لماذا يتعسر الحفظ؟

لماذا يتعسر الحفظ؟

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين .. أما بعد:

كثيراً ما تنطلق الشكاوى ممن أراد حفظ كتاب الله – تعالى – (وبخاصة أهل حلقات القرآن الكريم)، فهذا يقول: كنت في بداية مشواري جيداً في الحفظ، والآن تتعسر الصفحة بل الآية إن طالت قليلاً، وآخرٌ يقول: كلما هممّت بحفظ شيء من القرآن أجد كأن شيئاً يصدني عن ذلك، فتمر الأيام، وتنقضي الشهور بل الأعوام وأنا لم أستطع تحقيق شيء من أحلامي في هذا الباب، وثالثٌ قد ملَّ معاتبة أستاذه له في الحلقة بسبب ضعف حفظه أو عدمه، حتى أنه كثيراً ما يغيب عن الحلقة، وكثيرا ً ما يختلق المعاذير، أو يجعل ما ليس بسببٍ سبباً للغياب؛ مع إمكان تفاديه، وكل ذلك بسبب أنه لم يستطع أن يحفظ، أو لم يستطع أن يتم المقطع الذي قرر عليه.

وهذه المشاهد لا تكاد تخلو منها حلقات تحفيظ القرآن؛ مما يجعل الحديث عن هذا الأمر يزداد يوماً بعد يومٍ، ولا يعني ذلك انعدام الرغبة في الحفظ بين أوساط الشباب الذين يسكن في قلوبهم حب كتاب الله ​​​​​​​ ، لكنهم ما استطاعوا تطبيق ما أرادوه، وتحقيق ما طلبوه.

ومن باب المساهمة ولو بالقليل، والمشاركة في هذا الخصوص؛ كانت هذه السطور لكل من يعاني من هذه المشكلة، أو يعلم من يشتكيها، ويندب حاله فيها ممن منَّ الله عليه، وجعله من معلمي القرآن، ومدرسي حلقات التحفيظ. أولاً: ما هي الأسباب التي يكون فيها الحفظ عسيراً؟

بالنظر إلى حفظ القرآن فإننا نجد أن القرآن  الكريم قد سهل حفظه وقراءته، وتدبره والنظر في معانيه يقول الإمام السعدي – رحمه الله تعالى -: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ 1 أي: ولقد يسرنا وسهلنا هذا القرآن الكريم، ألفاظه للحفظ والأداء، ومعانيه للفهم والعلم؛ لأنه أحسن الكلام لفظاً، وأصدقه معنى، وأبينه تفسيراً، فكل من أقبل عليه؛ يسر الله عليه مطلوبه غاية التيسير، وسهله عليه”2، وما يقع للبعض من تعسير فلأسباب ينصرف بها عن هذا الأصل فلا يتحقق له الحفظ، ومن تلك الأسباب:

1- المعاصي والذنوب يقول الإمام الشافعي – رحمه الله -:

شكوت إلى وكيعٍ سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نــــور ونـور الله لا يُعطى لعاصي

وكم صرفت المعاصي والذنوب أناساً عن حفظ القرآن، وأوقعت القلوب في شراك الشيطان، وصدت النفوس عن طريق الرحمن، وقد ذكر العلامة ابن القيم – رحمه الله – آثاراً للذنوب والمعاصي فقال: “فمنها: حرمان العلم؛ فإن العلم نورٌ يقذفه الله في القلب، والمعصية تطفئ ذلك النور، ولما جلس الإمام الشافعي بين يدي مالك، وقرأ عليه؛ أعجبه ما رأى من وفور فطنته، وتوقد ذكائه، وكمال فهمه، فقال: إني أرى الله قد ألقى على قلبك نوراً فلا تطفئه بظلمة المعصية … ومنها: تعسير أموره عليه، فلا يتوجه لأمرٍ إلا يجده مغلقاً دونه، أو متعسراً عليه، وهذا كما إن من اتقى الله جعل له من أمره يسراً، فمن عطل التقوى جعل الله له من أمره عسراً، ويا لله العجب كيف يجد العبد أبواب الخير والمصالح مسدودة عنه، متعسرة عليه، وهو لا يعلم من أين أُتى؟”3، وقد سأل رجلٌ الإمام مالك بن أنس – رحمه الله -: يا أبا عبد الله هل يصلح لهذا الحفظ شيءٌ؟ قال: “إن كان يصلح له شيءٌ فترك المعاصي”4.

2- الانشغال بأمور الدنيا، وعدم التفرغ لحفظ كتاب الله، فمن أراد الحفظ فلا بد أن يجعل وقتاً مناسباً من يومه، ويكون تاركاً الشغل بالدنيا ظاهراً وباطناً – بقدر المستطاع -، أما من لا يلبث إذا أمسك المصحف أن يسبح في بحار الدنيا، ويخوض عراكها، ويترك العنان لقلبه يسرح في أزقة الحياة؛ فأنى لهذا القلب أن يستوعب ما عليه حفظه، وأنى له أن يعي ما عليه إتقانه قال عبدالله بن مسعود   : “إن هذه القلوب أوعية؛ فاشغلوها بالقرآن، ولا تشغلوها بغيره”5.

3- الاستعجال، فالبعض يريد أن يحفظ القرآن لكن بسرعة فائقة، فإذا ما طالت مدة الحفظ بدأ الملل يدب؛ فإذا به يترك ما بدأ، ويثقل عليه ما أراد، ولو أنه مشى في خطى ثابتة بهدوء وتؤده لحصل ما يريد، أما الاستعجال فلا يورث إلا الحرمان، وقد قيل: “من استعجل الشيء قبل أوانه؛ عوقب بحرمانه”، فليحفظ مريد الحفظ على فترات ومراحل، وليحفظ على حسب جدول معين حتى وإن طالت المدة، فإن الغالب أن ما حفظ بسرعة نُسي بسرعة.

4- ضعف الإرادة، وغياب العزيمة، وهذا أمر خطير، إذ كيف يمضي لرحلة اسمها “حفظ القرآن الكريم” ولم يرد السفر، ولم يعزم على ذلك؟ ولا بد لذلك من همة عالية يقتحم بها طالب المعالي كل الصعوبات التي تواجه، ويتخطى بها كل العوائق التي تعرقل خطاه

همة تنطح الثريا وعزم نبوي يزعزع الأجبالا

همة يستسهل فيها الصعب، ويستلذ في سبيلها المشاق

لأستسلهن الصعب أو أدرك المنى فما انقادت الآمال إلا لصابر

همة يسير بها صاحبها رابط الجأش، ثابت الخطى، قوي الإرادة، صادق العزيمة

فكن رجلاً رجله في الثرى وهامة همته في الثريا

5- عدم الاستعانة بالله ​​​​​​​ ، وأنى لمن ترك الاستعانة بربه أن يعان؟

إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى  فأول ما يجني عليه اجتهاده

وطالب حفظ القرآن إن دعا الله أن ييسر له ذلك؛ أعانه الله، وفتح عليه، وكيف لا يعينه والقرآن كلامه، ومنه نزل؟ كيف لا يعينه وهو القائل: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ 6؟، كيف لا يعينه وهو القائل: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ7؟.

فلا يركن الإنسان إلى قدراته ومهاراته، ولا يعتمد – في ذلك، بل في كل أموره – على نفسه فقط، بل لا بد أن يكون دائم الصلة بالله ​​​​​​​ ، كثير اللجوء إليه في حاجاته، فقد كان من دعاء النبي  : اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت8. هذه بعض أسباب تعسر حفظ كتاب الله ​​​​​​​ ، وربما وجد عند البعض أسباب أخرى؛ فليتقي كلٌ ما يمنعه من الوصول إلى مبتغاه، وعليه بالقرب من الله، ونيل رضا مولاه، نسأل الله ​​​​​​​ أن يجعلنا من أهل الله وخاصته، وصلى الله وسلم على رسول الله محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه.


1 سورة القمر (17).

2 تفسير السعدي (1/825-826).

3 الجواب الكافي (1/34-35).

4 الجامع للخطيب البغدادي (2/258).

5 جامع بيان العلم وفضله (1/66).

6 سورة القمر (17).

7 سورة غافر (60).

8 رواه أبو داود (4426)، وقال الألباني: حسن، انظر الكلم الطيب، ص(117).