فلا يقربن مصلانا
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
فإن الإسلام قد عني بالنظافة العامة كنظافة البدن والثوب، ونظافة المكان والجسم، وأولى الأماكن بالنظافة هي المساجد بيوت الله – تعالى -، فأوجب أن تصان المساجد عن كل أذى وقذر، وأن تجنب كل رائحة كريهة.
لكن وللأسف فإن من الأخطاء التي يقع فيها كثير من الناس تهاونهم بالعناية بنظافة المساجد، رغم أن تعهد المسجد والمحافظة على أثاثه ونظافته لا يقتصر على شخص بعينه، ولكن كل مسلم مطالب بنظافة المسجد كنظافة بيته، بل أشد، لأن المساجد هي أماكن يشع فيها نور النبوة، ويلتئم فيها صف الأمة الإسلاميه، منزهة عن كل لغو ودنس، ومحفوظة من كل ضرر، ملكها بين المسلمين مشاع، وحقها عليهم المحبة والإكرام، وعمارتها بصالح الأعمال {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ} التوبة:18، والمساجد من أحب البلاد إلى الله، وأشرفها منزلة، من أحبَّها لأجل الله كان حبه لها دين وعبادة، وربح وزيادة، ومن تعلّق قلبه بها أظله الله تحت عرشه يوم القيامة، صيانتها عن الأدناس قربة، وتنظيفها طاعة، وتطييبها عبادة، ولذلك نهى النبي – عليه الصلاة والسلام – عن الإتيان للمسجد لمن أكل الثوم والبصل والكراث.
ولقد جاء ذلك في كثير من الأدلة التي تظهر كراهة ذلك، وذكر العلماء أنه يُكْرَهُ أَكْلُ الْبَصَلِ، وَالثُّومِ وَالْكُرَّاثِ، وَالْفُجْلِ، وَكُلِّ ذِي رَائِحَةٍ كَرِيهَةٍ؛ مِنْ أَجْلِ رَائِحَتِهِ، سَوَاءٌ أَرَادَ دُخُولَ الْمَسْجِدِ أَوْ لَمْ يُرِدْ؛ لأنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: ((إنَّ الْمَلائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ النَّاسُ))1 رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَإِنْ أَكَلَهُ لَمْ يَقْرَبْ مِنْ الْمَسْجِدِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((مَنْ أَكَلَ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلانَا))2، وَفِي رِوَايَةٍ: ((فَلا يَقْرَبْنَا فِي مَسَاجِدِنَا))3، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَلَيْسَ أَكْلُهَا مُحَرَّمًا؛ لِمَا رَوَى أَبُو أَيُّوبَ أَنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بَعَثَ إلَيْهِ بِطَعَامٍ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فِيهِ الثُّومُ)، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَرَامٌ هُوَ؟ قَالَ: (لا، وَلَكِنَّنِي أَكْرَهُهُ مِنْ أَجْلِ رِيحِهِ)4 قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
قال الإمام البغوي – رحمه الله تعالى -: عد بعض أهل العلم أكل الثوم من الأعذار التي تبيح التخلف عن الجماعة كالمطر ونحوه، وليس كذلك، بل إنما أمره باعتزال المسجد زجراً له عن تناوله حالة يحتاج فيها إلى حضور المسجد 5، وقالت الحنابلة: ومن تغير رائحة فمه بأكل الثوم أو البصل ونحوه فلا يقرب المسجد6، كره لمن أكل ثوماً أو بصلاً أو كراثا أوغيرها مما له رائحة كريهة، وبقيت رائحة؛ أن يدخل المسجد من غير ضرورة، وقالت الحنفية: يكره ذلك تحريماً،وقالت المالكية: يحرم ذلك7، ومثله جزار له رائحة منتنة، ونحوه من كل ذي رائحة منتنة، لأن العلة الأذى، وكذلك من به برص أو جذام يتأذى به قياسا على أكل الثوم ونحوه بجامع الأذى.8
فإن أكله لم يقرب المسجد لقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((من أكل من هاتين الشجرتين فلا يقربن مصلانا) وفي رواية :((فلا يقربنا في مساجدنا)) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، وليس أكلها محرماً لما روى أبو أيوب – رضي الله عنه -: ((أن النبي – صلى الله عليه وسلم – بعث إليه بطعام))9.
وَيُكْرَهُ حُضُورُ الْمَسْجِدِ لِمَنْ أَكَلَ ثُوماً أَوْ بَصَلاً أَوْ فُجْلاً وَنَحْوَهُ حَتَّى يَذْهَبَ رِيحُهُ – وَلَوْ خَلا الْمَسْجِدُ مِنْ آدَمِيٍّ – لَتَأَذَّى الْمَلائِكَةُ بِرِيحِهِ، وَلِحَدِيثِ: ((مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَانَا))10، وقال ابن حزم – رحمه الله تعالى -: "مسألة: والثوم, والبصل, والكراث؛ حلال إلا أن من أكل منها شيئاً فحرام عليه أن يدخل المسجد حتى تذهب الرائحة، وقد ذكرناه في كتاب الصلاة فأغنى عن إعادته، وله الجلوس في الأسواق, والجماعات، والأعراس وحيث شاء، إلا المساجد لأن النص لم يأت إلا فيها".11
وَالْمُرَادُ حُضُورُ الْجَمَاعَة حَتَّى وَلَوْ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ، أَوْ غَيْرِ صَلاةٍ، ويُكْرَهُ حُضُورُ مَسْجِدٍ وَجَمَاعَةٍ مُطْلَقًا لِمَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلاً نِيئَيْنِ، أَوْ فُجْلاً وَنَحْوَهُ كَكُرَّاثٍ حَتَّى يَذْهَبَ رِيحُهُ، لِمَا فِيهِ مِنْ الإِيذَاءِ، وَيُسْتَحَبُّ إخْرَاجُهُ، وَكَذَا جَزَّارٌ لَهُ رَائِحَةٌ مُنْتِنَةٌ، وَمَنْ لَهُ صُنَانٌ وَزِيَاتٌ وَنَحْوُهُ مِنْ كُلِّ ذِي رَائِحَةٍ مُنْتِنَةٍ؛ لأَنَّ الْعِلَّةَ الأَذَى.
وَكَذَا مَنْ بِهِ بَرَصٌ جُذَامٌ يُتَأَذَّى بِهِ قِيَاساً عَلَى أَكْلِ الثُّومِ وَنَحْوِهِ بِجَامِعِ الْأَذَى، وَيَأْتِي فِي التَّعْزِيرِ مَنْعُ الْجَذْمَى مِنْ مُخَالَطَةِ الأَصِحَّاءِ 12، ويلحق بذلك الدخان لما له من رائحة كريه، ويكره أن يصلي الجماعة حتى يغتسل أو تزول الرائحة، وقد قال بذلك العلامة ابن باز – رحمه الله تعالى -: "وكل ما له رائحة كريهة حكمه حكم الثوم والبصل كشارب الدخان، ومن له رائحة في إبطه، أو غيرهما مما يؤذي جليسه، فإنه يكره له أن يصلي مع الجماعة، وينهى عن ذلك حتى يستعمل ما يزيل هذه الرائحة، ويجب عليه أن يفعل ذلك مع الاستطاعة حتى يؤدي ما أوجب الله عليه من الصلاة في الجماعة13.
والراجح والله أعلم: أنه يكره لمن أكل الثوم والبصل والكراث أن يأتي إلى المسجد إلا بعد أن تزول منه هذه الرائحة الكريهة، ويلحق بذلك كل ما له رائحة مؤذيه كالدخان والتبغ وغيرها قياساً على الثوم والبصل، لأن العلة في النهي الأذى، وهذا ما رجحه العلامة ابن باز – رحمه الله – كما تقدم.
مسألة: هل أكل الثوم والبصل وما يقاس عليه يعتبر عذراً في التخلف عن الجماعة؟
إذا أكل الإنسان من هذه الشجرة الخبيثة فيكره له الحضور في المسجد، ولا إثم عليه إذا كان لعذر، ولا يتخذ ذلك عادة، أما إذا أكل لقصد أن يكون له عذر عن التخلف عن صلاة الجماعة فهو آثم، وعلى المسلم أن يتحرى الأوقات التي يأكل فيها الثوم والبصل حتى لا يتعارض ذلك مع وقت ذهابه للمسجد، أو يستعمل المواد المزيلة لرائحة الثوم كغسل الأسنان والفم بمعجون الأسنان.
وهناك حديث عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ((من أكل بصلاً أو ثوماً أو كراثاً فلا يقربن مساجدنا ثلاثة أيام، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم))14، وما في معناه من الأحاديث الصحيحة يدل على كراهة حضور المسلم لصلاة الجماعة ما دامت الرائحة توجد منه ظاهرة تؤذي من حوله؛ سواء كان ذلك من أجل الثوم أو البصل أو الكراث أو غيرها من الأشياء المكروهة الرائحة كالدخان؛ حتى تذهب الرائحة، والبعض يحدده بثلاثة أيام، والله تعالى أعلم بالصواب.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
1 سنن الترمذي (4/261) رقم (1806)، قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح، قال الشيخ الألباني: صحيح؛ صحيح ابن حبان (5/40)، رقم (2086)، قال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.
2 صحيح البخاري (1/292)؛ مسند أبي يعلى (7/271) رقم (4291)، قال حسين سليم أسد: إسناده ضعيف جداً.
3 سنن الترمذي (4/261) رقم (1806)، قال الشيخ الألباني: صحيح، صحيح ابن خزيمة (3/82) رقم (1661) بلفظ: ((من أكل من هذه الشجرة فلا يقربن المساجد)).
4 صحيح مسلم (3/1623) رقم (2053)؛ وسنن الترمذي (4/261) رقم (1806).
5 شرح السنة للإمام البغوي (2/135).
6 انظر المستوعب (1/150) للإمام نصير الدين محمد بن عبدالله السامري، تحقيق :عبد الملك بن عبدالله.
7 انظر الفقه الإسلامي د. وهبة الزحيلي (1/548).
8 المصدر السابق (2/1190).
9 الشرح الكبير لابن قدامة (11/115).
10 مسند أحمد بن حنبل (2/429) برقم (9540) وقال شعيب الأرناؤوط: صحيح وهذا إسناد حسن.
11 المحلى للإمام ابن حزم ص120.
12 كشاف القناع عن متن الإقناع (ج4/ص16).
13 تحفة الإخوان بأجوبة مهمة تتعلق بأركان الإسلام (ج1/ص122).
14 أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب نهي من أكل ثوماً أو بصلاً أو كراثاً أو نحوها عن حضور المسجد برقم 876.