آداب المساجد عند الإمام مالك

 

 

 

 

آداب المساجد عند الإمام مالك

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد:

تكلم العلماء في آداب المساجد كثيراً؛ كل ذلك لترسيخ مكانتها وتعظيمها بين المسلمين، فيمنعون ما يذهب هيبتها، ويحذرون مما ينقص قدرها، ونحن اليوم لن نأخذ كل ما قال العلماء في هذا الباب – وذلك لكثرته، وصعوبة حصره -؛ لكن سنقف عند قول إمام عظيم من جهابذة علماء الإسلام إنه الإمام مالك بن أنس – رحمه الله تعالى – إمام دار الهجرة، وسنأخذ أقواله من كتاب واحد هو “كتاب الحوادث والبدع” للإمام أبي بكر محمد بن الوليد الطرطوشي، وهو الذي بلغ مكانة عالية، وصار من أقطاب الفقه المالكي في عصره، وأصبح ملجأ الناس في الفتوى يلوذون به حتى لا تضل بهم السبل، ثقة منهم في علمه ودينه وأمانته، وسنكتفي بنقله لأقوال الإمام مالك بدون تتبع؛ لكونه صاحب يدٍ طولى في المذهب.

يقول الإمام الطرطوشي – رحمه الله تعالى -: “قال – تعالى -: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}1.

دلت الآية على أن المساجد إنما رفعت لأعمال الآخرة؛ دون حرث الدنيا واكتسابها، ولقد كره مالك التابوت2 الذي جعل في المسجد للصدقات، ورآه من حرث الدنيا، وسئل مالك عن الأكل في المسجد فقال: “أما الشيء الخفيف؛ مثل: السويق ويسير الطعام؛ فأرجو أن يكون خفيفاً، ولو خرج إلى باب المسجد؛ كان أعجب إلي، وأما الكثير فلا يعجبني، ولا في رحابه”.

وقال: “وأكره أن يبني مسجداً، ويتخذ فوقه مسكناً يسكن فيه بأهله، ولا يقلم أظافره في المسجد، ولا يقص من شاربه، وإن أخذه في ثوبه”، قال: “ولا أحب أن يتمضمض في المسجد، وليخرج؛ ليفعل ذلك”.

وسئل مالك عن الرجل يتخذ في المسجد فراشاً يجلس عليه، أو وسادةً يتكئ عليها؟ قال:”ليس ذلك من عمل الناس، ولا أحبه”.

وسئل مالك عن الرجل في رمضان يكون في المسجد فيـأتيه الطعام؟ فقال: “أما الشيء الخفيف؛ مثل: السويق والطعام اليسير؛ فأرجو أن يكون خفيفاً؛، وأما الطعام؛ مثل اللحم والألوان؛ فلا يعجبني”، فقيل: له فرحاب المسجد؟ قال: “رحاب المسجد من المسجد”.

قال أشهب: “وسئل مالك عن قوم يفطرون في رمضان على الكعك والتمر المنزوع نواه والزبيب؟ قال: ما يعجبني، كيف يصنعون بأذاه وبالمضمضة؟ قيل: يؤتى به في منديلٍ وليس به أذى، ويخرجون من المسجد فيتمضمضون، قال: إذا كان هذا؛ فأرجو أن يكون خفيفاً”.

وكره مالك قتل القمل ودفنها في المسجد، ولا يطرحها من ثوبه في المسجد، ولا يقتلها بين النعلين في المسجد، قال مالك: “لا أرى أن يبصق على حصير المسجد ويدلكه برجله، ولا بأس أن يبصق تحت الحصير، وإن كان الحصير محصباً؛ فلا بأس أن يحفر الحصباء ويبصق فيه ويدفنه”، قال ابن قاسم: “إن لم يكن المسجد محصباً لا يقدر على دفن البصاق فيه؛فلا يبصق فيه”.

وسئل مالك عن السؤَّال الذين يسألون في المساجد، ويلحون في المسألة؟ قال: “أرى أن ينهوا عن ذلك”.

وروى مالك: “أن عطاء بن يسار كان إذا مر عليه من يبيع في المساجد؛ دعاه، فسأله: ما معك؟ وما تريد؟ فإن أخبره أنه يريد بيع ما عنده؛ قال: عليك بسوق الدنيا، فإنما هذه سوق الآخرة”3.

وهذا مما يلفت الانتباه إلى تعظيم العلماء لبيوت الله – تعالى -، وأنها ذات حرمةٍ، وأنها لا بد من تنزيهها من كل ما يذهب هيبتها، وينقص قدرها.

والحمد لله رب العالمين



1 سورة النور(36-37).

2 “هو صندوق يحرز فيه المتاع، وليس مقصوراً على صندوق الأموات؛ كما هو شائع اليوم” تعليق علي عبد الحميد على الكتاب ص (114) حاشية(1).

3 مقتبس من كتاب البدع والحوادث للإمام الطرطوشي ص (113-118) بتصرف.