هلاك الثمن أو المبيع ونزول الجوائح

هلاك الثمن أو المبيع ونزول الجوا

هلاك الثمن أو المبيع ونزول الجوائح

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين، أما بعد:

ففي هذا اللقاء المبارك نلتقي مع هذا الدرس المهم في الفقه وفي البيوع على وجه الخصوص، حيث يتم تناول موضوع المبيع والثمن ومسألة هلاكهما، وهل وضع الجوائح واجب أم مندوب؟

فنقول: "المبيع والثمن عند جمهور الحنفية من الأسماء المتباينة الواقعة على معانٍ مختلفة.

فالمبيع في الغالب: ما يتعين بالتعيين، والثمن في الغالب: ما لا يتعين بالتعيين.

وهذا الأصل العام الغالب يحتمل تغيره في الحالتين بعارض من العوارض، فيصير ما لا يحتمل التعيين مبيعاً كالمسلم فيه، وما يحتمل التعيين ثمناً كرأس مال السلم، إذا كان عيناً من الأعيان.

وعلى هذا فاعتبار الثمن ديناً في الذمة هو الأغلب، وذلك عندما يكون الثمن نقوداً أو أموالاً أخرى مثلية ملتزمة بلا تعيين بالذات كالقمح والزيت ونحوهما من كل مكيل أو موزون أو ذَرْعي أو عددي متقارب.

ويمكن أيضاً أن يكون الثمن أعياناً قيمية كالحيوان والثياب ونحوهما، كما لو بيعت كمية من السكر إلى أجل بشيء من القيميات، فالسكر مبيع والعين القيمية ثمن، ويكون البيع سلماً؛ لأنه بيع مؤجل بمعجل.

وقال الشافعي وزفر: المبيع والثمن من الأسماء المترادفة الواقعة على مسمى واحد، وإنما يتميز أحدهما عن الآخر في الأحكام بحرف الباء".1

 أحكام المبيع والثمن:

 يترتب على التمييز بين المبيع والثمن نتائج نوجز ذكرها فيما يلي:

1- يشترط لانعقاد البيع أن يكون المبيع مالاً متقوماً ولا يشترط ذلك في الثمن.

2- يشترط لنفاذ البيع أن يكون المبيع موجوداً في ملك البائع ولا يشترط ذلك في الثمن.

3- لا يجوز تأجيل الثمن في بيع السلم، ويؤجل المبيع.

4- مؤونة تسليم الثمن أي "كلفته" على المشتري، ومؤونة تسليم المبيع على البائع.

5- البيع مع عدم تسمية الثمن فاسد، أما مع عدم تسمية المبيع نحو: بعتك بعشرة دنانير، فباطل غير منعقد.

6- هلاك المبيع بعد التقابض يمنع إقالة البيع، ولا يمنع ذلك هلاك الثمن.

7- هلاك المبيع قبل التسليم مبطل للبيع، ولا يبطله هلاك الثمن.

8- لا يجوز تصرف المشتري في المبيع المنقول قبل قبضه، ويصح تصرف البائع في الثمن قبل قبضه.

9- على المشتري تسليم الثمن أولاً ليحق له استلام المبيع، ما لم يرض البائع.

الجوائح:

وفيما لو أصابت المبيع أو الثمن جائحة فهلك، فللعلماء في ذلك مذاهب وأقوال:

فإذا هلك المبيع كله قبل القبض:

 1- فإذا هلك بآفة سماوية أو بفعل المبيع نفسه، أو بفعل البائع، فينفسخ عقد البيع.

 2- إذا هلك بفعل المشتري، فلا ينفسخ البيع وعليه الثمن.

 3- إذا هلك بفعل أجنبي، لا ينفسخ البيع، ويكون المشتري بالخيار: إن شاء فسخ البيع، وإن شاء أمضاه ودفع الثمن، وطالب الأجنبي بالضمان.

 ب- إذا هلك المبيع كله بعد القبض:

1- إن كان بآفة سماوية أو بفعل المشتري أو بفعل المبيع أو بفعل أجنبي فلا ينفسخ البيع، ويكون هلاكه على ضمان المشتري؛ لأن المبيع خرج عن ضمان البائع بقبض المشتري، فتقرر الثمن عليه، ويرجع بالضمان على الأجنبي حال كون الاعتداء منه.

 2- إذا هلك بفعل البائع فينظر في حالتين:

 أولاً- إذا كان المشتري قد قبضه بإذن البائع أو بدون إذنه، لكنه قد نقد الثمن، أو كان الثمن مؤجلاً، فيكون هلاكه من قبل البائع، كهلاكه من قبل الأجنبي، فعليه ضمانه.

 ثانياً- أما إذا كان المشتري قد قبض المبيع بدون إذن البائع، والثمن حالّ غير منقود "أي غير معطى إلى البائع" فيتوجب فسخ البيع، ويكون البائع باعتدائه مسترداً للمبيع، وعليه ضمانه.

وقال المالكية: الضمان ينتقل إلى المشتري بنفس العقد في كل بيع إلا في خمسة مواضع:

 الأول: بيع الغائب على الصفة.

 الثاني: ما بيع على الخيار.

 الثالث: ما بيع من الثمار قبل كمال طيبها.

 الرابع: ما فيه حق توفية من كيل أو وزن أو عدّ.

 الخامس: البيع الفاسد.2

فالضمان في هذه الخمسة من البائع حتى يقبضه المشتري.

 وقال الشافعية: كل مبيع من ضمان البائع حتى يقبضه المشتري.

وقال الحنابلة: إذا كان المبيع مكيلاً أو موزوناً أو معدوداً فتلف قبل قبضه، فهو من مال البائع، وما عداه فلا يحتاج فيه إلى قبض، وإن تلف فهو من مال المشتري.

ج- إذا هلك بعض المبيع قبل القبض ينظر عند الحنفية:

1- فإن كان بآفة سماوية ففيه تفصيل: إن كان النقصان نقصان قدر بأن كان مكيلاً أو موزوناً أو معدوداً، فهلك بعضه: ينفسخ العقد بقدر الهالك، وتسقط حصته من الثمن، ثم يكون المشتري بالخيار في الباقي لتفرق الصفقة عليه: إن شاء أخذه بحصته، وإن شاء فسخ البيع.

 وإن كان النقصان نقصان وصف "وهو كل ما يدخل في البيع من غير تسمية كالشجر والبناء في الأرض والجودة في المكيل والموزون" فلا ينفسخ البيع أصلاً، ولا يسقط عن المشتري شيء من الثمن؛ لأن الأوصاف لا حصة لها من الثمن، ويكون المشتري بالخيار: إن شاء أخذه بجميع الثمن، وإن شاء تركه لتعيب المبيع.

 2- وإن كان الهلاك بفعل المبيع نفسه كحيوان جرح نفسه، فلا ينفسخ البيع، ولا يسقط شيء من الثمن، والمشتري بالخيار: إن شاء أخذ الباقي بجميع الثمن، وإن شاء فسخ العقد.

 3- وإن كان الهلاك بفعل البائع فيبطل البيع بقدره، ويسقط عن المشتري حصة الهالك من الثمن، سواء أكان النقصان نقصان قدر، أم نقصان وصف؛ لأن الأوصاف لها حصة من الثمن عند ورود الجناية عليها، والمشتري بالخيار في الباقي بحصته من الثمن.

 4- وإن كان الهلاك بفعل المشتري فلا يبطل البيع، ولا يسقط عنه شيء من الثمن؛ لأنه صار قابضاً لكل المبيع بإتلاف بعضه.3

 د- إذا هلك بعض المبيع بعد القبض:

 1- فإن كان الهلاك بآفة سماوية أو بفعل المشتري أو المبيع نفسه أو بفعل أجنبي، فالهلاك على المشتري.

 2- وإن كان بفعل البائع ينظر:

 إذا كان القبض بإذنه، أو كان الثمن منقوداً أو مؤجلاً، فحكمه كالأجنبي.

وإن كان القبض بغير إذنه، والثمن حال غير منقود، ينفسخ البيع في قدر الشيء التالف، ويسقط عن المشتري حصته.4

 هلاك الثمن عند الحنفية:

لهلاك الثمن عند الأحناف حالات: فإذا هلك الثمن في مجلس العقد قبل القبض: فإن كان عيناً مثلياً: لا ينفسخ العقد؛ لأنه يمكن تسليم مثله بخلاف المبيع لأنه عين، وللناس أغراض في الأعيان.

قال السمرقندي -رحمه الله-: "وأما إذا كسد الثمن، بأن كان الثمن فلوسا فكسدت، أو كسد بعض الدراهم الرائجة، وهو كان ثمنا قبل القبض، فعلى قول أبي حنيفة ينفسخ العقد، وجعل الكساد كالهلاك، لان قيام الثمن من حيث المعنى بالرواج.

وعلى قول صاحبي أبي حنيفة5: لا ينفسخ، لكن يخير، إن شاء أخذ قيمته، وإن شاء فسخ وجعلاه كالعيب، ثم اختلفا فيما بينهما، فقال أبو يوسف: يعتبر قيمته يوم العقد؛ لأن الثمن يجب عند العقد، فيضمن قيمته حينئذ.

وقال محمد: تعتبر قيمته في آخر ما ترك الناس المعاملة بذلك؛ لأنه عجز عن التسليم يومئذ."6

"واتفقوا على أنه لو لم تكسد الفلوس، ولكنها رخصت قيمتها، أو غلت، لا ينفسخ البيع؛ لأن الرخص أو الغلاء لا يوجب بطلان الثمنية".7

ويتلخص من ذلك:

أن الجائحة، هي الآفة التي تصيب الزروع أو الثمار فتهلكها دون أن يكون لآدمي صنع فيها.

وللجوائح حكم يختص بها: فإذا بيعت الثمرة بعد ظهور صلاحها وسلمها البائع للمشتري بالتخلية ثم تلفت بالجائحة قبل أوان الجذاذ، فهي من ضمان البائع وليس على المشتري أن يدفع ثمنها؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمر بوضع الجوائح.

وفي لفظ قال: (لو بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ من ثمنه شيئاً، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟).8

وهذا الحكم في حالة ما إذا لم يبعها البائع مع أصلها أو لم يبعها لمالك أصلها أو يؤخر المشتري أخذها عن عادته، ففي هذه الحالات تكون من ضمان المشتري.

فإن لم يكن التلف بسبب الجائحة بل كان من عمل الآدمي، فللمشتري الخيار بين الفسخ والرجوع بالثمن على البائع وبين الإمساك ومطالبة المتلف بالقيمة.

وقد ذهب إلى هذا أحمد بن حنبل وأبو عبيد وجماعة من أصحاب الحديث.

ورجحه ابن القيم قال في تهذيب سنن أبي داود: وذهب جمهور العلماء إلى أن الأمر بوضع الجوائح أمر ندب واستحباب، عن طريق المعروف والإحسان، لا على سبيل الوجوب والإلزام.

وقال مالك بوضع الثلث فصاعداً، ولا يوضع فيما هو أقل من الثلث.

 قال أصحابه: ومعنى هذا الكلام أن الجائحة إذا كانت دون الثلث كان من مال المشتري، وما كان أكثر من الثلث فهو من مال البائع.

واستدل من تأول الحديث على معنى الندب والاستحباب دون الإيجاب: بأنه أمر حدث بعد استقرار ملك المشتري عليها، فلو أراد أن يبيعها أو يهبها لصح ذلك منه فيها.

وقد نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، عن ربح ما لم يضمن.

فإذا صح بيعها ثبت أنها من ضمانه.

وقد نهى رسول الله، -صلى الله عليه وسلم-، عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها.

فلو كانت الجائحة بعد بدو الصلاح من مال البائع لم يكن لهذا النهي فائدة.9

هذا ملخص في باب هلاك الثمن والمبيع ونزول الجوائح.

أسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى العمل بما يرضيه، والحمد لله رب العالمين.


 


1 الفقه الإسلامي وأدلته: د / وهبة الزحيلي-دار الفكر المعاصر-ط4 1425هـ-2004م، (5/3370) بتصرف.

2 القوانين الفقهية: ص: (247).

3 بدائع الصنائع شرح تحفة الفقهاء للكاسانى: ط1- (5/239-241).

4 الفقه الإسلامي وأدلته: (5/3376-3379).

5 وهما: محمد بن الحسن وأبو يوسف.

6 تحفة الفقهاء: لعلاء الدين السمرقندي (2/40).

7 الفقه الإسلامي وأدلته: (5/3380).

8 رواه مسلم برقم: (1554).

9 فقه السنة للسيد سابق: دار الفكر: ط1-1418هـ-1997م: (3/111).