جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً

جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً

جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً

الحمد الله، والصلاة والسلام على نبينا محمد – صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم – وبعد:

فإن من الخصائص التي اختص النبي – عليه الصلاة والسلام – وأمته أن جعل الله له ولأمته الأرض مسجداً وطهوراً، فمتى حضرت الإنسان الصلاة وهو في أي موضع صلى، والدليل على خصوصية هذه الأمة هو قوله – عليه الصلاة والسلام -: ((أُعْطِيتُ خَمْسًا لم يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ من أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لي الْمَغَانِمُ ولم تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وكان النبي يُبْعَثُ إلى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إلى الناس)) 1.

في ذلك عدة مسائل:

المسألة الأولى: طهارة الأرض والتيمم بها:

ومن الأدلة على طهارة الأرض قول الله – عز وجل -: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أو على سَفَرٍ أو جاء أَحَدٌ مِنْكُمْ من الْغَائِطِ أو لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فلم تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ}2 ووجه الدلالة من الآية: أن الله – تبارك وتعالى – أباح التيمم لمن لم يجد الماء لاستباحة الصلاة، وهذا دليل على طهارتها إلا إذا تيقن نجاسة ذلك المكان، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: "والطيب هو الطاهر، والتراب الذي ينبعث مراد من النص بالإجماع"3.

وعن أبي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قال: ((فُضِّلْتُ على الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ: أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا، وَأُرْسِلْتُ إلى الْخَلْقِ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ))4.

وقال جَابِرُ بن عبد اللَّهِ – رضي الله عنهما -: قال رسول اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم –: ((أُعْطِيتُ خَمْسًا لم يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ من الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا وَأَيُّمَا رَجُلٍ من أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لي الْغَنَائِمُ، وكان النبي يُبْعَثُ إلى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إلى الناس كَافَّةً، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ))5.

وعن أبي ذر – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إن الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته فإن ذلك خير))6.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: "اتفق المسلمون على أنه إذا لم يجد الماء في السفر تيمم وصلى إلى أن يجد الماء، فإذا وجد الماء فعليه استعماله، وكذلك تيمم الجنب ذهب الأئمة الأربعة وجماهير السلف والخلف"7، ويكون من الصعيد الطيب كما تقدم.

المسألة الثانية: حكم الصلاة في غير المسجد:

والأصل أن الصلاة تؤدى في المسجد جماعة، ولكن إذا كان هناك عذر كسفر أو مرض أو مطر فلم يستطع الحضور إلى المسجد؛ فقد اختلف العلماء في حكم صلاة الجماعة على عدة أقوال:

فذهب الجمهور إلى أنها سنة، أو فرض على الكفاية، وذهبت الظاهرية إلى أن صلاة الجماعة فرض متعين على كل مكلف8، وقال الإمام الشافعي – رحمه الله -: "فلا أرخص لمن قدر على صلاة الجماعة في ترك إتيانها إلا من عذر، وإن تخلف أحد صلاها منفرداً لم يكن عليه إعادتها"9.

وقال الإمام النووي – رحمه الله -:" اختلف أصحابنا في الجماعة، فقال أبو عباس وأبو إسحاق: هي فرض على الكفاية يجب إظهارها في الناس، فإن امتنعوا من إظهارها قوتلوا عليها, وهو المنصوص في الإمامة، والدليل عليه ما روى أبو الدرداء – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((ما من ثلاثة في قرية أو بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحذوا عليهم الشيطان، عليك بالجماعة فإنما يأخذ الذئب القاصية من الغنم))10، ومن أصحابنا من قال: هي سنة لما روى أبو هريرة – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين درجة11))"12، وقال صاحب كتاب فقه العبادة: هي سنة مؤكدة في التراويح، وفي وتر رمضان، والعيدين، والكسوفين، والاستسقاء13.

وقال ابن قدامة – رحمه الله -: "الجماعة واجبة على الرجال المكلفين لكل صلاة مكتوبة، روي نحو ذلك عن ابن مسعود، وأبي موسى – رضي الله عنهما -، وبه قال عطاء، والأوزاعي، وأبو ثور، وقال مالك، والثوري، وأبوحنيفة، والشافعي: لا تجب لقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((تفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة))14 متفق عليه، ولأن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم ينكر على اللذين قالا: قد صلينا في رحالنا، ولو كانت واجبة لأنكر عليهما، ولأنها لو كانت واجبة لكانت شرطاً لها كالجمعة؛ ولنا قوله – تعالى -: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة … الآية} ولو لم تكن واجبة لرخص فيها حالة الخوف، ولم يجز الإخلال بواجبات الصلاة من أجلها، وروى أبو هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم – قال: ((والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب ليحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم))15 متفق عليه، وفيه ما يدل على أنه أراد الجماعة لأنه لو أراد الجمعة لما هم بالتخلف عنها، وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – رجل أعمى فقال: يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأله أن يرخص له أن يصلي في بيته، فرخص له، فلما ولى دعاه فقال: أتسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم قال: فأجب))16, وإذا لم يرخص للأعمى الذي لا قائد له فغيره أولى، قال ابن المنذر: وروينا أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال لابن أم مكتوم – رضي الله عنه -: ((لا أجد لك رخصة)) يعني في التخلف عن الجماعة، وعن أبي الدرداء – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((ما من ثلاثة في قرية أو بلد لا تقام فيه الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة فإن الذئب يأكل القاصية))17، وفي حديث مالك بن الحويرث – رضي الله عنه -: ((إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكما، وليؤمكما أكبركما))، ولمسلم: ((إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم)) أمر وظاهر الأمر الوجوب"18.

خلاصة المسألة:

أن الله جعل الأرض لأمة محمد – صلى الله عليه وسلم – مسجداً وطهوراً، وهذه من خصوصية هذه الأمة، فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل إلا إذا كان المكان نجساً، أو مما ورد النهي عن الصلاة فيه كالمقبرة، والمزبلة، وقارعة الطريق، والمجزرة، وغيرها؛ لعموم الأدلة في ذلك.

والراجح في صلاة الجماعة أنها واجبة للأدلة الواردة في ذلك، ولقوله – تعالى -:{وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً}19، فلم يبيح لهم تركها في ساحة القتال، وكذلك النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يرخص لابن أم مكتوم – رضي الله عنه – في الصلاة في بيته، وإنما أمره بإجابة المؤذن والصلاة في المسجد، ولأن النبي – صلى الله عليه وسلم – داوم عليها.

والله تبارك وتعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


 


1  رواه البخاري (1/128) رقم (328).

2  سورة المائدة (6).

3  مجموع الفتاوى (21/348).

4  رواه مسلم (1/371) رقم (523).

5  رواه البخاري (1/168).

6  سنن الترمذي (1/ 212) وهذا لفظه وقال: حديث حسن صحيح؛ وصححه الألباني في مختصر إرواء الغليل برقم(153).

7 كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في الفقه (21/350).

8  بداية المجتهد (1/221).

9  الأم (1/ 277).

10  سنن أبي داود (1/205) وقال الشيخ الألباني: حسن؛ صحيح الترغيب والترهيب (1/102) برقم (427)، (حسن صحيح).

11  صحيح البخاري (1/231) برقم (619).

12  المهذب (1/176).

13 فقه العبادات – شافعي (1/389).

14  تقدم تخريجه في الصفحة المتقدمة.

15  رواه البخاري (1/231) برقم (618).

16  رواه مسلم (1/452) برقم (255).

17  رواه النسائي (2/106) برقم (847) بلفظ: ((ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية)) قال السائب: يعني بالجماعة الجماعة في الصلاة"، قال الشيخ الألباني: حسن.

18  الشرح الكبير (2/3)؛ الكافي في فقه ابن حنبل (1/287).

19  سورة النساء (102).