الجهل

الجهل

الجهل

 

الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، قدر فهدى، وأخرج المرعى، فله الحمد في الآخرة والأولى، والصلاة والسلام على رسوله الكريم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:

الجهل داء عظيم, وشر مستطير، بل هو أساس الشر وجماعه قال شيخ الإسلام ابن تيمية – يرحمه الله -: "وجماع الشر الجهل والظلم قال الله – تعالى – {وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (72) سورة الأحزاب، إلى آخر السورة، وذكر التوبة لعلمه – سبحانه وتعالى – أنه لا بد لكل إنسان من أن يكون فيه جهل وظلم، ثم يتوب الله على من يشاء، فلا يزال العبد المؤمن دائماً يتبين له من الحق ما كان جاهلاً به، ويرجع عن عمل كان ظالماً فيه1".

وما من صفة تزري بالإنسان كصفة الجهل، فالجهل أعدى أعداء الإنسان، والجاهل يفعل في نفسه ما يستطيع عدوه أن يفعله به، ولأن الله – تبارك وتعالى – أودع في الإنسان قوة إدراكية، فإنه إذا طلب العلم أكد إنسانيته، فإن ترك العلم هبط عن مستوى إنسانيته إلى مستوى لا يليق به.

تعريف الجهل:

الجهل: هو اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه، واعترضوا عليه بأن الجهل قد يكون بالمعدوم, وهو ليس شيء, والجواب عنه أنه شيء في الذهن2.

ويكون بسيطاً, أو مركباً، والجهل البسيط هو عدم العلم عما من شأنه أن يكون عالماً, أما الجهل المركب فهو عبارة عن اعتقاد جازم غير مطابق للواقع3"؛ وقال الراغب: "الجهل على ثلاثة أضراب:

الأول: هو خلو النفس من العلم وهذا هو الأصل، وقد جعل ذلك بعض المتكلمين معنى مقتضياً للأفعال الخارجة عن النظام كما جعل العلم معنى مقتضياً للأفعال الجارية على النظام.

والثاني: اعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه.

والثالث: فعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل سواء، اعتقد فيه اعتقاداً صحيحاً أم فاسداً كتارك الصلاة عمداً، وعلى ذلك قوله – تعالى -: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}4, فجعل فعل الهزؤ جهلاً، وقوله – تعالى -: {فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ}5"6.

الآيات الواردة في الجهل:

وقد أتى الجهل في القرآن على عدة معاني منها:

1- الجهل بمعنى اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه وفيه عدة آيات كقوله – تعالى -: {لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ}7, وقوله – تعالى -: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ}8, وقوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}9, وقوله: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ}10.

2- الجهل بمعنى خلو النفس من العلم وفيه عدة آيات كقول الله – تبارك وتعالى -: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}11, وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}12.

3- الجهل بمعنى فعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل وورد في ذلك عدة آيات منها قول الله – تبارك وتعالى -: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}13, وقوله: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}14, وقوله: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ}15.

الأحاديث الوارد في ذم الجهل:

– عن عياض بن حمار المجاشعي – رضي الله عنه -: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال ذات يوم في خطبته: ((ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كل مال نحلته عبداً حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً ويقظان، وإن الله أمرني أن أحرق قريشاً فقلت: رب إذاً يثلغوا رأسي، فيدعوه خبزة!! قال: استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نغزك، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشاً نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك، قال: وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال، قال: وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زبر له، الذين هم فيكم تبعاً، لا يتبعون أهلاً ولا مالاً، والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه، ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك، وذكر البخل أو الكذب، والشنظير الفحاش – ولم يذكر أبو غسان في حديثه وأنفق فسننفق عليك))16، ومعنى اجتالتهم الشياطين أي أخذتهم عن فطرتهم السليمة إلى الأخلاق السيئة – والعياذ بالله -، وعن أبي موسى الأشعري وعبد الله بن مسعود – رضي الله عنهما – قالا: قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((إن بين يدي الساعة لأياماً ينزل فيها الجهل، ويرفع فيها العلم، ويكثر فيها الهرج))17 والهرج القتل، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير عل،م فضلوا وأضلوا))18، ويؤخذ من الحديثين أن الجهل لا يزول إلا بالعلم, وأن الجهل من علامات الساعة, وأن سبب الضلال إنما هو الجهل قالت أم سلمة – رضي الله عنها – قالت: "ما خرج النبي – صلى الله عليه وسلم – من بيتي قط إلا رفع طرفه إلى السماء فقال: ((اللهم إني أعوذ بك أن أَضِلَ أو أُضَلُّ، أو أَزِل أو أُزَل، أو أَظلِم أو أُظلَم، أو أَجهَلَ أو يُجهَلُ علَيَّ))19، وقال عمر بن عبد العزيز – رحمه الله -: "من عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح20"، وأنشد بعض الشعراء:

وفي الجهل قبل الموت موت لأهله           فأجسامهم قبل القبور قبور

وإن امرأ لم يحيى بالعلم ميــت            فليس له قبل النشور نشور21

والجهل لا يزول إلا بالعلم، وأفضل العلم هو علم التوحيد، وقد أمر الله – تبارك وتعالى – بالعلم في التوحيد فقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ}22, وطلب العلم من الطرق الموصلة إلى الجنة كما في حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((من سلك طريقاً يلتمس به علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة))23؛ فعلى الإنسان أن يبذل قصارى جهده في التعلم والتعليم حيث خلق الله – تبارك وتعالى – لكل إنسان أدوات العلم قال الله – تبارك وتعالى -: {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}24

 

تعلم فليس المرء يولد عالمـاً                 وليس أخو علم كمن هو جاهل

وإن كبير القوم لا علـم عنده              صغـير إذا التفت عليه المحافـل25

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يرزقنا علماً بكتابه، وسنة نبيه – صلى الله عليه وسلم -، وعملاً بهما، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه بمنِّه وكرمه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، والحمد لله رب العلمين.


 


1 مجموع الفتاوى (3/348).

2 التعريفات (80).

3 التعريفات (80).

4 سورة البقرة (67).

5 سورة الحجرات (6).

6 تاج العروس (1/6957).

7 سورة البقرة (273).

8 سورة الأنعام (111).

9 سورة الأعراف (199).

10 سورة الزمر (64).

11 سورة النحل (119).

12 سورة الحجرات (6).

13 سورة البقرة (67).

14 سورة هود (46).

15 سورة يوسف (33).

16 رواه مسلم في صحيحه برقم (2865).

17 رواه البخاري في صحيحه برقم (6653).

18 رواه البخاري في صحيحه برقم (100)؛ ومسلم برقم (2673).

19 رواه أبو داود في سننه برقم (5094)؛ والنسائي برقم (5486)؛ وصححه الألباني في الجامع الصغير برقم (8838).

20 مجموع الفتاوى (2/382).

21 أدب الدنيا والدين (51).

22 سورة محمد (19).

23 رواه الترمذي في سننه برقم (2646) وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن؛ وبرقم (2682)؛ وأحمد في المسند برقم (8299)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط البخاري؛ وصححه الألباني في الجامع الصغير وزيادته برقم (11244)؛ وفي صحيح الجامع برقم (6298).

24 سورة النحل (78).

25 جامع بيان العلم وفضله (1/54).