البركـة المفقودة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
أيها الأحبة: إننا نسمع الكثير يتحدث بأسى عن ضياع البركة وقلتها، وإذا تحدث الآباء والأجداد فإنهم يخبرونا كيف كانت البركة في كل شيء في الأعمار والأبدان والأموال على الرغم من قلة تلك الأموال وكيف هي اليوم قد ضاعت أو محقت، فهم لا يرون ما كانوا يرون.
إن المسلم يطمع أن يزاد في وقته1، وعمره، وماله، وأبنائه، وجميع محبوباته، ويدعو الله عز وجل أن يبارك له فيها، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بالبركة في أمور كثيرة.
والبركة هي: ثبوت الخير الإلهي في الشيء؛ فإنها إذا حلت في قليل كثرته، وإذا حلت في كثير نفع، ومن أعظم ثمار البركة في الأمور كلها استعمالها في طاعة الله عز وجل.
ومن تأمل في حال الصالحين والأخيار من العلماء، وطلبة العلم، والعباد يجد البركة ظاهرة في أحوالهم. فتجد الرجل منهم دخله المادي في مستوى الآخرين لكن الله بارك في ماله ؛ فهو مستقر الحال لا يطلبه الدائنون، ولا يثقله قدوم الزائرين، والآخر: بارك الله في ابنة وحيدة تخدمه وتقوم بأمره، وأنجبت له أحفادا هم قرة عين له، والثالث: تجد وقته معمورا بطاعة الله ونفع الناس وكأن ساعات يومه أطول من ساعات وأيام الناس العادية! وتأمل في حال الآخرين ممن لا أثر للبركة لديهم، فهذا يملك الملايين، لكنها تشقيه بالكد والتعب في النهار، وبالسهر والحساب وطول التفكير في الليل،والآخر له من الولد عشرة لكنهم في صف واحد أعداء لوالدهم والعياذ بالله، لا يرى منهم براً، ولا يسمع منهم إلا شراً، ولا يجد من أعينهم إلا سؤالاً واحداً. متى نرتاح منك؟.
وأما البركة في العلم فجلية واضحة، فالبعض زكى ما لديه من العلم – وهو قليل – فنفع الله به مدرساً، أو داعية، أو موظفاً، أو غير ذلك، وضدهم من لديه علم كثير لكن لا أثر لنفع الناس منه. و البركة إذا أنزلها الله عز وجل تعم كل شيء: في المال، والولد، والوقت، والعمل، والإنتاج، والزوجة، والعلم، والدعوة، والدابة، والدار، والعقل، والجوارح، والصديق ولهذا كان البحث عن البركة مهما وضرورياً. فكيف نستجلب البركة؟
أولاً: تقوى الله عز وجل: فهي مفتاح كل خير، قال تعالى:وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ الأعراف:96، وقال تعالى:وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِب ُالطلاق:3،2، أي من جهة لا تخطر على باله. وعرف العلماء التقوى: بأن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله.
قيل لأحد الصالحين: إن الأسعار قد ارتفعت. قال: انزلوها بالتقوى. وقد قيل: ما احتاج تقي قط. وقيل لرجل من الفقهاء:وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِب ُالطلاق:3،2، فقال الفقيه: والله، إنه ليجعل لنا المخرج، وما بلغنا من التقوى ما هو أهله، وإنه ليرزقنا وما اتقيناه، وإنا لنرجو الثالثة:وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً الطلاق:5 .
ثانياً: قراءة القرآن: فإنه كتاب مبارك وهو شفاء لأسقام القلوب ودواء لأمراض الأبدان: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ص:29 والأعمال الصالحة مجلبة للخير والبركة.
ثالثاً: الدعاء: فقد كان النبي يطلب البركة في أمور كثيرة، فقد علمنا أن ندعو للمتزوج فنقول:بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير رواه أبو داود برقم 2130 وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم 1866، وكذلك الدعاء لمن أطعمنا:اللهم بارك لهم فيما رزقتهم، واغفر لهم، وارحمهم رواه مسلم برقم2042.
رابعاً: عدم الشح والشره في أخذ المال: قال صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام رضي الله عنه: يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، كالذي يأكل ولا يشبع رواه البخاري 1361.
خامساً: الصدق في المعاملة من بيع وشراء قال صلى الله عليه وسلم:البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما رواه البخاري برقم1973
سادساً: إنجاز الأعمال في أول النهار؛ التماساً لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، فقد دعا عليه الصلاة والسلام بالبركة في ذلك: فعن صخر الغامدي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:اللهم بارك لأمتي في بكورها رواه أحمد وقال الشيخ الألباني:( صحيح) انظر حديث رقم:1300 في صحيح الجامع
قال بعض السلف: عجبت لمن يصلي الصبح بعد طلوع الشمس كيف يرزق؟!
سابعاً: اتباع السنة في كل الأمور: فإنها لا تأتي إلا بخير. ومن الأحاديث في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:البركة تنزل وسط الطعام فكلوا من حافتيه، ولا تأكلوا من وسطه رواه الترمذي برقم1805، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم2123.
وأمر صلى الله عليه وسلم بلعق الأصابع والصحفة، وقال:إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة رواه مسلم برقم 2034 .
ثامناً: حسن التوكل على الله عز وجل:قال تعالى:وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه ُالطلاق:3وقال:لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً أخرجه ابن ماجة برقم 4164 ، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه برقم 3359.
تاسعاً: استخارة المولى عز وجل في الأمور كلها، والتفويض والقبول بأن ما يختاره الله عز وجل لعبده خير مما يختاره العبد لنفسه في الدنيا والآخرة، وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم الاستخارة:إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم فإن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني، ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري أو قال عاجله، وآجله فاقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني، ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال عاجله، وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني به أخرجه البخاري برقم 1109
عاشراً: ترك سؤال الناس؛ قال صلى الله عليه وسلم:من نزل به حاجة فأنزلها بالناس كان قمناً أن لا تسهل حاجته، ومن أنزلها بالله تعالى أتاه الله برزق عاجل أو بموت آجلرواه أحمد برقم 3696 وقال شعيب الأرنؤوط : إسناده حسن على خطأ في اسم أحد رواته وهو سيار أبو الحكم صوابه سيار أبو حمزة.
الحادي عشر: الإنفاق والصدقة؛ فإنها مجلبة للرزق كما قال تعالى: وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ سبأ:39
وفي الحديث القدسي: قال الله تبارك وتعالى:يا ابن آدم أنفق، أُنفق عليك رواه مسلم برقم 993.
الثاني عشر: البعد عن المال الحرام بشتى أشكاله وصوره: فإنه لا بركة فيه ولا بقاء والآيات في ذلك كثيرة منها قوله تعالى:يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ البقرة:276، وغيرها كثير.
الثالث عشر: الشكر والحمد لله على عطائه ونعمه؛ قال تعالى:وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ آل عمران:144، وقال تعالى: لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ إبراهيم:7 .
الرابع عشر: أداء الصلاة المفروضة؛ قال تعالى:وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى طه:132 .
الخامس عشر: المداومة على الاستغفار؛ لقوله تعالى:فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً نوح:10-12 .
اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا واجعله عوناً على طاعتك، وصلى الله وسلم على نبينا وآله وصحبه أجمعين.
1 – هذه الكلمة مستفادة من مقال بعنوان: البركة لعبد الملك القاسم بتصرف.