الله ضيعنا لما أضعناه

الله ضيعنا لما أضعناه

الله ضيعنا لما أضعناه

 

الحمد لله عزَّ فقهر، وحكم فقدَّر، وعلاء فأمر، جعل مصير الذين كفروا إلى سقر، والذين اتقوا ربهم في جنات ونهر، نحمده – تعالى – وحمده فرض لازم، ونشكره – عز وجل – على فضله المستمر وإحسانه الدائم، والصلاة والسلام على من كان للأمة ناصحاً، وللحق مصرحاً، وللفتن مفصحاً، أما بعد:

أخي الحبيب:

ثمة سؤال يعتلج في داخلي ونحن نشاهد أحداثاً حلت بالأمة مزرية، وجراحاً آلمت بها مبكية، أين أمة محمد – صلى الله عليه وسلم – أمة الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، أمة المعتصم الذي حرك جيشاً عظيماً قوامه الآلف المؤلفة آخره عنده، وأوله في عمورية غوثاً ونصرة لامرأة مسلمة عفيفة صرخت "وامعتصماه".

أمة:

إذا اشتـكى مسلم في الهندِ أَرّقَنِـي        وإنْ بكى مسلم في الصين أبكاني

ومِصْرُ رَيحانَتِي والشـامُ نَرْجَسَـتي         وفي الجزيرةِ تاريـخي وعُنـواني

وفي العراق أَكُـفّ المَجْدِ تَرْفَعُــني       على كُلّ باغٍ ومـأفونٍ وخَـوّانِ

ويسمعُ اليَمَنُ المحـبوبُ أُغـنيـَتي        فيستـريحُ إلى شَـدْوِي وألحاني

ويسْكـُنُ المسـجدُ الأقصى وقُبّتُـهُ      في حَبّةِ القلبِ أرعـاهُ ويرعـاني

أرى بُخـارى بلادي وهـي نائيـة        وأستـريحُ إلـى ذكرى خُراسانِ

شريـعةُ اللـهِ لَمّتْ شَمْلَـنا وبَنَتْ        لنـا مَعـالِمَ إحســانٍ وإيمانِ

يا كرام:

اليوم كم تعداد هذه الأمة؟

ألم تبلغ المليار وثلاث مئة مليون مسلم، هذا العدد الهائل، والجمع القاتل؛ أما يستطيعون أن يقفوا أمام طغمة من حثالة القرود أبناء اليهود وهم من لا يتجاوز تعدادهم عشرين مليون في أرجاء العالم قاطبة.

أف والله لو وقفوا على جبل من جبال الأقصى، لو بصقوا على بني صهيون لما وجدتهم إلا يستنجدون من ينقذهم من الغرق العميم، وأيم الله لو نفخوا في وجوههم لطاروا في كل فج عميق، وسقطوا في كل واد سحيق.

وهم من الجبن بمكان أخبر الله عن حقيقتهم فقال: {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا}1.

ورغم هذا كله نراهم يحكمون رقابنا، ويقتلون إخواننا، ويهتكون أعراضنا، ويدنسون مقدساتنا، ويعيثون خراباً ودماراً في بلادنا، ولا يستطيع أحد أن يقول لهم: "لا، كفاكم ما نلتم به من حرماتنا".

أخي الحبيب:

ليس هذا فحسب، بل لا تكاد تقع عينك على بقعة من بقاع العالم الإسلامي إلا ووجدت فيها من الأسى والألم، والقتل والتشريد ما يفتت الأكباد، ويدمي الفؤاد، وإلا وشاهدت فيها من مناظر القهر والاضطهاد، والاستبداد والاستعباد؛ ما يجري المدامع، ويقض المضاجع.

يساندهم في ذلك عصابة النفاق وأهل الشقاق أناس من بني جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، وهم ألعن على هذه الأمة من فرعون على مسلمي قومه، وأخطر من الحية على فراخ طيره، تولوا أمر هذه الأمة وهم لا يجيدون غير فن الانبطاح لدول الغرب، ولغة التسليم والتبعية في مسيرة الدرب، همُّ الواحد منهم أن يسلم له عرشه، ويلم قرشه، ويملئ كرشه، ولتذهب الأمة هباء في مهب الريح، ولتعصف بها المحن فمن يستجدي الذبيح، لا لدينهم نصروا، ولا للكفر دحروا، ولا بالشريعة حكموا.

نكالاً على أمتهم، خذلاناً لأهل ملتهم، قامعين لصالحي قبلتهم.

سلماً لأعدائهم، ركعاً لأمرهم، طوعاً لقراراتهم.

وإن شئت فألحق كل نقيصة بهم، فقد أخذوا منها نصيباً، وما سلم منهم تعيساً.

التاريخ المشرق:

أيها المبارك:

إن لهذه الأمة تاريخ من الضياء مشرق، وسجل حافل بالانتصارات مبرق، صاغ أحرفه تلك الشفاه الموحدة، وسطر فصوله تلك الجباه الناصعة، يوم كانت لا إله إلا الله في قلوبهم ولم تكن غيرها، يوم تغلل الإيمان في أعماقهم حتى بلغ من السويداء مبلغاً، يوم عاشوا مع القرآن فمازج أصداء نفوسهم، ومشعل ضمائرهم.

فهذا سيف الله المسلول أبو سليمان خالد بن الوليد – رضي الله عنه -، ذلك القائد المظفر، والأسد الغضنفر، نموذج حي لذلك التاريخ المضيء، يقول له ماهان أحد قادة الروم في معركة "أونسرين": "قد علمنا ما أخرجكم من بلادكم أيها العرب إلا الجوع، فهلموا نعطي كل واحد منكم عشرة دنانير وارجعوا، فإذا كان كل عام بعثنا لكم مثل ذلك، فقال خالد بعزة المؤمن الذي يثق بنصر الله، والذي أرعب الناس بذلك الدين الذي يحمله في قلبه: "لا والذي نفس خالد بيده ما خرجنا لذلك، غير أننا قوم نشرب الدم، وبلغنا أنه لا دم أطيب من دم الروم، فجئنا لذلك، ولن نرجع حتى نشرب من دمائكم" أو كما قال، فألقى الله الرعب في قلوبهم؛ ونصر خالداً عليهم.

هذا البطل الواثب، والسيف الضارب؛ يحاصر ذات مرة بلدة من البلدان الروم قنسرين؛ فتستعصي عليه هذه المدينة، فيكتب رسالة لقائدها من قلب صادق تخرج الكلمات منه صواعق وقذائف، يقول لذلك القائد الرومي – وهو قائد بلدة قنسرين -: "من خالد بن الوليد إلى قائد الروم في بلدة قنسرين، أما بعد: فأين تذهبون منا، والله لو صعدتم إلى السماء لأصعدنا الله إليكم، أو لأمطركم علينا"، فما كان من ذلك الرجل إلا أن رعب وفزع، وألقى الله الرعب في قلبه، فقال: اخرجوا، وافتحوا أبواب المدينة لا طاقة لنا بهؤلاء.

هذه المواقف ضمنها التاريخ بين دفتي كتابه؛ لتبقى نبراساً نستلهم منه العزة يوم فقدناها، وما عدنا نعرف منها إلا تاريخها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فما بال هذا التاريخ اليوم يتوارى عن الأنظار ويختفي، ويغيب عن الواقع وبالإشارة يحتفي، ويسبل الدمع أسفى على ذلك العهد العاطر النقي.

مأساة الحاضر:

قرأت بعينك كيف عاش ذلك الجيل العزة، وطرقوا بوابة المجد، وسرقوا حلم النصر من أعدائهم، وكيف طوقنا الذل في زماننا، وصرنا أمة لا تعرف إلا النوح، ولا تجيد إلا البكاء والبوح، أمة لم تزل في مراعي الزمن، دب فيها الوهن، مزقتها المحن، شردتها الفتن.

أخيَّ: لا بد أن ندرك جيداً أننا من رسمنا فصول هذه المأساة

قلي بربك عن أسباب محنتنا        فربما مجدنا الماضي أعدنـاه

فأطرق الشيخ حيناً ثم عاوده       حنينه فارتوى بالدمع عيناه

تاريخنا مشرق يهدي مواعظه       هلا على عجل يوماً قرأناه

وقـال قولة حق لا نظير لها        "الله ضيـعنا لما أضعـناه"

يوم سلمنا زمام الأمور لغير أهله، يوم ضيعنا ديننا وحكَّمنا غير شريعة رب السماء، يوم صارت الدنيا أكبر همنا، وغاية رغبتنا.

فيا عبد الله:

إن صلاح الأمة وقوامها في العودة الصادقة لدينها، وتحكيمها شريعة خالقها، ونهلها من كتاب ربها المعين الصافي، والمرهم الشافي، وأما بغير هذا فليس إلا تمكيناً لأعداء الدين على رقابنا، واستحواذاً لهم على خيرات بلادنا، ونكالاً نلحقه بإخواننا، فمتى تفيق الأمة من سباتها، وتبحث عن أسباب عزتها، وسرّ نهضتها، وفخر قادتها.

نسأل الله أن يرد المسلمين إلى دينهم مرداً جميلاً، وأن يقرَّ أعيننا بنصر من عنده آجلاً غير عاجل، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله وسلم وبارك على النبي والنذير البشير.


 


1 سورة الحشر (14).