غزة صمود في زمن الانكسار

غزة صمود في زمن الانكسار

غزة صمود في زمن الانكسار

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، أما بعد:

أيها المسلمون: عن ماذا نتحدث في هذا الزمن الغريب، زمن العجائب المتوالية، زمن المتناقضات والمفارقات

نحن في الدهر في أعاجيـب                  فنســأل الله صبر أيوب

أقفرت الأرض من محاسنها                   فابك عليها بكـاء يعقوب

نعم سنتحدث عن قضية المسلمين الساخنة، عن حبيبة القلوب ووردة الأفئدة: غزة الحبيبة.

غزة شموخ في زمن الهوان .. غزة صمود في زمن الانكسار .. غزة ثبات في زمن المتغيرات

كالشعلة الحمراء لو نكستها                 لأضفت إشعالاً إلى إشعال

أيها المسلمون: إن فلسطين ليست أبداً من الدول الكبرى، فلماذا إذاً هذه الهجمة الهمجية، والحرص الشديد على قتالها من رابع أكبر جيش في العالم، ولماذا هذا القصف بتلك القذائف الضخمة التي يبلغ بعضها 1500كيلو؟! إنه من أجل القدس، لبناء هيكلهم المزعوم الذي يعتقدونه.

إذاً فهي حرب من أجل العقيدة، من أجل الدين {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}1، فلا مجال للسلام مع هؤلاء القتلة، لا سلام ولا استسلام، ولا مفاوضات ولا مؤتمرات، ولا لقاءات ولا مشاورات مع هؤلاء الأنجاس الأرجاس الخنازير، وليس لهم إلا حكم شرع الله فيهم وجهادهم قال عروة بن الزبير – رحمه الله تعالى – لـ"عبد الله بن عمرو بن العاص" – رضي الله عنهما -: "ما أكثر ما رأيتَ قريشاً أصابت من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيما كانت تُظهر من عداوته؟ قال: حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوماً في الحجر، فذكروا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا؛ لقد صبرنا منه على أمر عظيم أو كما قالوا، قال: فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مرَّ بهم طائفاً بالبيت؛ فلما أن مرَّ بهم غمزوه ببعض ما يقول، قال: فعرفت ذلك في وجهه، ثم مضى فلما مرَّ بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجهه، ثم مضى ثم مرَّ بهم الثالثة فغمزوه بمثلها فقال: تسمعون يا معشر قريش أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح ...)2.

وعن جبير بن نفير أن سلمة بن نفيل أخبرهم أنه أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: إني سئمت الخيل، وألقيت السلاح، ووضعت الحرب أوزارها قلت: لا قتال، فقال له النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((الآن جاء القتال، لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الناس، يرفع الله قلوب أقوام فيقاتلونهم، ويرزقهم الله منهم؛ حتى يأتي أمر الله – عز وجل – وهم على ذلك، إلا أن عقر دار المؤمنين الشام، والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة))3.

والحمد لله أن قد خيب ظنهم، وأيَّد جنده؛ يقول مسئول كبير في إسرائيل: إننا نقاتل أشباحاً لا ندري أين يذهبون!!، ويقول مسئول آخر: كل ما فعلناه لم يصب البنية العسكرية من حماس.

ولقد صرح اليهود علانية بعدما رأوا من صمود المجاهدين والمسلمين في غزة فقالوا: يبدو أن حساباتنا كانت متعجلة، يبدو أننا سنخوض حرباً طويلة، وصدق الله – تعالى -: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}4، {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً}5.

فلماذا خابت ظنونهم وتوقعاتهم؟ لأنهم قابلوا جبالاً لا تميد، وسيولاً لا يقف أمامها شيء، لقد قابلوا رجال القرآن، وقنابل الإيمان، لقد أخرجت حماس خلال سنة ونصف من المساجد خمسة آلاف حافظ لكتاب الله – تعالى –

"بهروا الدنيا وما في يدهم إلا الحجارة

وأضاؤوا كالقناديل وجاؤوا كالبشارة

قاوموا .. وانفجروا .. واستشهدوا

وبقينا دبباً قطبية صفحت أجسادها ضد الحرارة

قاتلوا عنا إلى أن قُتلوا

وبقينا في صمات مثل أكوام الحجارة

واحد يبحث منا عن تجارة

واحد يطلب ملياراً جديداً تحت أبواب السفارة

واحد يبذل أموالاً ووقتاً بل إنه يبذل أموال عياله

بل إنه قد ترك المسجد حيناً

في سبيل القات أو نفخ سجارة

واحد يتعب جداً لاهثاً يطلب بالكورة ثاره

وأما أنتم يا ليوث غزة فلكم شأن آخر، وتحية أخرى:

يا تلاميذ غزة: لا تبالوا بإذاعاتنا لا تسمعونا

اضربوا .. دمروا .. فجروا صهيونَ .. حررونا

قد صغرنا أمامكم ألف قرن .. وكبرتم خلال شهر قروناً

يا تلاميذ غزة لا تعودوا لكتاباتنا ولا تقرؤونا

نتعاطى القات السياسي .. والقمع ونبني مقابراً .. وسجوناً

حررونا من عقدة الخوف فينا واطردوا من رؤوسنا الأفيونا

يا أحباءنا الصغار سلاماً .. جعل الله يومكم ياسمينا

من شقوق الأرض الخراب طلعتم .. وزرعتم جراحنا نسرينا

أمطرونا.. بطولة وشموخاً واغسلونا من نومنا اغسلونا

واستعدوا لتقطفوا الزيتونا..

إن هذا العصر اليهودي وهم سوف ينهار لو ملكنا اليقينا.

تسأل صحف العالم:

كيف صبي مثل الوردة

يمحو العالم بالممحاة؟

تسأل صحف في أمريكا

كيف صبي غزاوي

يقلب شاحنة التاريخ

ويكسر بلّور التوراة؟"6

(وما رميت إذ رميت):

خمسة آلاف حافظ للقرآن؛ يقاتلون بعقيدة راسخة، وثبات أشد من الرواسي؛ ويرسلون رسالة للعالم الإسلامي أن من أراد النصر فعليه أن يُحفِّظ جنوده سورة التوبة، ويفسر لهم سورة الأنفال، ويقوم معهم الليل بسورة البقرة؛ لأن العباس – رضي الله عنه – يقول عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في غزوة حنين لما فرَّ الصحابة في أول المعركة: "شهدت مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوم حنين، فلقد رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وما معه إلا أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، فلزمنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلم نفارقه وهو على بغلة شهباء وربما قال: بيضاء،.. فلما التقى المسلمون والكفار ولى المسلمون مدبرون، وطفق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يركض على بغلته قِبَلَ الكفار قال العباس: وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أكفها، وهو لا يألو يسرع نحو المشركين، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بغرز رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((يا عباس ناد: يا أصحاب السمرة))، وكنت رجلاً صيتاً وقلت بأعلى صوتي: يا أصحاب السمرة يا أصحاب سورة البقرة، فو الله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، يقولون: يا لبيك يا لبيك، فأقبل المسلمون فاقتتلوا هم والكفار، فنادت الأنصار: يا معشر الأنصار، ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج فنادوا: يا بني الحارث بن الخزرج، قال: فنظر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم، ثم قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((هذا حين حمي الوطيس))، ثم أخذ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حصيات فرمى بهن وجوه الكفار، ثم قال: ((انهزموا ورب الكعبة انهزموا ورب الكعبة))، قال: فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى، فو الله ما هو إلا أن رماهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بحصياته فما أرى حدهم إلا كليلاً، وأمرهم إلا مدبراً؛ حتى هزمهم الله قال: وكأني أنظر إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – يركض خلفهم على بغلته))7. فكيف ولماذا انتصروا؟

لأنهم أصحاب القرآن، أصحاب سورة البقرة الذين حفظوها في المسجد، والمسجد لا يخرج إلا الأبطال والعمالقة الأحرار، ولا يعلم إلا الصمود والثبات في الأزمات، إن أي قائد لا يربي جيوشه على مائدة القرآن، وحفظ القرآن، والعمل بالقرآن؛ فستبيعه هذه الجيوش اليوم أو غداً، ولن ينتصر في معركة أبداً، وأكبر شاهد على ذلك حزيران في 67م، عندما انهزمت مجموعة من الدول العربية أمام الصهاينة على قلتهم، لكن لما كان أولئك الجنود لم يتخرجوا من المسجد، ولم يحفظوا القرآن والسنة النبوية؛ رجعوا على أعقابهم منهزمين، وهؤلاء خمسة وعشرون ألف مجاهد في غزة أرهبوا أكبر رابع جيش في العالم، فهل حصل ذلك بقوتهم، أم بجمعهم، أم بأسلحتهم البسيطة الضئيلة؟ لا والله إلا لأنهم اتصلوا بالقوي العزيز، بالقرآن والمسجد؛ فأمدهم الله من قوته، وأنزل عليهم من جنوده {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ}8، ومن جنوده سبحانه الذي أعطاهم (الرعب) الذي قذفه في قلوب الصهاينة حيث يقول ممثل حركة حماس في اليمن الشيخ جمال عيسى: "إن اليهود كانوا يتوقعون أن حماس يمتلكون صواريخ تصل أكثر شيء إلى ثلاثين كيلو، فإذا بالمجاهدين في حماس يرمونهم بصواريخ بلغت بتوفيق الله لهم إلى ستين كيلومتراً، فذعروا، وقذف الله في قلوبهم الرعب، بالرغم من بساطة تلك الصواريخ إلا إن اليهود عندما يأتيهم صاروخ القسام أو غيره يُلقي الله في قلوبهم الرعب، فيختبئون تحت الأرض لساعات كاملة، ومنهم من يختبئ تحت سيارة أو ماسة كما رأيتم جميعاً {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}9، ويغلقون المدارس، ويطلقون صفارات الإنذار، ويوقفون كثيراً من أعمالهم خوفاً ورعباً وهلعاً تأييداً من الله لجنوده المؤمنين {وما يعلم جنود ربك إلا هو}، والحمد لله لقد جنَّد المجاهدون في حماس خمسة وعشرين ألف مجاهد!

ولقد اخترق المجاهدون في حماس شبكة الاتصالات اليهودية، فسمعوا الجنود الصهاينة وهم يصيحون على قادتهم، ويشكون لهم ويبكون؛ في خوف ورعب عجيب {لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون}، وفي ليلة واحدة يفجر المجاهدون في حماس سبع آليات صهيونية! في ليلة واحدة.

وفي أول مقاومة برية قتل المجاهدون بحماس خمسة جنود صهاينة، وجرحوا عشرة آخرين.

هل تعلمون أيها المسلمون ما قال ممثل حماس أيضاً: أن الجنود الصهاينة يمكثون بداخل دباباتهم من 12إلى 13 ساعة قد لبسوا الحفاظات، يبولون ويتغوطون فيها – أعزكم الله -!! يخافون إن خرجوا أن يقتلهم المجاهدون {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ}10.

أيها المسلمون كان يقال قديماً:

كُتبَ القتلُ والقتالُ علينا           وعلى النساء جَرُّ الذُّيولِ

ويقال:

نعم لهوُ المرأة المغزل.

لكن اسمعوا إلى عجائب الدهور، وغرائب الزمان، ومفاجئات الحال والمكان، اسمعوا إلى عالم المفاجئات بأرض غزة الأبية الصامدة:

عجوز تبحث عن شيء تدعم به أبنائها المجاهدين في حماس! لكن بعد البحث، هل تدرون ماذا وجدت؟ لم تجد غير بقرة معها ففكت رباط تلك البقرة، ثم أعطتها المجاهدين وقالت: خذوا هذه، وبيعوها، واشتروا بها سلاحاً!!

يا الله هل لم يبق في أمة الإسلام إلا العجائز!

زمانٌ عزّ فيه الجود حتّى            تعالى الجود في أعلى البروجِ

عجوز أخرى يخوفها الناس من اليهود فتقول لهم: أنا ما أخاف إلا من الله.

ولي نفس أبت إلا ارتفاعاً           فأضحت كالسماء على السماء

عجائز أيها المسلمون!! عجائز يا تجار المسلمين!! عجائز يا رجال المسلمين تصنع هذه البطولات، فلا تخبرونا، ولكن أرونا ما أنتم فاعلون!!

أيها المسلم: إن مما لا بد عليك فعله أن تقدم لدينك كل ما بوسعك وطاقتك، فمن لم يستطع بنفسه فبماله، أو بلسانه أو حتى بقلبه، وذلك أضعف الإيمان.{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}11.

 اللهم فانصر إخواننا المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يا رب العالمين، …

 


 


1 سورة البروج (8)

2 صحيح السيرة النبوية (1/ 148).

3 رواه أحمد في المسند برقم (17006)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن إسماعيل بن عياش صدوق في روايته عن أهل بلده، وهذه منها، وباقي رجال الإسناد ثقات.

4 سورة الأنفال (30).

5 سورة فاطر ( 43).

6 مقتبسة من قصيدة لنزار قباني بعنوان (ثلاثية أطفال الحجارة) مع بعض التغيير.

7 صحيح ابن حبان (ج15/ص 523)، قال شعيب الأرناؤوط في تحقيق مسند أحمد رقم (1775): إسناده صحيح على شرط الشيخين .

8 سورة المدثر (31).

9 سورة القمر (45).

10 سورة البقرة (96).

11 سورة الصف (10-11).