهم، وتلعثمت ألسنتهم، لأنهم لم يأخذوها من مصادر موثوقة، بل كانت مجرد أوهام أو أفهام مغلوطة لبعض ما سمعوا، وبعضهم يشيع ويكتب في آخر الإشاعة : هكذا بلغني ولست متأكداً، فلماذا تشيعه إذاً ؟ مثل هذا يرفع إلى كما قال الله : {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ}(النساء: من الآية83) ، ولو ردوه إلى من ؟ أهل العلم، هؤلاء أهل العلم سيتثبتون منه، هؤلاء أولي الأمر الذين يأتون به على وجهه، هؤلاء أصحاب القدرات الذين يستنبطونه ويتقصون لمعرفة صحته، هؤلاء أصحاب الخبرة، وقد قال – سبحانه وتعالى – : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات:6). والأخبار إذا سبقت إلى النفوس كان له محل فيها وأثر ، وقد يفرح شخص لخبر أو يحزن منه، وهذه المشاعر له ما بعدها، وتؤثر في الأفعال، والآية تدل على حصول أحد أمرين : أما التثبت أو الندامة، والتثبت : هو تفريغ الوسع والجهد لمعرفة حقيقة الحال هل ثبت أم لا، والتبين التأكد من حقيقة الأخبار و ظروفه وملابساته، والمؤمن وقّاف كما قال الحسن – رحمه الله – حتى يتبين، وأصل العقل التثبت، وقد حرص الصحابة على ذلك وخصوصاً أيام الفتن، وقد حذرنا الله وذكرنا ووعظنا، في هذه الحواس التي آتانا إياها، {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (الاسراء:36) . 

قال قتادة: لا تقل رأيت ولم تره، وسمعت ولم تسمعه، وعلمت ولم تعلم.

قال البغوي في التفسير: لا تتكلم بالحدس والظن.

قد يسمع الإنسان في العادة الصدق والكذب، فإذا حدث بكل ما سمع سيكون فيه بعض تحديثه كذب، وهذا معنى حديث ((كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا [ أو إثماً] أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ))

لأنه يسمع الحق والباطل، والصدق والكذب، فإذا حدث بكل ما يسمع فمعنى ذلك أنه سيكون في حديثه كذبٌ ولابد .

ومن حّدث عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم –  بحديث يُرى أنه كذب، فهو أحد الكاذبين، أو الكاذبَين، قال ابن حبان – رحمه الله – في قوله عليه الصلاة والسلام  ((كفى بالمرء إثماً)): زجر أن يحدث بكل ما سمع حتى يعلم علم اليقين صحته.

قال عبد الرحمن بن مهدي – رحمه الله – : لا يكون الرجل إماماً يُقتدى به حتى يمسك عن بعض ما سمع.

وإذا نظرت إلى الحديث الآخر : ( إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ وَوَأْدَ الْبَنَاتِ وَمَنَعَ وَهَاتِ وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ)

فإن قوله : ( وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ ) كراهة تداول أقاويل الناس، وتزجية الأوقات بذلك،  وقد قال عليه الصلاة والسلام  (( بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا ))، المطية التي يتحرك عليها ويتنقل من مكان إلى مكان، زعموا : الزعم هذا الخبر الذي لا يدرى أصحيح أم كذب، وأسوء عادة للرجل أن يتخذ هذا المركب إلى مقاصده، فيخبر بغير تروّي، وقد كان للأخبار الكاذبة آثار سيئة، فلمّا هاجر الصحابة إلى الحبشة، أشيع أن كفار قريش أسلموا، فرجع الصحابة وتكبدوا عناء الطريق، ولما وصلوا مكة لاقوا من قريش صنوف الأذى بسبب خبر كاذب وإشاعة. في غزوة أحد أشيع أن النبي – صلى الله عليه وسلم –  قتُل، فانكفأ جيش الإسلام، وترك بعضهم القتال، وحصل ما حصل. لما أُشيع خبر الإِفك في عائشة – رضي الله عنه –  الطاهرة العفيفة البريئة حصل للرسول عليه الصلاة والسلام  وعائشة وأبي بكر والمسلمين جميعاً من البلاء بذلك ما لا يعلمه إلا الله، وأشيع في صلح الحديبية قتل عثمان، ونحو ذلك، بل أن مقتل الخليفة الراشد عثمان – رضي الله عنه – كان من أسبابه أخبار كاذبة، روجها عبد الله بن سبأ اليهودي وأعوانه.

وقد كان للسلف طرق عظيمة في التثبت من الخبر، بالإضافة إلى الفطنة والتيقظ؛ الاستحلاف، بل استحلف الأعرابي رسول الله – صلى الله عليه وسلم –  في أركان الإسلام، وكانوا أيضاً يطالبون بالدليل على صحة الخبر، فلما أخبر أبو سعيد عمر – رضي الله عنه – بشيء، قال : والله لأوجعن ظهرك وبطنك  أو لتأتين بمن يشهد لك على هذا.

 وأيضاً إرسال من يستثبت من الخبر، فينتظر حتى يأتي الرسول بالحقيقة، وفي غزوة الخندق  أرسل النبي – صلى الله عليه وسلم –  السعدين للتأكد من نقض اليهود للعهد .

وأيضاً أن يذهب بنفسه ليستيقن الخبر، ولما سمع الصديق خبر وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم –  لم يتكلم بكلمة، حتى دخل عليه – صلى الله عليه وسلم –  وهو مسجى فتأكد بنفسه ثم خرج على الناس فتكلم، وأيضاً تصحيح الفهم والتأكد من ذلك.

وكم من عائب قولا صحيحا                وآفته من الفهم السقيم

إذا غاب قلب المرء عن حفظ لفظه          فيقظته للعالمين سبات

فلا بد أيضاً فهم الحفظ، فهم اللفظ، فهم الخبر، قال أبو عبيدة في مستمليه وكان قد ابتلي بكاتب مضيّع :  كيسان يسمع غير ما أقول، ويقول غير ما يسمع ويكتب غير ما يقول ويقرأ غير ما يكتب ويحفظ غير ما يقرأ .

ولا بد من النظر في القرائن المحيطة بالخبر، وهذه من الأمور المهمة، يقول ابن خلدون: إن الأخبار إن اعتمد فيها على مجرد النقل، ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة، ولا قيس الغائب منها بالشاهد، والحاضر بالذاهب، فربما لم يؤمن فيها من العثور، ومزلة القدم، والحيد عن جادة الصدق، وكثيرا ما وقع للمؤرخين وأئمة النقل من الأغاليط في الوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثًا وسمينًا، ولم يعرضوها على أصولها، ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار، فضلوا عن الحق، وتاهوا في بيداء الوهم والغلط.

ومن الضوابط المهمة، الحرص على عدم ترديد الإشاعات، { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}(النساء: من الآية83). وهذا تأديب من الله لعباده، أن يردوا هذه الإشاعات والأخبار إلى أهل الرأي وأهل العلم، وأهل النصح وأهل العقل، وأهل الرزانة وأهل الخبرة، الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها، فإن رأوا فائدة في نشره نشروه بعد التأكد منه، وإن كانت المصلحة في كتمه كتموه وأمروا بكتمه، فهذه الأخبار الكاذبة والإشاعات، كالعملة المزيفة، يصكها مجرمون عتاة، ويتناقلها العامة والمساكين، وتستمر بأيديهم زمناً دون أن يعلموا ما يفعلون.

 فالخلاصة أن لا تكون يا عبد الله مقوياً للإرسال في مثل هذه الأمور، وكذلك فإن الأصل في المسلم براءة الذمة، وهذه من القواعد المهمة، فإنك إن بلغك عن مسلم خبر سيء، فتقول : ما شهدنا إلا بما علمنا، وما هو الأصل في المسلم ؟ العدالة والسلامة ، وهكذا قال أبو أيوب لما بلغه الخبر عن عائشة – رضي الله عنه – ، قالت له امرأته : يا أبا أيوب، ألا تسمع ما يقول الناس عن عائشة؟ قال: بلى، وذلك الكذِب، أكنتِ يا أم أيوب فاعلة ؟ قالت: لا واللهِ ما كنت لِأفعَلَهُ !.. قال: فعائشة واللهِ خيرٌ منكِ . سبحانك هذا بهتان عظيم .

عباد الله ، وقد صار اليوم في نشرات الأخبار إبراز المذيعات المتبرجات وهو حرام، فيجب غض النظر عن صور النساء، وأحياناً تظهر في الأخبار عورات، ولا يجوز إظهار عورة حي ولا ميت، وحتى في الفظائع والحروب لا يراعي حملة الكاميرات والذين يتولون البثّ، قضية مراعاة حرمة الأموات، والجرحى، فتنقل الكاميرات صور من تلك العورات مع أن الواجب ستر العورة المسلم، حياً وميتاً، قتيلاً أو جريحاً، وأحياناً تنشر صور في الاغتصابات والانتهاكات، ولا يجوز نشر صورة هذا أو هذه، لأن مثل هذا لا تجوز إشاعته وهو من باب الفضح، وأيضاً فإنه لا يجوز انتهاك حرمة الأموات في نشر صور أشلائهم، لأن الميت يجب أن يغطى، وليس أن ينقل ما عبث بجثته، وخصوصاً النساء، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي الزُّبَيْرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أَقْبَلَتْ امْرَأَةٌ تَسْعَى حَتَّى إِذَا كَادَتْ أَنْ تُشْرِفَ عَلَى الْقَتْلَى، قَالَ فَكَرِهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَرَاهُمْ، فَقَالَ: (الْمَرْأَةَ الْمَرْأَةَ) ( أي أدركوا المرأة قبل أن ترى هذه المناظر البشعة، وكان المشركون قد مثلوا بجثث المسلمين، فقطعوا الأنف والأذن، وبقروا البطن ولاكوا الكبد ) ، قَالَ الزُّبَيْرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَتَوَسَّمْتُ أَنَّهَا أُمِّي صَفِيَّةُ (صفية بن عبد المطلب أخت حمزة، ماذا سيكون حالها إذا رأت حال أخيها) قَالَ فَخَرَجْتُ أَسْعَى إِلَيْهَا فَأَدْرَكْتُهَا قَبْلَ أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى الْقَتْلَى. رواه أحمد وهو حديث صحيح.

فإذا كانت الصور تؤثر في النفوس تأثيراً سلبياً فيمنع من النظر إليها، وأما ما كان من الصور يفضح أفعال الكفار، ويكون من باب الحرب الإعلامية عليهم، ومقنعاً للعالم بوحشيتهم، فإنه ينتقى منها ما لا يتعارض مع الشرع فينشر، لأجل إفحام هؤلاء الذين يكذبون على الناس، ويظهرون أنفسهم بمظهر الإنسانية وهم في غاية التوحش، وهذا الزمن ولا شك قامت فيه معركة الصورة، والذي ندعو إليه الضوابط الشرعية، أي ألا يكون نشر الصور بلا ضوابط، وإنما ينبغي أن يعمل فيه بالضوابط الشرعية، نحن نعلم جيداً تأثير الصورة في هذا الزمن، لم تعد الأصوات تكفي كما كان في السابق، كان العربي يسمع القصيدة ويسمع العبارة، فيفقهها ويعرف معانيها ومدلولاتها، اليوم صار عند الناس بسبب الإعلام الثلاثي، كثيرٌ منهم لا يفهمون الخبر إلا إذا أُرفق بالصور، الصوت وحده لا يكفي عند الكثيرين، بل صار هنالك نوع تبلد إذا لم يشرح الخبر بالصورة، وصار شرح المواد بالصور، فلم يعد الكلام كافياً عند الكثيرين، ولذلك فلا بد من استعمال الضوابط الشرعية في عرض الصور، فهذا الذي ينبغي الحرص عليه في عالم صارت فيه اليوم الصورة في غاية التأثير، ونحن مسلمون ينبغي أن نعمل بشرع الله تعالى كل وقت وحين .

عباد الله، ومما يجب على المسلمين أن يشكروا ربهم، إذا أنعم عليهم نعمةً، وإذا نصرهم نصراً ولو مصغراً أن ينسبوا الفضل لله تعالى، فأما نسبته وإهدائه إلى ولي المشركين فهو حرام، وتضييع لثمرة الجهاد والنصر.

وكذلك فإن مما ينبغي حمد الله عز وجل على ما وفق ورجاء المزيد، وأيضاً فإن أدعية المسلمين الموحدين، هي العسكر الذي لا يهزم، والجند الذي لا يغلب، وهذا هو السبب في ثبات المسلمين أمام عدوهم، لا العدد ولا العدة، ولذلك فإنه ينبغي على أهل الإسلام الحرص على التوحيد، وأن يكون التفريق بين المشرك والموحد بارزاً واضحاً في كلامهم ومسيرتهم وحياتهم، لأن القتال في الإسلام كله من أجل هذه القضية، {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ}(البقرة: من الآية193).  يكون شرك،  {ويَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}(لأنفال: من الآية39). وقد يكون بعض المشركين أخطر من اليهود، لخفاء أمرهم، وشدة نكايتهم في الموحدين المسلمين، وما هو الفرق بين كافر وكافر، إذا كان الكل أعداء الإسلام، فينبغي الحذر منهم، ومنابذتهم، ولا يجوز توليهم أبداً ، ومن يتولى هؤلاء أهل الشرك، فإن له منهم نصيب.

وأيضاً نحن نقول اليوم وأولادنا على أعتاب هذه الاختبارات والامتحانات، أنه ينبغي أن يُزرع في نفوسهم مراقبة الله تعالى، فإذا راقب الطالب ربه، فلا تخشى منه، وإذا ضيعت الأمانة، فإن ذلك أثمٌ عظيم، سواء كان ذلك من طالب أو مراقب أو مصحح ، وينبغي أن تكون هذه العملية التعليمية واختبار المستوى بهذه الاختبارات، ومعرفة من يستحق الانتقال من مرحلة إلى مرحلة ، ينبغي أن تكون قائمة على العدل والأمانة، ومراقبة الله عز وجل ، وكذلك ندعو الله بالتوفيق لأولادنا ذكوراً وإناثاً.

اللهم وفقهم لما تحب وترضى، وخذ بأيديهم إلى طريق الحق يا رب العالمين، اللهم دلنا ودلهم عليه، وارزقنا وإياهم إتباعه، أرنا الحق حق وارزقنا إتباعه، وأرنا باطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم طّهر قلوبنا وحصّن فروجنا وكفر عنّا سيئاتنا واغفر ذنوبنا واقضي ديوننا واستر عيوبنا يا رب العالمين، ارحم موتانا واشفي مرضانا، اللهم إن نسألك الأمن في البلاد والنجاة يوم المعاد، يا رب العباد ، سبحانك ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين.