الفرج بعد الشدة

الفرج بعد الشدة

الفرج بعد الشدة

 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

فإن الشدائد – مهما تعاظمت وامتدت – لا تدوم على أصحابها، ولا تخلد على مصابها، بل إنها أقوى ما تكون اشتداداً وامتداداً واسوداداً؛ أقرب ما تكون انقشاعاً وانفراجاً وانبلاجاً، عن يسر وملاءة، وفرج وهناءة، وحياة رخيَّة مشرقة وضّاءة، فيأتي العون من الله والإحسان عند ذروة الشدة والامتحان، وهكذا نهاية كل ليل غاسق فجر صادق.

فما هي إلا ساعة ثم تنقضي                  ويحمد غِبَّ السير من هو سائر

وقال آخر:

صحب الناس قبلنا ذا الزمانا                 وعناهم من شأنه ما عنانا

ربما تحسـن الصنـيع لياليه                 ولكن تكدر الإحسانـا

ففى ذروة المدلهمات انفراجاً، وفى قمة الأزمات انبلاجاً، وأكثر ما تكون مكبوتاً حزيناً غارقاً فى النكبة؛ أقرب ما تكون إلى الفتح والسهولة، والخروج من الضنك، فما هي الا أيام فإذا طلائع الإمداد، وكتائب الإسعاد؛ وافَتْكَ على حين يأس، وباشَرَتْكَ على حين غفلة، ساقها لك السميع المجيب.

ومن حكمة الله أن يمحص عباده، وأن يتعبدهم بالشدة كما تعبدهم بالرخاء، وأن يغاير عليهم الأطوار كما غاير عليهم الليل والنهار، فلم إذن التسخط والاعتراض والتذمر: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا}1.

قال بعض العلماء: رأيت امرأة بالبادية وقد جاء البَرَدُ فذهب بزرعها، جاء الناس يعزّونها، فرفعت رأسها إلى السماء وقالت: "اللهم أنت المأمول لأَحسنِ الخلف، وبيدك التعويض مما تلف، فافعل بنا ما أنت أهله، فإنّ أرزاقنا عليك، وآمالنا مصروفة إليك"، قال: فلم أبرح حتى مرّ رجل من الأَجِلَّاء، فحُدِّث بما كان؛ فوهب لها خمسمائة دينار، فأجاب الله دعوتها، وفرَّج في الحين كربتها.

وعن أبي قلابة المحدث قال: ضقت ضيقة شديدة، فأصبحت ذات يوم والمطر يجيء كأفواه القرب، والصبيان يتضوَّرون جوعاً، وما معي حبة واحدة فما فوقها، فبقيت متحيَّراً في أمري، فخرجت، وجلست في دهليزي، وفتحت بابي، وجعلت أفكر في أمري، ونفسي تكاد تخرج غماً لما ألاقيه، وليس يسلك الطريق أحد من شدة المطر، فإذا بامرأة نبيلة على حمـار فاره، وخادم أسود آخذ بلجام الحمار، يخوض في الوحل، فلما صار بإزاء داري سلم وقال: أين منزل أبي قلابة؟ فقلت له: هذا منزله، وأنا هو، فسألتني عن مسألة فأفتيتها فيها، فصادف ذلك ما أحبّت، فأخرجت من خفّها خريطة، فدفعت إليّ منها ثلاثين ديناراً، ثم قالت: "يا أبا قلابة سبحان خالقك، فقد تنوق في قبح وجهك"، وانصرفت.

وأضجع أحد الجزارين كبشاً ليذبحه بالقيروان، فتخبط بين يديه، وأفلت منه وذهب، فقام الجزار يطلبه وجعل يمشي إلى أن دخل إلى خربة، فإذا فيها رجل مذبوح يتشحط في دمه، ففزع وخرج هارباً، وإذا أصحاب الشرطة عندهم خبر القتيل، وجعلوا يطلبون خبر القاتل والمقتول، فأصابوا الجزار، وبيده السكين، وهو ملوَّث بالدم، والرجل مقتول في الخربة، فقبضوه، وحملوه إلى السلطان، فقال له السلطان: أنت قتلت الرجل؟ قال: نعم، فما زالوا يستنطقونه وهو يعترف اعترافاً لا إشكال فيه، فأمر به السلطان ليُقتل، فأُخرج للقتل، واجتمعت الأمم ليبصروا قتله، فلما همُّوا بقتله اندفع رجل من حلقة المجتمعين وقال: يا قوم لا تقتلوه فأنا قاتل القتيل! فقُبض وحُمل إلى السلطان فاعترف وقال: أنا قتلته! فقال السلطان: قد كنت معافى من هذا فما حملك على الاعتراف؟ فقال: رأيت هذا الرجل يُقتل ظلماً فكرهت أن ألقى الله بدم رجلين، فأمرَ به السلطان فقُتل، ثم قال للرجل الأول: يا أيها الرجل ما دعاك إلى الاعتراف بالقتل وأنت بريء؟ فقال الرجل: فما حيلتي، رجل مقتول في الخربة أخذوني وأنا خارج من الخربة، وبيدي سكين ملطخة بالدم، فإن أنكرت فمن يقبلني، وإن اعتذرت فمن يعذرني؟ فخلَّى سبيله، وانصرف مكرَّماً.

وقد أخرج ابن أبي الدنيا في كتابه "مجابي الدعوة"2 عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: "كان رجل من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يكنى أبا معلق، وكان تاجراً يتجر بماله له ولغيره، وكان له نسك وورع (أي له عبادة من صلاة وذكر الله وتقوى وخشية الله)، فخرج مرة، فلقيه لص مقنع في السلاح، فقال: ضع متاعك فإني قاتلك، قال أبو معلق: شأنك بالمال، قال اللص: لست أريد إلا دمك، قال: فذرني أصلي، قال: صل ما بدا لك، فتوضأ ثم صلى، فكان من دعائه: "يا ودود، يا ذا العرش المجيد، يا فعالاً لما يريد، أسألك بعزتك التي لا ترام، وملكك الذي لا يضام، وبنورك الذي ملأ أركان عرشك؛ أن تكفيني شر هذا اللص، يا مغيث أغثني، يا مغيث أغثني، يا مغيث أغثني"، فإذا هو بفارس بيده حربة رافعها بين أذني فرسه، فطعن اللص فقتله، ثم أقبل على التاجر فقال (أي التاجر): "من أنت؟ فقد أعانني الله بك"، قال: "إني ملك من أهل السماء الرابعة، لما دعوت سمعت لأبواب السماء قعقعة، ثم دعوت ثانياً فسمعت لأهل السماء ضجة، ثم دعوت ثالثاً فقيل: دعاء مكروب، فسألت الله أن يوليني قتله"، ثم قال: "أبشر واعلم أنه من توضأ وصلى أربع ركعات ودعا بهذا الدعاء استجيب له، مكروب أو غير مكروب".

وعن الليث بن سعد – رحمه الله تعالى – قال: "بلغني أن زيد بن حارثة – رضي الله عنه – اكترى (أي استأجر) من رجل بغلاً من الطائف، واشترط عليه المُكري أن ينزله حيث شاء، قال: فمال به إلى خربة، فقال له: انزل، فنزل، فإذا في الخربة قتلى كثيرون، قال: فلما أراد أن يقتله قال له زيد: دعني أصلى ركعتين، قال: صل فقد صلى قبلك هؤلاء فلم تنفعهم صلاتهم شيئاً، قال: فلما صليت أتاني ليقتلني، فقلت: "يا أرحم الراحمين"، فسمع صوتاً: "لا تقتله"، فهاب الرجل ذلك فخرج فلم يجد شيئاً، فرجع إلى زيد ليقتله فقال زيد: "يا أرحم الراحمين"، فسمع صوتاً: "لا تقتله"، فهاب الرجل، وخرج ينظر فلم يجد شيئاً، فعاد ليقتل زيداً، فقال: "يا أرحم الراحمين"، فإذا بفارس على فرس في يده حربة حديد، في رأسها شعلة من نار فطعنه بها، فأنفذها من ظهره، فوقع ميتاً، ثم قال لزيد: "لما دعوت المرة الأولى: يا أرحم الراحمين، كنت في السماء السابعة، فلما دعوت المرة الثانية: يا أرحم الراحمين كنت في سماء الدنيا، فلما دعوت في الثالثة: يا أرحم الراحمين، أتيتك".

فانظر إلى الفرج بعد الشدة، و الإخلاص في اللجوء إلى الله، وعدم القنوط من رحمته، فهو مجيب دعاء المضطرين، وكاشف الغم والبلاء والسوء – سبحانه وتعالى -.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.


 


1 سورة النساء (66).

2 مجابي الدعوة (ج1ص 64).