الذكر الجماعي عقب الصلوات
الحمد لله وكفى، والصلاة على النبي المصطفى، وعلى آله وصحبه أئمة الهدى، أما بعد:
فمن المعلوم أن الذكر من أفضل العبادات، وبه النصوص تضافرت، وعليه دلت، وهو مأمور به شرعاً كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا1 فالمسلم مطالب بذكر الله – تعالى – في كل وقت بقلبه، ولسانه، وجوارحه، وهذا الذكر من أعظم مظاهر وبراهين التعلق بالله – تعالى -، ولاسيما أذكار ما بعد الصلاة، وطرفي النهار، والأذكار عند العوارض والأسباب، فإن الذكر عبادة ترفع درجات صاحبها عند الله، وينال بها الأجر العظيم دون مشقة، أو تعب وجهد.
لكن ينبغي للمسلم أن يكون في ذكره لله – تعالى – ملتزماً بحدود الشريعة ونصوصها، وهدي المصطفى ﷺ، وصحابته، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وذلك لأن الاتباع شرط لصحة العمل وقبوله عند الله – تعالى – كما قال ﷺ: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد2 أي باطل مردود على صاحبه.
ومما هو معلوم أن العبادات – ومنها الذكر – كلها توقيفية أي: لا مجال فيها للاجتهاد، بل لا بد من لزوم سنة النبي ﷺ وشريعته فيها؛ لأنها شرع من عند الله – تعالى -، فلا يجوز التقرب إلى الله بتشريع شيء لم يشرعه الله – تعالى – وإلا كان هذا اعتداءً على حق الله – تعالى – في التشريع، ومنازعة لله – تعالى – في حكمه، وقد قال – تعالى -: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ3 قال السعدي في تفسير هذه الآية: شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ “من الشرك والبدع، وتحريم ما أحل الله، وتحليل ما حرم الله، ونحو ذلك مما اقتضته أهواؤهم، مع أن الدين لا يكون إلا ما شرعه الله – تعالى – ليدين به العباد، ويتقربوا به إليه.
فالأصل: الحجر على كل أحد أن يشرع شيئاً ما جاء عن الله، ولا عن رسوله …”4، فلا ينبغي بل ولا يجوز التقرب إلى الله – تعالى – إلا بما شرع، وبما بيَّن على لسان رسوله ﷺ ، ومن هنا كان لازماً على المسلم أن يلزم السنة في كل عباداته، وألا يحيد عنها قيد أنملة، وإلا أحبط عمله وأبطله إذا كان مخالفاً لهدي المصطفى ﷺ في العمل.
وما نحن بصدده هو بيان عدم مشروعية ما يفعله كثير من الناس من الذكر الجماعي عقب الصلوات المكتوبة، ولأن هذا الفعل قد كثر وشاع بين الناس في كثير من بلدان المسلمين، فقد جاء هذا البحث لبيان حكم الشريعة في مثل هذا الفعل، وهنا لا بد أن نفرق بين مسألتين:
– مسألة الجهر بالذكر عقب الصلاة.
– مسألة الإتيان بالذكر على هيئة جماعية.
فالأولى جائزة إذا انضبط الجهر بالضوابط الشرعية قال الأذرعي: “حمل الشافعي أحاديث الجهر على من يريد التعليم”5.
والثانية وهي مسألة الذكر الجماعي فنقول: ما المراد بالذكر الجماعي؟
الذكر الجماعي هو ما ينطق به الذاكرون المجتمعون بصوت واحد يوافق بعضهم بعضاً، وقد جعله الشاطبي إذا – التزم -؛ بدعة إضافية تجتنب قال: “إذا ندب الشرع إلى ذكر الله فالتزم قوم الاجتماع عليه على لسان واحد، وصوت واحد؛ لم يكن في ندب الشرع ما يدل على هذا التخصيص الملتزم، فهم منها بلا شك أنها سنة إن لم تفهم منها الفرضية، فإذا لم يتناولها الدليل المستدل به صارت من هذه الجهة بدعاً محدثة”6
فالاستغفار عقب الصلاة، والإتيان بالأوراد الواردة أو غيرها بصوت واحد مرتفع؛ مما أحدث في طريقة إيراد الأذكار دبر الصلوات، فلا يبعد القول ببدعيته، بل نص على ذلك يقول الشقيري: “والاستغفار جماعة على صوت واحد بعد التسليم من الصلاة بدعة، والسنة استغفار كل واحد في نفسه ثلاثاً، وقولهم بعد الاستغفار: يا أرحم الراحمين – جماعةً – بدعة، وليس هذا محل هذا الذكر”7.
وقال الشيخ صالح الفوزان: “البدع التي أحدثت في مجال العبادات في هذا الزمان كثيرة؛ لأن الأصل في العبادات التوقيف، فلا يشرع شيء منها إلا بدليل، وما لم يدل عليه دليل فهو بدعة، ثم ذكر بعض البدع وقال: “ومنها الذكر الجماعي بعد الصلاة؛ لأن المشروع أن كل شخص يقول الذكر الوارد منفرداً”8.
حجج القول بالمنع:
أولاً: أن الذكر الجماعي عقب الصلوات لم يأمر به النبي ﷺ، ولا حث الناس عليه، فلو شرعه النبي ﷺ لأمر به، ورغب فيه الناس، ولشاع ذلك عنه ﷺ بينهم مع قيام المقتضى، بل الذي ثبت أنه كان يستقبل أصحابه فيذكر الله، ويعلمهم عقب الخروج من الصلاة دون هذه الهيئة.
ثانياً: فعل السلف من أصحاب النبي ﷺ ، والتابعين لهم بإحسان، فإنهم كانوا أرغب للخير، ولو كان هذا الصنيع خيراً لسبقونا إليه.
ثالثاً: أن في هذا الذكر بصوت واحد تشبهاً بالنصارى الذين يجتمعون في كنائسهم لأداء التراتيل والأناشيد الدينية بصوت واحد، ومعلوم كثرة النصوص الشرعية التي وردت في النهي عن التشبه بأهل الكتاب، والأمر بمخالفتهم.
رابعاً: ورود مفاسد عديدة تقطع بعدم جوازه لاسيما وأنها تربو على ما له من منافع زعمها المجيزون له، فمن هذه المفاسد:
– التشويش على المصلين والتالين للقرآن مع ورود النهي عن هذا التشويش، ومنها على سبيل المثال قولـه ﷺ : ألا إن كلكم مناج ربه فلا يؤذين بعضكم بعضاً، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة9.
– الخروج عن السمت والوقار الذين يجب على المسلم المحافظة عليهما.
– أن اعتياد الذكر الجماعي قد يدفع بعض الجهال والعامة إلى الانقطاع عن ذكر الله إذا لم يجدوا من يجتمع معهم لترديد الذكر جماعة كما اعتادوا.
– أنه قد يحصل من بعض الذاكرين أحياناً تقطيع الآيات حتى يتمكن قصار النَفَس من الترديد مع طوال النَفَس.
فهذه أظهر أدلة المانعين من الذكر الجماعي10، نسأل الله أن يقينا المحدثات والبدع، ويصرف عنا شر شرٍ سطع، وأن يسلك بنا طريقته التي ارتضاها، ويوفقنا لهدي نبيه ﷺ الذي اجتباه.
1 الأحزاب (41- 24).
2 رواه البخاري برقم (2499) ومسلم (3242).
3 الشورى (21).
4 تفسير السعدي (6-609).
5 إصلاح المساجد (111).
6 الاعتصام للشاطبي 1-200، وانظر ابن عابدين 5-255.
7 السنن والمبتدعات (60).
8 الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد (389).
9 رواه أبو داود برقم (1135).
10 ** ملاحظة: اللجنة ترى أن اشتراك مجموعة في الأذكار المأثورة أو الأدعية الواردة أو قراءة القرآن بصوت واحد جائز بشرط عدم التشويش على المصلين أو غيرهم مما هم فيه من عمل مشروع، ولاسيما إذا كانت هذه الطريقة تساعد على النشاط، وتعليم غير المتعلم، وبشرط ألا تعتقد هذه الكيفية.