صفحات مشرقة من غزة

صفحات مشرقة من غزة

صفحات مشرقة من غزة

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:

بصدور عارية، وأسلحة خفيفة في أيديهم؛ نراهم يسطرون بدمائهم صفحات مشرقة تشرف الأمة بأسرها، إنه تصدي أهلنا في قطاع غزة للعدوان الهمجي البربري عليهم، وكل هذا واقع عقب حصار لا إنساني، ولا أخلاقي، تسطر في ثناياه كل معاني الحقد الدفين، والكراهية المزمنة على كل ما هو إسلامي.

إن العدوان الصهيوني الآن على غزة ليس حرباً بل إنما هو مجزرة ومذبحة؛ لأنها بين طرف يملك كل أنواع السلاح، وأحدث ما أفرزته التقنية الحديثة، وبين طرف لا يملك إلا إيمانه الصادق بالله، وحقه وعدالة قضيته، فهو يواجه الموت بصدر مكشوف، وشجاعة منقطعة النظير انعدمت في زمننا هذا، ولم نسمع بها إلا في الرعيل الأول من الفاتحين.

ففي يوم السبت 27/12/2008م قام العدو الصهيوني بالهجوم على غزة هجوماً غادراً بعدة غارات متوالية بما يقرب من 100 طائرة مقاتلة، وألقت أكثر من مئة طن من القنابل على مدينة غزة الصغيرة، ونفذت أكثر من 200 غارة، وفي أول يوم (بحسب التصريحات الصهيونية)، وتم ضرب أكثر من ستين هدفاً، فدمرت البيوت، وهدمت المساجد، وقُتِل من في المباني في مشهد دموي بعيد عن كل القيم الأخلاقية، وبعيد عن الإنسانية، وكل ما اقترفه هؤلاء الضحايا أنهم يقولون: ربنا الله.

إن ما حدث يوم السبت 27 ديسمبر في غزة يعيد للأذهان ما حدث من خيانة عام 1948م، ولقد مرَّ ستون عاماً على الخيانة التي وقعت تجاه فلسطين، وها هو التاريخ يعيد نفسه، وها هي الأحداث تعود، وها هي الخيانة تكرر في غزة، فعندما نُقلِّب صفحات التاريخ نجد صفحات سوداء لخيانة فلسطين من قِبَلِ أناس كُثُر، وما أشبه الليلة بالبارحة.

وهاهي الأسابيع تنقضي؛ ولا يزال الهجوم مستمراً يصل ليل غزة بنهارها، ويحول الوقت كله إلى خوف مستمر، مخلفاً لعدد كبير من الشهداء والجرحى، وإخواننا في غزة بصمودهم كالجبال الراسيات، وإيمانهم بالله الذي لا يتزعزع، وإبائهم المنقطع النظير عن الاستسلام ورفع الراية البيضاء، بكل هذا فإنهم يذكروننا بسيد البشر – صلى الله عليه وآله وسلم – في شعب أبي طالب عند بداية الدعوة، وكأن الله – عز وجل – يهيئ بهؤلاء ميلاداً جديداً للأمة يعيد لها مجدها ومكانتها بين الشعوب.

إن هؤلاء اليوم قد سطروا مشاهد وصفحات مشرقة، استوجب من بيارق النصر أن تظهر، ومن نهاره أن ينجلي، وأول بارقة هي ما رأيناه بأم أعيننا من تمسك إخواننا بالدين، وقد ظهر ذلك جلياً حين بدأ القصف في أول يوم، ورأينا كيف أن جميع الجرحى يرددون: أشهد ألا إله إلا اله، وأشهد أن محمداً رسول الله.

فسبحان الله، إنه منظر ينشرح له الصدر، وتطمئن له النفس، إنه ثبات منقطع النظير، ثبات على الدين، وتمسك بحبل ربهم المتين حتى في أصعب الظروف.

ومن بشائر النصر التي تلوح في الأفق: أن تلك الغزة البسيطة العزيزة، التي يخافها العدو، والذي استبق هذا الهجوم الهمجي بحصار امتد لشهور، مُنِع فيه الطعام والكهرباء والدواء عن غزة عقاباً لها على حريتها وكرامتها؛ هذه البقعة الصغيرة التي يظن الناظر إليها أن عليها رفع الراية البيضاء؛ قد ازداد أهلها عزة وصموداً، واستبسالاً وحباً للشهادة، وبعداً عن رفع راية الذل والاستسلام، والسعي وراء كل ناعق ليطلبوا السلام المزعوم.

إن هؤلاء يقتدون بمحمد – صلى الله عليه وآله وسلم – فقد رفعوا شعارهم قول الله – عز وجل -: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}1، وعزاؤهم بمن قتل أو استشهد قول الله – تعالى -: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}2، وهاهم يفخرون بالشهداء، ويعتزون بما وصفهم نبيهم – صلى الله عليه وسلم – بقوله: ((لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ، لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ))3، وها هم هؤلاء على الحق صابرين، لعدوهم قاهرين؛ وإن خفي على كثير من الناس فهذا وعد من الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى، وإن طال الزمان، وكثرت الآلام، فـ{لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}4.

ومن بشائر النصر التي تلوح في الأفق: تلك الأم التي فقدت أحد أبنائها، وتقف بكل شجاعة قائلة: "بقي لدي ولدان أجهزهما، وأقدمهما للشهادة"، إنها مَثَلٌ أعلى للأم المسلمة الصابرة التي تقدم ما عند الله – عز وجل – على حطام الدنيا الفانية، والتي تقتدي بأسلافها من الأمهات كعفراء بنت عبيد بن ثعلبة – رضي الله عنها – الصحابية الجليلة التي قدمت معاذاً، ومعوذاً في يوم بدر وهما لا يزالان حديثا سن، وليس عجيباً أو غريباً أن تمضي السنوات والدهور فنجد أمثال هؤلاء النسوة.

ومن بشائر النصر التي تلوح في الأفق أيضاً: أنه مع الضعف الحاصل في أوساط المجاهدين، والتفاوت الكبير بين عدة المجاهدين، والضخامة الهائلة في أسلحة العدو كماً ونوعاً؛ إلا أننا نلحظ كيف أن المجاهدون استطاعوا بفضل الله – عز وجل – رد هذا العدو الغاصب ودحره، واستطاع المجاهدون الصمود أمام هذه الترسانة الضخمة، إنه تثبيت من الله لهم، وتأييد منه – تعالى – لعباده المجاهدين، فـ{كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}5.

ومن بشائر النصر التي تلوح في الأفق: ظهور الحقائق جلية واضحة، فقد تبين للناس حقيقة الحرب الدائرة، وحقيقة العداء بين المسلمين واليهود، فتميزت الصفوف أكثر، وعُرِف المخلصون من المنافقين، وعرف زيف الشعارات الكاذبة التي يتشدق بها الغرب وأذنابهم، وحقيقة السلام (الاستسلام) الذي يراد تحقيقه في المنطقة، وأن المراد به تحقيق المطامع الاستعمارية في المنطقة، وحقيقة الديمقراطية الزائفة، وأنها لا تحقق إلا المطامع الاستعمارية، وحيث لم يجد دعاة السلام المزعوم في العالم من أفعال الحكومة الإسرائيلية ما يعينهم على كسب معركتهم الداخلية ضد دعاة دعم المقاومة، وعدم رغبة إسرائيل في سلام دائم مع خصومها العرب كما تدعي، وحيث يحاول أولئك النفر اليوم أن ينالوا من خصومهم بالترويج لفكرة مفادها أن أسباب التخلف والهزيمة في العالم العربي هي وجود ثقافة لا تزال تؤمن برفع السيف لحل مشكلاتها مع خصومها، ويؤكد هؤلاء أن كسب المعارك اليوم قد تعددت واختلفت طرقها، ولم يعد بالطريقة التقليدية التي عرفها الإنسان الحَجَري وحدها، ومن هذا المنطلق حاولت هذه الفئة التأثير على تفكير رجل الشارع العربي بتسفيه الرأي الآخر القائل بفعالية المقاومة في استرداد الحقوق، وعلى رغم قوة الطرح الذي يقوم به هؤلاء، والدعم ألَّا محدود لهذه الفكرة؛ إلا أن هذا المنطق لم يتغلغل في ذهن رجل الشارع العربي والإسلامي، ذلك أن الشعوب الإسلامية اليوم لم تعد جاهلة بما يدور حولها، فهي تعلم كذب إسرائيل في تحقيق السلام المزعوم، إذ لو كانت إسرائيل جادة في سعيها إلى السلام فلماذا رفضت عبر أكثر من زعيم المبادرات العربية التي قدمت على طبق من ذهب شاملة التطبيع الكامل في مقابل بعض التنازلات؟، وإن كان هذا لا يمثل رأي الشارع بل يمثل رأياً لفئة من المتنفذين على هذه الأمة.

في الوقت ذاته، هناك أسئلة عدة تحول الإجابات عنها دون اقتناع المواطن المسلم بالزعم الرافض لدعم المقاومة في فلسطين، خصوصاً بعد أن جربت الحكومات العربية الحلول السلمية بما فيها من تنازلات، والتطبيع الكامل، من دون أن تجني حتى خفي حنين، إذ كيف يمكن القبول بخروج أي محتل من دون مقاومة، وشواهد التاريخ الغربية قبل العربية تؤكد أن المحتل لم يخرج مختاراً قط؟، بل خرج مطروداً منهزماً، ثم لماذا يُحرم الفلسطينيون من حقهم القانوني الدولي – إن صح تسميته – الذي تقره الشرائع الدولية في مقاومة المحتل(وهذا من وجهة نظر قومية)؟ أليس قطاع غزة والضفة الغربية بما فيها القدس أراض محتلة بموجب قرارات مجلس الأمن والشرعية الدولية؟ وحيث استعصت الحلول السلمية لإعادة الحقوق لأصحابها فلماذا يمنع أصحاب الحق من الدفاع عن أنفسهم؟ ولماذا يسمى اعتداءً؟.

إن واقع الحال في العالم العربي اليوم، وبعد ستين عاماً على ذكرى النكبة؛ يشير إلى أن ثقافة المقاومة – بسبب العناد الإسرائيلي – تزداد انتشاراً وتأييداً بين مختلف طبقات المجتمع العربي المثقفة منها وغير المثقفة، كما أن الشعوب العربية اليوم – وعلى مستوى واسع – بدأت تعي حقيقة أن الحكومات المتعاقبة على إسرائيل لم تكن جادة في يوم من الأيام في تحقيق السلام المزعوم عبر الستين عاماً الماضية!

وتبعاً لذلك بدأت الشعوب تعي أيضاً حقيقة كذبة المقولة السائدة التي زعمتها إسرائيل منذ إنشائها، وروجت لها نخب عربية منذ وقت ليس بالقصير، أن إسرائيل قوة لا تقهر، وأنه لا يمكن لأية مقاومة أن تهزمها.

وتزداد القناعة يوماً بعد يوم بأن هذه المؤتمرات والمؤامرات ثبت فشلها منذ ستين عاماً، حيث لم يجد مطلقاً مع اليهود الصهاينة شجب، ولا إدانة، ولا مؤتمرات قمة، ولا بيانات صاخبة؛ تحاول أن تظهر بأي موقف إعلامي لا يسمن ولا بغني من جوع، ويؤكد هذا الرد الإسرائيلي على قرار مجلس الأمن بشأن إيقاف الحرب على غزة، ففي أول رد لها قالت: "سنواصل الحرب على غزة رغم قرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار"، فأين قادة الأمة، ومن يسعون وراء السلام؟.

الحقيقة أن المشاهد التي بثتها الفضائيات للمجزرة مؤلمة ومحزنة، ولكنَّنا يقيناً نقول لكل المسلمين في غزة وفي العالم الإسلامي: إن المجاهدين من حماس وغيرها هم سادة الأمة وأشرافها، والنصر – بإذن الله – حليفهم سواء طال الزمان أم قصر، ونقول لمن يتعاون مع الكيان الغاصب: إن التاريخ لن يرحمكم، والشعوب لن ترحمكم، والله سوف يحاسبكم، ويسألكم عن هذه الدماء، فماذا ستجيبون أمام ربكم.

نسأل الله – عز وجل – أن ينصر الإسلام والمسلمين، وأن يعلي راية الدين، وأن ينصر المجتهدين في سبيله في كل مكان، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


 


1 سورة آل عمران (139).

2 سورة آل عمران (169).

3 أحمد (21286)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (4/456).

4 سورة الروم (4-5).

5 سورة البقرة (249).